تشييع جنازة الراحل محمد الخلفي إلى مثواه الأخير بمقبرة الشهداء بالبيضاء    "التقدم والاشتراكية" يحذر الحكومة من "الغلاء الفاحش" وتزايد البطالة    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    وقفة أمام البرلمان تحذر من تغلغل الصهاينة في المنظومة الصحية وتطالب بإسقاط التطبيع    الولايات المتحدة تعزز شراكتها العسكرية مع المغرب في صفقة بقيمة 170 مليون دولار!    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    جامعة الفروسية تحتفي بأبرز فرسان وخيول سنة 2024    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    جثمان محمد الخلفي يوارى الثرى بالبيضاء    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    جرسيف .. نجاح كبير للنسخة الرابعة للألعاب الوطنية للمجندين    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    ملتقى النحت والخزف في نسخة أولى بالدار البيضاء    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    دشنه أخنوش قبل سنة.. أكبر مرآب للسيارات في أكادير كلف 9 ملايير سنتيم لا يشتغل ومتروك للإهمال    روسيا تمنع دخول شحنة طماطم مغربية بسبب "أمراض فيروسية خطيرة"    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    اتهامات "بالتحرش باللاعبات".. صن داونز يعلن بدء التحقيق مع مدربه    قضايا المغرب الكبير وأفريقيا: المغرب بين البناء والتقدم.. والجزائر حبيسة سياسات عدائية عقيمة    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    تثمينا لروح اتفاق الصخيرات الذي رعته المملكة قبل تسع سنوات    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    تبييض الأموال في مشاريع عقارية جامدة يستنفر الهيئة الوطنية للمعلومات المالية    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    الأمن في طنجة يواجه خروقات الدراجات النارية بحملات صارمة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    إسرائيل تتهم البابا فرنسيس ب"ازدواجية المعايير" على خلفية انتقاده ضرباتها في غزة    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    الممثل القدير محمد الخلفي في ذمة الله    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    كودار ينتقد تمركز القرار بيد الوزارات    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كيلة: الصهيونية مشروع إمبريالي .. والمواطنة تنهي الاقتتال الطائفي
نشر في هسبريس يوم 30 - 01 - 2019

جرى هذا الحوار مع المفكر الفلسطيني سلامة كيلة (4 يوليوز 1955 - 2 أكتوبر 2018) قبل عشر سنوات على هامش زيارته للمغرب للمساهمة في ندوة دولية، لكن ظروف قاهرة حالت دون نشره آنذاك، حيث تطرقنا فيه إلى قضايا متعددة يجدها قارئ "هسبريس" في صلب الحوار.
(2)
شكل مشروع طيب تيزيني محاولة على قدر من التماسك في قراءة التراث استنادا على المنهج المادي التاريخي، وهو ما عالجته في كتابك "المادية والمثالية..نقد فكر ملتبس" لو تذكر القارئ بالخطوط العريضة لهذا النقد، وتقييمك العام للقراءات التي تعتمد هذا المنهج؟
نقدي الأساسي تمثل في نقد المنهج الذي استعمله الدكتور طيب تيزيني في دراسته مشروع الرؤية الجديدة، والذي يحضر في كتبه اللاحقة، وما استطعت أن أصل إليه واستكشفه هو كيفية حضور المادية والمثالية، لأن هذا التحديد ضروري من أجل دراسة التراث حيث إن الدكتور طيب تيزيني توصل إلى نتائج واسعة حول التيار المادي في التاريخ العربي، فحاولت أن أتلمس هل كان هناك تيار مادي بهذه السعة والقوة في التراث العربي الإسلامي. هدفي دراسة المنهجية نفسها، بمعنى كيف يفهم تيزيني المادية، وقد اكتشفت وأنا أدقق في ذلك الكتاب أنه يخلط بين المادية والعقلانية، بمعنى أنه في مواجهة الميل اللاهوتي الميتافزيقي الذي أصبح في ما بعد ميلا أصوليا، كان يعتبر أن العقلانية هي المادية، لهذا اعتبر الفلسفة هي المادية في مواجهة الميتافزيقا أي الدين وكان هذا ظلما للفلسفة وخطأ منهجيا كبيرا في الفلسفة الماركسية، لأن الفلسفة إلى وقت قريب هي فلسفة مثالية بالأساس ولم يكن هناك فرق بين المادية والمثالية كما يحاول أن يصور ذلك الدكتور تيزيني، وبين العقلانية والنصية والميتافزيقا.
وهذا هو الصراع في كل تاريخ الفلسفة منذ اليونان إلى العصر الحديث حينما تبلور الجدل المادي مع ماركس، بل حتى هيغل كان يحل الفكرة محل الله. هذا الصراع بين العقل وقدرته على تفسير الواقع وبين الله الذي يسير الواقع، اذا لا نستطيع إن نقول إن الفلسفة هي مثالية بامتياز، وبالتالي لم يتبلور الاتجاه المادي ألا مع ماركس، بعد أن بدأ مع فيورباخ. هذه الفكرة أوقعت تيزيني في أحكام غير دقيقة لمفكري أو فلاسفة التاريخ العربي الإسلامي. مثلا يعتبر أرسطو ماديا بينما لم يكن أرسطو ماديا على الإطلاق، فهو مؤسس المنطق الصوري الذي هو منطق شكلي يقوم على السكون ورؤية المظهر دون الغوص في العمق، وبالتالي كيف يمكن أن يكون ماديا وهو لا يصل في تحليله إلى فهم كنه المسائل، وابن رشد مثالي لكنه عقلاني.
هذه إشكالية حقيقية حكمت رؤية الطيب تيزيني للتراث، فراح ينتقي من التراث ما يريده. إنه لا يدرس التراث في تاريخيته، انطلاقا من منهجية متماسكة، وهذا ما أردت توضيحه وكان هدفي بالأساس أن أبين عبر نموذج تيزيني أن الوعي الماركسي كان يخلط بين المادية والعقلانية، ولا يميز بين أرسطو وهيغل وماركس، وهو ما ظهر في كتابات إلياس مرقص الذي يعتبر الفلسفة هي الأساس عندما كان يرد على الميل الاقتصادوي في الماركسية، فاعتبر أرسطو أن أرسطو هو مؤسس الفلسفة، وأن ما تلى ذلك تراكم كمي، بمعنى أن هناك توسعا في منطق أرسطو ذاته، ومن ثمة حاولت أن أتلمس المشكلة، أي المنطق القديم، المنطق الصوري الأرسطي، لأننا لم نمر بالمراحل التي مرت بها أوروبا، ليس على صعيد الاقتصاد، بل على صعيد الوعي فلم يتبلور عندنا شك نقدي ولا تبلورت عقلانية، وبالتالي تأسس خليط فكري حافظ على منطق أرسطو، المنطق الصوري، فنقدي هو لاتجاه في فهم الماركسية والذي لم يستطع فهمها.
لكن هناك إسهامات أخرى.
طبعا، هناك إسهام الدكتور حسين مروة الذي انطلق من "الشكل الكلاسيكي" في فهم التاريخ والتراث، الذي مر بالمراحل الخمس: مشاعة، رق، إقطاع، راسمالية، اشتراكية، وفي كل مرحلة هناك بنى اقتصادية ووعي مطابق، فأصبحت المهمة لدى الدكتور مروة هي كيف يلتقط من التراث ما يطابق هذا التصور الذي كان محددا مسبقا في الماركسية السوفياتية حول طبيعة الوعي في المجتمع الإقطاعي، وبالتالي غابت الدراسة التاريخية عن الموضوع، وبالأساس غاب فهم التطور بشكل صحيح، فالمراحل الخمس ليست مراحل حقيقية حتى وإن كان ماركس قال بها في بعض كتاباته. إن إعادة دراسة التاريخ يمكن أن تكشف أشياء أخرى، رغم أهمية تحليلات حسين مروة والقيمة الكبيرة لكتابه.
وهناك آخرون أقل مستوى، مثل محمود إسماعيل في مصر، الذي حاول أن يكرر أو يترجم في الواقع مفاهيم الطيب تيزيني أكثر مما كان يقدم شيئا إيجابيا.
يقول انجلز إن "غياب الملكية الخاصة هو مفتاح الشرق"، كتابك ملكية الأرض في الإسلام هو محاولة لتفسير وجود هذه الملكية، وهو كتاب يشتبك مع طروحات سمير أمين وأحمد صادق سعد، ماذا يميز قراءتك عن القراءات السابقة سواء كانت استشراقية أو عربية؟
إن الهم الذي حكمني عندما كتبت ملكية الأرض في الإسلام" هو من زاوية أخرى. حين ناقشت تيزيني فالماركسية طرحت تصورا للتاريخ والماركسية السوفياتية استندت إلى تصور كان قد أشار إليه ماركس في بعض كتاباته دون أن يدخل في تفاصيله. إن فكرة ماركس حول ارتقاء المجتمعات صحيحة، لكن الشكل الذي اعطي لها كان إشكاليا.
لهذا، حين يطبق على الشرق، يبدو كأننا نصوغ للشرق تاريخا خاصا. أمام هذه المشكلة مال بعض الماركسيين، خصوصا بعد تقرير خروتشوف عام 1956، ومحاولة الانفلات من هيمنة الماركسية السوفياتية، إلى البحث عن نصوص لماركس تساعدهم على فهم الشرق، فتم اكتشاف بعض النصوص التي تتحدث عن نمط الإنتاج الأسيوي، وغياب الملكية الخاصة وهو نمط يتميز بالركود ويقوم على الدولة الاستبدادية.
هذه النظرية حاول قطاع من الماركسيين أن يعممها. ومن هذا المنطلق حاولت أن أبحث في التاريخ العربي الإسلامي حول هذه المسألة، فتساءلت هل كان الإسلام يتنافى مع الملكية الخاصة، وهل كان مجتمعا دون ملكية خاصة. وكان بداية أو جزء من مشروع آخر في ذهني: إعادة صياغة تصور حول ارتقاء المجتمعات البشرية لا يتطابق مع الفهم التقليدي الذي ساد في إطار الماركسية السوفياتية. ومن خلال دراستي للتاريخ الإسلامي ركزت بالأساس على القرآن بصفته الدستور الذي حكم بنية الدولة وبصفته الوعي المعبر عن الفئات التي طرحت مشروع التغيير في الإسلام، للوصول إلى تأسيس امبراطورية عربية إسلامية، كما درست كتب السنة والفقه الإسلامي، وعديدا من الكتب التي جعلتني أتلمس الواقع كما كان في الحقيقة إلى حد ما، لأننا لا نستطيع أن نرى ذاك الواقع مباشرة فنعوض بوثائق قد تساعدنا على فهمه. المهم لم يكن هدفي تأكيد فكرة وجود الملكية في الإسلام لأنه لم يكن لدي تصور مسبق لما أريد.
لو كنت أود أن أدرس أن المسألة تتعلق بان الشرق لم يشهد ملكية خاصة، فسأصل إلى استنتاجات تتنافى مع الماركسية، ليس في فهم ارتقاء المجتمعات البشرية بل في فهم التكوين المجتمعي، لأن ماركس اعتبر أن نشوء الملكية الخاصة هو مفصل في نشوء الطبقات والصراع الطبقي، والماركسية تتأسس على صراع الطبقات، وإذا توصلنا إلى نتيجة أن ليس هناك ملكية خاصة في الإسلام والشرق يفتقد الملكية الخاصة، فسنعيد النظر في مفاصل أساسية في الماركسية.
لقد حاولت أن أفهم الواقع وتوصلت إلى أن الإسلام يقرر الملكية الخاصة، بل يعطيها طابع القداسة لأنها استخلاف من الله، وبالتالي النظام الاقتصادي الاجتماعي الذي تأسس في الإسلام كان قائما في مفاصله على الملكية الخاصة. لقد أثبتت ببعض المراجع التي تؤكد وجود طابع تسجيل لهذه الملكية في دوائر الدولة: أراض وغيرها. وبالتالي لا نستطيع أن نقول إن هناك غياب ملكية خاصة. الماركسية حين تطرح أن للملكية دور مفصلي في نشوء المجتمعات بعد المشاعة، ونشوء الطبقات والدولة هي صحيحة والخاطئ هو بعض النصوص التي حين كتبها لم يكن مطلعا على واقع الشرق، وحينما اطلع في نهاية حياته قبل أن يتوفى بسنوات قليلة غير هذه الرؤية، لأنه اكتشف في الإسلام ملكية خاصة ومقدسة، وهو ما ظهر في بعض ملاحظاته التي نشرت بعد وفاته. على هذا الأساس، حاولت أن أدخل في نقاش مع أفكار طرحت من طرف ماركسيين، منهم سمير أمين الذي يعتقد أنه في كل التاريخ السابق للرأسمالية لم تكن ملكية خاصة، وأيضا أحمد صادق سعد الذي دافع عن نظرية نمط الإنتاج الأسيوي، وماركسيين سابقين كمحمد عمارة، الذي حاول أن يروج لمسألة غياب ملكية الأرض، وغياب الملكية الخاصة في الإسلام،
هكذا بلورت بلورة رؤية للإسلام كنمط إنتاج، وهي جاهزة في كتاب لم أنشره بعد، تتضمن رؤيتي للتكوين المجتمعي في الشرق وعلاقته بأوروبا، انطلاقا من "عالمية" وأنا أضع كلمة عالمية بين مزدوجتين، لأن العالم سابقا لم يكن يشمل كل أوروبا وأطراف من إفريقيا وآسيا، حيث أدافع عن عالمية التطور التاريخي، برؤية تتجاوز المركزية الأوروبية ورؤيتها للتاريخ حيث كانت تعتبر تاريخها هو تاريخ العالم.
منذ 1989 كتبت في نقد الماركسية الرائجة وهو ما تابعته ضمنيا في كتابات أخرى، وصولا سنة 2002 إلى كتاب "أطروحات من أجل ماركسية مناضلة" فما هي الماركسية المطلوبة في الوضع الراهن؟
كان نقد الماركسية الراهنة مركزيا في تفكيري منذ نهاية السبعينيات، وكنت أعتقد أن هناك خطأ أساسيا في وعي الماركسيين، قذف بهم إلى الهامش وجعلهم لا يلعبون الدور الذي لعبه رفاقهم في الصين وفيتنام وغيرهما، توصلت إلى المشكل الأساسي كما أشرت في جواب سابق، أن الجانب السياسي كان مفصليا في الموضوع، بمعنى أن بعض الماركسيين اكتفى بنقد الماركسية من زاوية سياسية، مثلا، إلياس مرقص حاول نقد الماركسية من زاوية "يقول ماركس ولا يقول" وبالتالي دخل في معركة نصوص مع الماركسية الراهنة: نصوص ماركس حول القومية، الطبقات، الاستعمار...وحاول أن يضيف نصوصا لماركس وانجلز تتنافى مع السياسات المتبعة من طرف الأحزاب الشيوعية، فانطلقت من زاوية أخرى، هي زاوية الوعي الذي حكم الماركسيين الذي كنت أعتقد وما زلت أنه وعي تقليدي يقوم على المنطق الصوري قبل أن يقوم حتى على المنطق البورجوازي الحديث، وهو منطق يقوم على مبدأ الهوية عند أرسطو، أي هناك (ا) وليس هناك (ا)، وبالتالي ليست هناك علاقة بينهما، من هذا المنطلق كانوا ينظرون إلى الشكل دون الغوص في الجوهر. هذا ما جعلهم يطرحون مسائل غير واقعية، فنقلوا عن ستالين والماركسية السوفياتية حتمية الانتقال من الإقطاع إلى الاشتراكية، ولأن مجتمعاتنا كانت إقطاعية، بنوا استراتيجتهم على دعم البورجوازية الموجودة لتحقيق مشروعهم، وهو ما كان وهما.
منذ بداية القرن وجد العرب أنفسهم في مواجهة المشروع الصهيوني، إلى أي حد في تقديرك استطاعت الحركة السياسية العربية عموما، والفلسطينية خصوصا، فهم هذا المشروع فهما صحيحا، سواء تعلق الأمر بطبيعة المشروع الصهيوني، أو محدداته، أو علاقة هذا المشروع بالامبريالية؟
يمكن أن نتحدث عن مرحلتين في هذا الموضوع، المرحلة التي بدأت منذ نشوء المشروع الصهيوني كفكرة، حيث كان العديد من المفكرين والكتاب العرب واعين بطبيعة هذا المشروع، وكانوا يطرحون تصورا واضحا له، مثلا، نجيب عزوزي في سنة 1905 في كتابه يقظة الأمة العربية تحدث بوضوح عن هذا الموضوع كمشروع صهيوني استعماري، وأن الصراع هو بين المشروع القومي العربي وبين المشروع الاستعماري الصهيوني. بعد ذلك استمرت هذه الرؤية عند الأحزاب الشيوعية إلى حدود 1948 عندما وافق ستالين على قرار التقسيم، وبقيت سائدة عند الأحزاب الشيوعية إلى نهاية سبعينيات القرن الماضي، وحينما تأسست المقاومة الفلسطينية كانت تحليلاتها تقوم على أن المشروع الصهيوني مشروع امبريالي، وأن الدولة الصهيونية هدفها الأساسي منع تطور العرب ووحدتهم أساسا، فوعد بلفور كان لاحقا لسايكس بيكو وبالتالي لم يكن لنا إلا أن نهزم هذا المشروع أو ننهزم، لكن الأوهام التي نشأت والتي بدأت لدى بعض الماركسيين للأسف ومنهم الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، وقبلها الأحزاب الشيوعية بدأت تروج للسلام والتسوية مع الدولة الصهيونية، لأن موازين القوى لا تسمح بغير دولة فلسطينية في قطاع غزة والأرض المحتلة، والنتيجة الاعتراف بدولة إسرائيل.
هذه الرؤى انتشرت عند اليسار العربي منذ 1974، ومختلف الأحزاب بما فيها الأحزاب القومية، باستثناء بعض القوى الماركسية التي حاولت أن تعيد طرح المسألة في واقعيتها. هذا الوضع هو ما نلمسه الآن فهناك فهم مشوش مشوه لطبيعة المشروع الصهيوني، ولهذا هناك سياسات يومية دون أفق، ودون رؤية، وهو ما يحكم العلاقة بالقضية الفلسطينية وهذه مشكلة كبيرة الآن، لأن هذا أدى إلى تفكك المقاومة الفلسطينية، وانهيار حتى تنظيمات اليسار الفلسطيني وإلى نهوض الأصولية وميلها إلى تحويل الصراع إلى صراع إسلامي يهودي، وهو وضع مؤلم لأنه أعطى فرصة كبيرة للدولة الصهيونية لكي تغير الجغرافيا البشرية لكل فلسطين، وتحيل إمكانية نشوء الدولة الفلسطينية بأي شكل من الأشكال مستحيلة.
لهذا أدعو إلى العودة لرؤية جوهر المشروع الصهيوني بما هو مشروع امبريالي، حيث عملت الرأسماليات على تصدير اليهود الذين كانوا يسببون لها إرباكا، ليكونوا مرتزقة في مشروع يهدف إلى تفكيك المنطقة العربية ودوام تخلفها، لضمان هيمنة الشركات الاحتكارية الامبريالية. وهو ما توضح في الحرب الأخيرة على لبنان (المقصود حرب 2006) لأن الدور الأمريكي في فرض الحرب كان واضحا، وبدا أن إسرائيل تدخل في إطار الاستراتيجية الإسرائيلية للهيمنة على المنطقة العربية، وبالتالي إسرائيل هي جزء من مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي تطرحه الإدارة الأمريكية.
تواجه مجتمعات المشرق العربي مشكل الطائفية الذي يستعمل في الاقتتال الطائفي، ويشكل ركيزة للاستعمار، كما تساهم الطائفية في تحطيم قيم وثقافة اليسار، فهل استطاع الفكر السياسي العربي في نظركم تقديم إجابة نظرية واضحة على المسألة؟ وما هي الأسباب العميقة لبروز الطائفية من جديد؟
أعتقد أن الفكر العربي لم يقدم جوابا شافيا على هذه المسألة إلى الآن، إضافة إلى أن الانهيارات التي حدثت في السنوات الماضية، والإحباط الذي ساد، بغض النظر عن هذه المشكلة، جعل البحث فيها هامشيا، وبالعكس أصبحت بعض الوقائع تمس عديدا من القطاعات وتغذي الطائفية. إن الطائفية هي مشكلة تنوع ديني موجود في الواقع العربي، فهناك أديان ثلاثة في الوطن العربي: اليهودية والمسيحية والإسلام، وهناك في كل دين طوائف وفي الإسلام العديد منها، وهذا وجود تاريخي قائم وكان تعايش في إطاره، لكن منذ محاولة العرب النهوض والتطور في عصر النهضة ومحاولة المفكرين العرب تأسيس الدولة المدنية الحديثة، بدأت مسألة الدين، وكان واضحا بنشوء حركة الإخوان المسلمين في سنة 1928 الذي كان هدفها مواجهة كل اتجاه فكري حديث.
بعد ذلك أصبح الدين والطوائف يستعملان لمسائل خاصة، فإذا نظرنا إلى وضع لبنان الذي شكله الاستعمار الفرنسي على شكل فيدرالية طائفية، أي دولة تقوم على محاصصة طائفية، نجد أن الحرب التي بدأت في سنة 1975 كانت بتشجيع من الرأسمالية "المسيحية" التي كانت ترى أن تحولات الواقع ونمو الميل الديمقراطي وتزايد السكان يخدم مصالح طوائف أخرى، وخصوصا الشيعة، وكانت ترى المد القومي التحرري تهديدا لدورها. ولهذا لجأت إلى اللعب بالمشاعر الطائفية وتأجيج الصراعات الطائفية. طبعا نقدي للمسألة لا يتجه فقط للعب البورجوازيات والامبريالية بها، فما زالت هناك بنى متخلفة في بلادنا، بمعنى عدم انتقالنا من التكوين الزراعي المتخلف والبنى التقليدية والايديولوجيا التقليدية الدينية والقبلية والطائفية والجهوية، إلى مجتمع مدني حديث يبقي مجموعات من المجتمع تعيش وعيا مفوتا، ولهذا كان يمكن استخدامها في هذه الصراعات ببساطة لمصلحة فئات أخرى وليس لمصلحتها. ففي لبنان مثلا، استخدمت قطاعات مسيحية تعيش في ريف نائي معزولة عن المدينة والحضارة ولم تندمج في المجتمع الحديث.
هذه مشكلة حقيقية بحاجة إلى دراسة، مادام ليس هناك مشروع حداثة وتطور، وما دامت القوى البورجوازية المحلية والامبريالية تحاول أن تلعب دور سيطرة وهيمنة، كما يجري في العراق مثلا. التكوين العراقي كان مندمجا إلى حد كبير وكان هناك مستوى ثقافي متقدم، ولكن هناك دائما قوى اجتماعية متخلفة وحين تغيب القوى السياسية التي تحمل مشروع التقدم والتطور تخوض هذه القوى المتخلفة الصراع في إطار وعيها التقليدي المفوت، وهذا ما نلاحظه مع الفئات التي تنضوي تحت الوهابية التي تدعمها السعودية بأموال طائلة والتي تعتبر معركتها الأساسية ضد الشيعة. وفي المنطقة يمكن أن يتوضح أكثر. المسألة هنا هي مسألة تشكيل قوى حديثة لها مشروع سياسي واضح، يستطيع أن يوحد قطاعات شعبية أساسية تلحم القوى والفئات المتخلفة ويمنع استخدامها في إطار مشاريع تفكك وتفتيت توظفها الامبريالية والدولة الصهيونية الآن.
والحل واضح، هو تكريس مبدأ المواطنة التي تجعل الصراعات الطائفية تتراجع، لأن التعامل مع الفرد كمواطن والمساواة بين المواطنين تجعل كل الأطراف على قدم المساواة، وتخرج الدين من السياسة وتجعل الدين عقيدة شخصية يمارسها الفرد بحرية.
من هنا للعودة إلى الجزء الأول


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.