تنبأ امبرتو ايكو بمستقبل شبكات التواصل الاجتماعي منذ زمان؛ ففي إحدى مقالاته، وفي العديد من تصريحاته، أوضح كاتب "اسم الوردة" أنه سينتهي بنا المطاف إلى نقاشات المقاهي يوم الإثنين حيث الجميع يعلق على مباريات يوم الأحد. العالم العنكبوتي أصبح مجالا لكل من هب ودب لكي يدلي بدلوه في كل المواضيع وبدون استثناء، وبالطبع كثير من التعليقات لا يخلو من شتم وتسفيه لكل رأي مخالف. في الواقع الظاهرة أصبحت عالمية، بل هناك كثير من المختصين في مجال الإعلام الذين يعتبرون أن التطرف وخطابات الحقد المستشرية في كل مكان حاليا سببهما الاستعمال الممنهج لأدوات تواصلية مدروسة تهدف إلى الاستفزاز وخلق ردود الفعل. بل هناك من يشك حتى في وجود أشخاص حقيقيين وراء بعض التعليقات. خلال الأيام الأخيرة، وبعد الإعلان عن زيارة بابا الفاتيكان إلى المغرب في أواخر شهر مارس القادم، لاحظت أن العديد من تعليقات بعض المغاربة بشبكات التواصل الاجتماعي تتميز بعنف لا مثيل له تجاه الحبر الأعظم، ومن بعده لكل المنتسبين للديانة المسيحية. هؤلاء يكرسون مفاهيم عتيقة لم تخرج بعد من متاهات أزمنة بائدة. لهؤلاء وجب شرح بعض الأمور لعلهم يفكرون قليلا قبل أن يزل "الكلافييه" تحت وقع كلماتهم غير المسؤولة: - الوضع في أوروبا تشنج بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة. كراهية المسلمين أصبحت خبزا يوميا تقتات منه أحزاب سياسية وجدت ضالتها في خطاب حاقد ضد الإسلام والمهاجرين. هذا البابا هو الرجل العاقل الوحيد الذي ما زال يردد أنه يجب عدم الخلط بين دين عظيم مثل الإسلام وبعض مظاهره المريضة التي يجسدها متشددون إرهابيون. - هذا الموقف المتفتح تجاه الإسلام جعل من بابا الفاتيكان عرضة لهجوم شرس من طرف كرادلة يرون في كلماته الداعية إلى الحوار مع الآخر تنازلا لا يليق بالديانة المسيحية (الدين الحق بالنسبة لهم). بل هناك من الاكليروس المسيحي من دعا إلى تكفيره وإخراجه من ملة عيسى بصفة نهائية. - عدد كبير من المؤمنين المسيحيين يرتابون من كل خطوة يقوم بها البابا فرانسيس تجاه المسلمين، بل هناك من يشتمه لأنه "باع" عقيدتهم لأتباع محمد. ومع ذلك ما زال الرجل مستمرا في دعوته إلى فتح أبواب الحوار على مصراعيه. - لقد انتقد بابا الفاتيكان الحروب الصليبية في أكثر من مناسبة، كما كرر أكثر من مرة أن الديانات لا يمكنها أن تكون مطية للمهووسين بالقتل وسفك الدماء. وبالتالي، فإن هجماته المتوالية على تجار الأسلحة وممونيها جلبت له من المتاعب ما يكفي أمام لوبيات قوية لا تهمها المجازر التي تسببها بقدر ما تهمها الأموال الطائلة التي تجنيها من وراء إشعال فتيل الحروب في كل مكان. - هذا البابا لم يدع أحدا إلى تغيير دينه أو الدخول إلى المسيحية، بل أكد وباستمرار ضرورة ترك نقاط الاختلاف المرتبطة بالقضايا العقائدية جانبا وتوطيد ما يجمعنا إنسانيا، أي البحث عن كلمة سواء بين المسلمين والمسيحيين. هذا كل ما في الأمر. أعرف أن ما أكتبه هنا يدخل في باب "لمن كاتعاود زابورك اداود". فأصحاب الأفكار المسبقة والتصورات المؤامرتية وأولئك الذين يملكون "الحقيقة المطلقة" لا يمكنهم أن يفهموا أن ما يقولونه يحسب عليهم ولا ينتقص من قيمة زعيم روحي يدعو إلى ما يدعو إليه السيد المسيح الذي نكن له كل الاحترام كمسلمين. ومن البديهي أيضا أنهم لن يستوعبوا أبدا أن كلامهم هو غذاء يحتاجه المتطرفون المسيحيون (وهم موجودون وحاضرون بقوة على الانترنت) لكي يؤكدوا لأنفسهم ثم لأتباعهم أن الإسلام هو دين كراهية وحقد وإرهاب. هؤلاء المتطرفون الذين يتكلمون باسم الاسلام هم في نهاية الأمر أكبر حليف لكل المتشددين الدينيين ولأولئك العنصريين الذين وصلوا إلى دفة الحكم في أوروبا وفي أمريكا. لهؤلاء الذين يعشقون الحديث عن المؤامرات التي تحاك ضد المسلمين آن لهم أن يفهموا أنه، بتصرفاتهم الرعناء وكلامهم اللامسؤول، إذا كانت من مؤامرة فهم جزء منها، بل هم أبطالها الحقيقيون، بوعي أو بدونه. وهذه هي الطامة الحقيقية وليس زيارة البابا إلى بلد أغلب قاطنيه أناس طيبون معروفون عالميا بحسن الضيافة. *إعلامي مغربي بإيطاليا