روسيا تحذر أميركا من "صب الزيت على النار" في أوكرانيا    دوري أبطال أفريقيا للسيدات.. الجيش الملكي يلاقي المسار المصري وعينه على العبور للنهائي    من حزب إداري إلى حزب متغول    أسعار اللحوم تتراجع في الأسواق مع وصول أولى الشحنات المستوردة    مقاييس الأمطار المسجلة بالمملكة خلال ال 24 ساعة الماضية    ولي العهد السعودي يهنئ الملك بمناسبة عيد الاستقلال    الصيادلة يدعون لتوحيد الجهود ومواجهة التحديات الراهنة        الركراكي: الصبر والمثابرة أعطيا ثمارهما وتسجيل 26 هدفا لم يكن بالأمر السهل    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    محطة جديدة متنقلة لتعزيز تزويد ساكنة برشيد بالماء الشروب السلطات المحلية لبرشيد و الشركة الجهوية متعددة الخدمات الدار البيضاء-سطات تدشن مشروع مهم في ظل تحديات الإجهاد المائي    يوعابد ل"برلمان.كوم": منخفض جوي متمركز بالمحيط الأطلسي غرب جزر الكناري وراء الأمطار التي تشهدها بلادنا    وزارة الداخلية تخصص 104 مليارات سنتيم لإحداث 130 مكتبًا لحفظ الصحة    جهة طنجة تشارك في منتدى للتعاون المتوسطي في مجال الطاقة والمناخ بمرسيليا    حاتم عمور يصدر كليب «بسيكولوغ»    أربع جهات مغربية تفوز بجائزة "سانوفي" للبحث الطبي 2024    اتهمتهم بمعاداة السامية.. عمدة أمستردام تعتذر عن تصريحات تمييزية بحق مسلمي هولندا    المقاو-مة الفلسطينية: تصحيح المعادلات وكسر المستحيلات    عودة يوسف المريني لتدريب هلال الناظور بعد 20 عاما من الغياب    الشرطة توقف ناقل "حبوب مهلوسة"    نزاع حول أرض ينتهي بجريمة قتل    موسكو: كييف تفقد 900 ألف عسكري    اليونسكو تدرس ملف "تسجيل الحناء"    في تأبين السينوغرافيا    الشاعرة الروائية الكندية آن مايكلز تظفر بجائزة "جيلر"    تراجع أسعار النفط بعد استئناف العمل في حقل ضخم بالنرويج    ما هي الطريقة الصحيحة لاستعمال "بخاخ الأنف" بنجاعة؟    فريق بحث علمي يربط "اضطراب التوحد" بتلوث الهواء    افتراءات ‬وزير سابق ‬على ‬المغرب ‬وفرنسا ‬وإسبانيا ‬وأمريكا ‬في ‬قضية ‬الصحراء    شيتاشن يفوز بنصف ماراثون ازيلال للمرة الثانية تواليا    ماذا سيتفيد المغرب من مليوني ونصف وثيقة تاريخية؟    مقتل 5 أشخاص في غارة إسرائيلية على بيروت وحزب الله ولبنان يقبلان اقتراحا أمريكيا لوقف إطلاق النار    صحتك ناقشوها.. إضطراب النوم / الميلاتونين (فيديو)    ارتفاع حصيلة ضحايا فيضانات فالنسيا بإسبانيا إلى 227 قتيلاً ومفقودين في عداد الغائبين    إندرايف تغير مشهد النقل الذكي في المغرب: 30% من سائقيها كانوا يعملون بسيارات الأجرة    ميناء الداخلة الأطلسي: مشروع استراتيجي يحقق تقدمًا بنسبة 27%    مجموعة صناعية دنماركية كبرى تفتح مكتباً في الداخلة لتطوير مشاريع الطاقات المتجددة في الصحراء المغربية    توقيع اتفاقية شراكة بين جمعية جهات المغرب وICLEI Africa    مجموعة ال20 تعلن وقوفها خلف قرار وقف إطلاق النار في غزة    يحدث هذا في فرنسا … !    حادثة سير مميتة بتارودانت تخلف أربعة قتلى    الصناعة الرياضية: من الملاعب إلى التنمية    نشرة إنذارية: زخات رعدية ورياح عاصفية في عدد من أقاليم المملكة    عرض الفليم المغربي "راضية" لمخرجته خولة بنعمر في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي    جبهة مناهضة التطبيع تتضامن مع ناشط متابع على خلفية احتجاجات ضد سفينة إسرائيلية    شركة سوفيرين برو بارتنر جروب في قطر تعلن عن انضمام مدير عام جديد إلى فريقها، لقيادة مسيرة التوسع وتعزيز التعاون الاستراتيجي، في خطوة طموحة تنسجم مع رؤية قطر الوطنية 2030    جمعية الإمارات لطب وجراحة الصدر تضيء برج خليفة في حملة توعوية لمكافحة مرض الانسداد الرئوي المزمن    زنيبر: الاضطرابات الناجمة عن كوفيد-19 زادت من تفاقم الآثار "المدمرة بالفعل" للفساد    العراقي محمد السالم يعود لجمهوره المغربي بحفل كبير في مراكش    هند السداسي تُعلن طلاقها بخطوة جريئة وغير مسبوقة!    خبراء يحذرون من "مسدس التدليك"    شبيبة الأندية السينمائية تعقد دورتها التكوينية في طنجة    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كيلة: الصهيونية مشروع إمبريالي .. والمواطنة تنهي الاقتتال الطائفي
نشر في هسبريس يوم 30 - 01 - 2019

جرى هذا الحوار مع المفكر الفلسطيني سلامة كيلة (4 يوليوز 1955 - 2 أكتوبر 2018) قبل عشر سنوات على هامش زيارته للمغرب للمساهمة في ندوة دولية، لكن ظروف قاهرة حالت دون نشره آنذاك، حيث تطرقنا فيه إلى قضايا متعددة يجدها قارئ "هسبريس" في صلب الحوار.
(2)
شكل مشروع طيب تيزيني محاولة على قدر من التماسك في قراءة التراث استنادا على المنهج المادي التاريخي، وهو ما عالجته في كتابك "المادية والمثالية..نقد فكر ملتبس" لو تذكر القارئ بالخطوط العريضة لهذا النقد، وتقييمك العام للقراءات التي تعتمد هذا المنهج؟
نقدي الأساسي تمثل في نقد المنهج الذي استعمله الدكتور طيب تيزيني في دراسته مشروع الرؤية الجديدة، والذي يحضر في كتبه اللاحقة، وما استطعت أن أصل إليه واستكشفه هو كيفية حضور المادية والمثالية، لأن هذا التحديد ضروري من أجل دراسة التراث حيث إن الدكتور طيب تيزيني توصل إلى نتائج واسعة حول التيار المادي في التاريخ العربي، فحاولت أن أتلمس هل كان هناك تيار مادي بهذه السعة والقوة في التراث العربي الإسلامي. هدفي دراسة المنهجية نفسها، بمعنى كيف يفهم تيزيني المادية، وقد اكتشفت وأنا أدقق في ذلك الكتاب أنه يخلط بين المادية والعقلانية، بمعنى أنه في مواجهة الميل اللاهوتي الميتافزيقي الذي أصبح في ما بعد ميلا أصوليا، كان يعتبر أن العقلانية هي المادية، لهذا اعتبر الفلسفة هي المادية في مواجهة الميتافزيقا أي الدين وكان هذا ظلما للفلسفة وخطأ منهجيا كبيرا في الفلسفة الماركسية، لأن الفلسفة إلى وقت قريب هي فلسفة مثالية بالأساس ولم يكن هناك فرق بين المادية والمثالية كما يحاول أن يصور ذلك الدكتور تيزيني، وبين العقلانية والنصية والميتافزيقا.
وهذا هو الصراع في كل تاريخ الفلسفة منذ اليونان إلى العصر الحديث حينما تبلور الجدل المادي مع ماركس، بل حتى هيغل كان يحل الفكرة محل الله. هذا الصراع بين العقل وقدرته على تفسير الواقع وبين الله الذي يسير الواقع، اذا لا نستطيع إن نقول إن الفلسفة هي مثالية بامتياز، وبالتالي لم يتبلور الاتجاه المادي ألا مع ماركس، بعد أن بدأ مع فيورباخ. هذه الفكرة أوقعت تيزيني في أحكام غير دقيقة لمفكري أو فلاسفة التاريخ العربي الإسلامي. مثلا يعتبر أرسطو ماديا بينما لم يكن أرسطو ماديا على الإطلاق، فهو مؤسس المنطق الصوري الذي هو منطق شكلي يقوم على السكون ورؤية المظهر دون الغوص في العمق، وبالتالي كيف يمكن أن يكون ماديا وهو لا يصل في تحليله إلى فهم كنه المسائل، وابن رشد مثالي لكنه عقلاني.
هذه إشكالية حقيقية حكمت رؤية الطيب تيزيني للتراث، فراح ينتقي من التراث ما يريده. إنه لا يدرس التراث في تاريخيته، انطلاقا من منهجية متماسكة، وهذا ما أردت توضيحه وكان هدفي بالأساس أن أبين عبر نموذج تيزيني أن الوعي الماركسي كان يخلط بين المادية والعقلانية، ولا يميز بين أرسطو وهيغل وماركس، وهو ما ظهر في كتابات إلياس مرقص الذي يعتبر الفلسفة هي الأساس عندما كان يرد على الميل الاقتصادوي في الماركسية، فاعتبر أرسطو أن أرسطو هو مؤسس الفلسفة، وأن ما تلى ذلك تراكم كمي، بمعنى أن هناك توسعا في منطق أرسطو ذاته، ومن ثمة حاولت أن أتلمس المشكلة، أي المنطق القديم، المنطق الصوري الأرسطي، لأننا لم نمر بالمراحل التي مرت بها أوروبا، ليس على صعيد الاقتصاد، بل على صعيد الوعي فلم يتبلور عندنا شك نقدي ولا تبلورت عقلانية، وبالتالي تأسس خليط فكري حافظ على منطق أرسطو، المنطق الصوري، فنقدي هو لاتجاه في فهم الماركسية والذي لم يستطع فهمها.
لكن هناك إسهامات أخرى.
طبعا، هناك إسهام الدكتور حسين مروة الذي انطلق من "الشكل الكلاسيكي" في فهم التاريخ والتراث، الذي مر بالمراحل الخمس: مشاعة، رق، إقطاع، راسمالية، اشتراكية، وفي كل مرحلة هناك بنى اقتصادية ووعي مطابق، فأصبحت المهمة لدى الدكتور مروة هي كيف يلتقط من التراث ما يطابق هذا التصور الذي كان محددا مسبقا في الماركسية السوفياتية حول طبيعة الوعي في المجتمع الإقطاعي، وبالتالي غابت الدراسة التاريخية عن الموضوع، وبالأساس غاب فهم التطور بشكل صحيح، فالمراحل الخمس ليست مراحل حقيقية حتى وإن كان ماركس قال بها في بعض كتاباته. إن إعادة دراسة التاريخ يمكن أن تكشف أشياء أخرى، رغم أهمية تحليلات حسين مروة والقيمة الكبيرة لكتابه.
وهناك آخرون أقل مستوى، مثل محمود إسماعيل في مصر، الذي حاول أن يكرر أو يترجم في الواقع مفاهيم الطيب تيزيني أكثر مما كان يقدم شيئا إيجابيا.
يقول انجلز إن "غياب الملكية الخاصة هو مفتاح الشرق"، كتابك ملكية الأرض في الإسلام هو محاولة لتفسير وجود هذه الملكية، وهو كتاب يشتبك مع طروحات سمير أمين وأحمد صادق سعد، ماذا يميز قراءتك عن القراءات السابقة سواء كانت استشراقية أو عربية؟
إن الهم الذي حكمني عندما كتبت ملكية الأرض في الإسلام" هو من زاوية أخرى. حين ناقشت تيزيني فالماركسية طرحت تصورا للتاريخ والماركسية السوفياتية استندت إلى تصور كان قد أشار إليه ماركس في بعض كتاباته دون أن يدخل في تفاصيله. إن فكرة ماركس حول ارتقاء المجتمعات صحيحة، لكن الشكل الذي اعطي لها كان إشكاليا.
لهذا، حين يطبق على الشرق، يبدو كأننا نصوغ للشرق تاريخا خاصا. أمام هذه المشكلة مال بعض الماركسيين، خصوصا بعد تقرير خروتشوف عام 1956، ومحاولة الانفلات من هيمنة الماركسية السوفياتية، إلى البحث عن نصوص لماركس تساعدهم على فهم الشرق، فتم اكتشاف بعض النصوص التي تتحدث عن نمط الإنتاج الأسيوي، وغياب الملكية الخاصة وهو نمط يتميز بالركود ويقوم على الدولة الاستبدادية.
هذه النظرية حاول قطاع من الماركسيين أن يعممها. ومن هذا المنطلق حاولت أن أبحث في التاريخ العربي الإسلامي حول هذه المسألة، فتساءلت هل كان الإسلام يتنافى مع الملكية الخاصة، وهل كان مجتمعا دون ملكية خاصة. وكان بداية أو جزء من مشروع آخر في ذهني: إعادة صياغة تصور حول ارتقاء المجتمعات البشرية لا يتطابق مع الفهم التقليدي الذي ساد في إطار الماركسية السوفياتية. ومن خلال دراستي للتاريخ الإسلامي ركزت بالأساس على القرآن بصفته الدستور الذي حكم بنية الدولة وبصفته الوعي المعبر عن الفئات التي طرحت مشروع التغيير في الإسلام، للوصول إلى تأسيس امبراطورية عربية إسلامية، كما درست كتب السنة والفقه الإسلامي، وعديدا من الكتب التي جعلتني أتلمس الواقع كما كان في الحقيقة إلى حد ما، لأننا لا نستطيع أن نرى ذاك الواقع مباشرة فنعوض بوثائق قد تساعدنا على فهمه. المهم لم يكن هدفي تأكيد فكرة وجود الملكية في الإسلام لأنه لم يكن لدي تصور مسبق لما أريد.
لو كنت أود أن أدرس أن المسألة تتعلق بان الشرق لم يشهد ملكية خاصة، فسأصل إلى استنتاجات تتنافى مع الماركسية، ليس في فهم ارتقاء المجتمعات البشرية بل في فهم التكوين المجتمعي، لأن ماركس اعتبر أن نشوء الملكية الخاصة هو مفصل في نشوء الطبقات والصراع الطبقي، والماركسية تتأسس على صراع الطبقات، وإذا توصلنا إلى نتيجة أن ليس هناك ملكية خاصة في الإسلام والشرق يفتقد الملكية الخاصة، فسنعيد النظر في مفاصل أساسية في الماركسية.
لقد حاولت أن أفهم الواقع وتوصلت إلى أن الإسلام يقرر الملكية الخاصة، بل يعطيها طابع القداسة لأنها استخلاف من الله، وبالتالي النظام الاقتصادي الاجتماعي الذي تأسس في الإسلام كان قائما في مفاصله على الملكية الخاصة. لقد أثبتت ببعض المراجع التي تؤكد وجود طابع تسجيل لهذه الملكية في دوائر الدولة: أراض وغيرها. وبالتالي لا نستطيع أن نقول إن هناك غياب ملكية خاصة. الماركسية حين تطرح أن للملكية دور مفصلي في نشوء المجتمعات بعد المشاعة، ونشوء الطبقات والدولة هي صحيحة والخاطئ هو بعض النصوص التي حين كتبها لم يكن مطلعا على واقع الشرق، وحينما اطلع في نهاية حياته قبل أن يتوفى بسنوات قليلة غير هذه الرؤية، لأنه اكتشف في الإسلام ملكية خاصة ومقدسة، وهو ما ظهر في بعض ملاحظاته التي نشرت بعد وفاته. على هذا الأساس، حاولت أن أدخل في نقاش مع أفكار طرحت من طرف ماركسيين، منهم سمير أمين الذي يعتقد أنه في كل التاريخ السابق للرأسمالية لم تكن ملكية خاصة، وأيضا أحمد صادق سعد الذي دافع عن نظرية نمط الإنتاج الأسيوي، وماركسيين سابقين كمحمد عمارة، الذي حاول أن يروج لمسألة غياب ملكية الأرض، وغياب الملكية الخاصة في الإسلام،
هكذا بلورت بلورة رؤية للإسلام كنمط إنتاج، وهي جاهزة في كتاب لم أنشره بعد، تتضمن رؤيتي للتكوين المجتمعي في الشرق وعلاقته بأوروبا، انطلاقا من "عالمية" وأنا أضع كلمة عالمية بين مزدوجتين، لأن العالم سابقا لم يكن يشمل كل أوروبا وأطراف من إفريقيا وآسيا، حيث أدافع عن عالمية التطور التاريخي، برؤية تتجاوز المركزية الأوروبية ورؤيتها للتاريخ حيث كانت تعتبر تاريخها هو تاريخ العالم.
منذ 1989 كتبت في نقد الماركسية الرائجة وهو ما تابعته ضمنيا في كتابات أخرى، وصولا سنة 2002 إلى كتاب "أطروحات من أجل ماركسية مناضلة" فما هي الماركسية المطلوبة في الوضع الراهن؟
كان نقد الماركسية الراهنة مركزيا في تفكيري منذ نهاية السبعينيات، وكنت أعتقد أن هناك خطأ أساسيا في وعي الماركسيين، قذف بهم إلى الهامش وجعلهم لا يلعبون الدور الذي لعبه رفاقهم في الصين وفيتنام وغيرهما، توصلت إلى المشكل الأساسي كما أشرت في جواب سابق، أن الجانب السياسي كان مفصليا في الموضوع، بمعنى أن بعض الماركسيين اكتفى بنقد الماركسية من زاوية سياسية، مثلا، إلياس مرقص حاول نقد الماركسية من زاوية "يقول ماركس ولا يقول" وبالتالي دخل في معركة نصوص مع الماركسية الراهنة: نصوص ماركس حول القومية، الطبقات، الاستعمار...وحاول أن يضيف نصوصا لماركس وانجلز تتنافى مع السياسات المتبعة من طرف الأحزاب الشيوعية، فانطلقت من زاوية أخرى، هي زاوية الوعي الذي حكم الماركسيين الذي كنت أعتقد وما زلت أنه وعي تقليدي يقوم على المنطق الصوري قبل أن يقوم حتى على المنطق البورجوازي الحديث، وهو منطق يقوم على مبدأ الهوية عند أرسطو، أي هناك (ا) وليس هناك (ا)، وبالتالي ليست هناك علاقة بينهما، من هذا المنطلق كانوا ينظرون إلى الشكل دون الغوص في الجوهر. هذا ما جعلهم يطرحون مسائل غير واقعية، فنقلوا عن ستالين والماركسية السوفياتية حتمية الانتقال من الإقطاع إلى الاشتراكية، ولأن مجتمعاتنا كانت إقطاعية، بنوا استراتيجتهم على دعم البورجوازية الموجودة لتحقيق مشروعهم، وهو ما كان وهما.
منذ بداية القرن وجد العرب أنفسهم في مواجهة المشروع الصهيوني، إلى أي حد في تقديرك استطاعت الحركة السياسية العربية عموما، والفلسطينية خصوصا، فهم هذا المشروع فهما صحيحا، سواء تعلق الأمر بطبيعة المشروع الصهيوني، أو محدداته، أو علاقة هذا المشروع بالامبريالية؟
يمكن أن نتحدث عن مرحلتين في هذا الموضوع، المرحلة التي بدأت منذ نشوء المشروع الصهيوني كفكرة، حيث كان العديد من المفكرين والكتاب العرب واعين بطبيعة هذا المشروع، وكانوا يطرحون تصورا واضحا له، مثلا، نجيب عزوزي في سنة 1905 في كتابه يقظة الأمة العربية تحدث بوضوح عن هذا الموضوع كمشروع صهيوني استعماري، وأن الصراع هو بين المشروع القومي العربي وبين المشروع الاستعماري الصهيوني. بعد ذلك استمرت هذه الرؤية عند الأحزاب الشيوعية إلى حدود 1948 عندما وافق ستالين على قرار التقسيم، وبقيت سائدة عند الأحزاب الشيوعية إلى نهاية سبعينيات القرن الماضي، وحينما تأسست المقاومة الفلسطينية كانت تحليلاتها تقوم على أن المشروع الصهيوني مشروع امبريالي، وأن الدولة الصهيونية هدفها الأساسي منع تطور العرب ووحدتهم أساسا، فوعد بلفور كان لاحقا لسايكس بيكو وبالتالي لم يكن لنا إلا أن نهزم هذا المشروع أو ننهزم، لكن الأوهام التي نشأت والتي بدأت لدى بعض الماركسيين للأسف ومنهم الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، وقبلها الأحزاب الشيوعية بدأت تروج للسلام والتسوية مع الدولة الصهيونية، لأن موازين القوى لا تسمح بغير دولة فلسطينية في قطاع غزة والأرض المحتلة، والنتيجة الاعتراف بدولة إسرائيل.
هذه الرؤى انتشرت عند اليسار العربي منذ 1974، ومختلف الأحزاب بما فيها الأحزاب القومية، باستثناء بعض القوى الماركسية التي حاولت أن تعيد طرح المسألة في واقعيتها. هذا الوضع هو ما نلمسه الآن فهناك فهم مشوش مشوه لطبيعة المشروع الصهيوني، ولهذا هناك سياسات يومية دون أفق، ودون رؤية، وهو ما يحكم العلاقة بالقضية الفلسطينية وهذه مشكلة كبيرة الآن، لأن هذا أدى إلى تفكك المقاومة الفلسطينية، وانهيار حتى تنظيمات اليسار الفلسطيني وإلى نهوض الأصولية وميلها إلى تحويل الصراع إلى صراع إسلامي يهودي، وهو وضع مؤلم لأنه أعطى فرصة كبيرة للدولة الصهيونية لكي تغير الجغرافيا البشرية لكل فلسطين، وتحيل إمكانية نشوء الدولة الفلسطينية بأي شكل من الأشكال مستحيلة.
لهذا أدعو إلى العودة لرؤية جوهر المشروع الصهيوني بما هو مشروع امبريالي، حيث عملت الرأسماليات على تصدير اليهود الذين كانوا يسببون لها إرباكا، ليكونوا مرتزقة في مشروع يهدف إلى تفكيك المنطقة العربية ودوام تخلفها، لضمان هيمنة الشركات الاحتكارية الامبريالية. وهو ما توضح في الحرب الأخيرة على لبنان (المقصود حرب 2006) لأن الدور الأمريكي في فرض الحرب كان واضحا، وبدا أن إسرائيل تدخل في إطار الاستراتيجية الإسرائيلية للهيمنة على المنطقة العربية، وبالتالي إسرائيل هي جزء من مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي تطرحه الإدارة الأمريكية.
تواجه مجتمعات المشرق العربي مشكل الطائفية الذي يستعمل في الاقتتال الطائفي، ويشكل ركيزة للاستعمار، كما تساهم الطائفية في تحطيم قيم وثقافة اليسار، فهل استطاع الفكر السياسي العربي في نظركم تقديم إجابة نظرية واضحة على المسألة؟ وما هي الأسباب العميقة لبروز الطائفية من جديد؟
أعتقد أن الفكر العربي لم يقدم جوابا شافيا على هذه المسألة إلى الآن، إضافة إلى أن الانهيارات التي حدثت في السنوات الماضية، والإحباط الذي ساد، بغض النظر عن هذه المشكلة، جعل البحث فيها هامشيا، وبالعكس أصبحت بعض الوقائع تمس عديدا من القطاعات وتغذي الطائفية. إن الطائفية هي مشكلة تنوع ديني موجود في الواقع العربي، فهناك أديان ثلاثة في الوطن العربي: اليهودية والمسيحية والإسلام، وهناك في كل دين طوائف وفي الإسلام العديد منها، وهذا وجود تاريخي قائم وكان تعايش في إطاره، لكن منذ محاولة العرب النهوض والتطور في عصر النهضة ومحاولة المفكرين العرب تأسيس الدولة المدنية الحديثة، بدأت مسألة الدين، وكان واضحا بنشوء حركة الإخوان المسلمين في سنة 1928 الذي كان هدفها مواجهة كل اتجاه فكري حديث.
بعد ذلك أصبح الدين والطوائف يستعملان لمسائل خاصة، فإذا نظرنا إلى وضع لبنان الذي شكله الاستعمار الفرنسي على شكل فيدرالية طائفية، أي دولة تقوم على محاصصة طائفية، نجد أن الحرب التي بدأت في سنة 1975 كانت بتشجيع من الرأسمالية "المسيحية" التي كانت ترى أن تحولات الواقع ونمو الميل الديمقراطي وتزايد السكان يخدم مصالح طوائف أخرى، وخصوصا الشيعة، وكانت ترى المد القومي التحرري تهديدا لدورها. ولهذا لجأت إلى اللعب بالمشاعر الطائفية وتأجيج الصراعات الطائفية. طبعا نقدي للمسألة لا يتجه فقط للعب البورجوازيات والامبريالية بها، فما زالت هناك بنى متخلفة في بلادنا، بمعنى عدم انتقالنا من التكوين الزراعي المتخلف والبنى التقليدية والايديولوجيا التقليدية الدينية والقبلية والطائفية والجهوية، إلى مجتمع مدني حديث يبقي مجموعات من المجتمع تعيش وعيا مفوتا، ولهذا كان يمكن استخدامها في هذه الصراعات ببساطة لمصلحة فئات أخرى وليس لمصلحتها. ففي لبنان مثلا، استخدمت قطاعات مسيحية تعيش في ريف نائي معزولة عن المدينة والحضارة ولم تندمج في المجتمع الحديث.
هذه مشكلة حقيقية بحاجة إلى دراسة، مادام ليس هناك مشروع حداثة وتطور، وما دامت القوى البورجوازية المحلية والامبريالية تحاول أن تلعب دور سيطرة وهيمنة، كما يجري في العراق مثلا. التكوين العراقي كان مندمجا إلى حد كبير وكان هناك مستوى ثقافي متقدم، ولكن هناك دائما قوى اجتماعية متخلفة وحين تغيب القوى السياسية التي تحمل مشروع التقدم والتطور تخوض هذه القوى المتخلفة الصراع في إطار وعيها التقليدي المفوت، وهذا ما نلاحظه مع الفئات التي تنضوي تحت الوهابية التي تدعمها السعودية بأموال طائلة والتي تعتبر معركتها الأساسية ضد الشيعة. وفي المنطقة يمكن أن يتوضح أكثر. المسألة هنا هي مسألة تشكيل قوى حديثة لها مشروع سياسي واضح، يستطيع أن يوحد قطاعات شعبية أساسية تلحم القوى والفئات المتخلفة ويمنع استخدامها في إطار مشاريع تفكك وتفتيت توظفها الامبريالية والدولة الصهيونية الآن.
والحل واضح، هو تكريس مبدأ المواطنة التي تجعل الصراعات الطائفية تتراجع، لأن التعامل مع الفرد كمواطن والمساواة بين المواطنين تجعل كل الأطراف على قدم المساواة، وتخرج الدين من السياسة وتجعل الدين عقيدة شخصية يمارسها الفرد بحرية.
من هنا للعودة إلى الجزء الأول


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.