رئيس مجلس المستشارين يستقبل رئيس برلمان المجموعة الاقتصادية والنقدية لوسط إفريقيا    اتفاقية تاريخية.. المغرب وموريتانيا يوقعان مشروع الربط الكهربائي لتعزيز التعاون الطاقي    مشروع الميناء الجاف "Agadir Atlantic Hub" بجماعة الدراركة يعزز التنمية الاقتصادية في جهة سوس ماسة    الدار البيضاء ضمن أكثر المدن أمانا في إفريقيا لعام 2025    البيت الأبيض يعلن تصنيف الحوثيين "منظمة إرهابية أجنبية"    بوروسيا دورتموند يتخلى عن خدمات مدربه نوري شاهين    وفد الاتحاد الأوروبي يزور مشروع التطهير السائل بجماعة سيدي علال التازي    مع اقتراب رمضان.. المغرب يحذف الساعة الإضافية في هذا التاريخ    هذا ما تتميز به غرينلاند التي يرغب ترامب في شرائها    مؤسسة بلجيكية تطالب السلطات الإسبانية باعتقال ضابط إسرائيلي متهم بارتكاب جرائم حرب    إحالة قضية الرئيس يول إلى النيابة العامة بكوريا الجنوبية    أندونيسيا: ارتفاع حصيلة ضحايا حادث انزلاق التربة إلى 21 قتيلا    احتجاجات تحجب التواصل الاجتماعي في جنوب السودان    إسرائيل تقتل فلسطينيين غرب جنين    نقابات الصحة ترفع شعار التصعيد في وجه "التهراوي"    طقس الخميس: أجواء باردة مع صقيع محلي بعدد من المناطق    باريس سان جيرمان ينعش آماله في أبطال أوروبا بعد ريمونتدا مثيرة في شباك مانشستر سيتي    دعوة وزيرة السياحة البنمية لزيارة الداخلة: خطوة نحو شراكة سياحية قوية    منظمة التجارة العالمية تسلط الضوء على تطور صناعة الطيران في المغرب    الاحتيال على الراغبين في الهجرة السرية ينتهي باعتقال شخصين    حجز 230 كيلوغراما من الشيرا بوزان‬    الأشعري يدعو إلى "المصالحة اللغوية" عند التنصيب عضواً بالأكاديمية    طنجة المتوسط يعزز ريادته في البحر الأبيض المتوسط ويتخطى حاجز 10 ملايين حاوية خلال سنة 2024    لا زال معتقلاً بألمانيا.. المحكمة الدستورية تجرد محمد بودريقة من مقعده البرلماني    عامل نظافة يتعرض لاعتداء عنيف في طنجة    فوضى حراس السيارات في طنجة: الأمن مطالب بتدخل عاجل بعد تعليمات والي الجهة    ضمنهم طفل مغربي.. مقتل شخصين وإصابة آخرين في هجوم بسكين بألمانيا والمشتبه به أفغاني    حادثة مروعة بمسنانة: مصرع شاب وإيقاف سائق سيارة حاول الفرار    السكوري: نسخة "النواب" من مشروع قانون الإضراب لا تعكس تصور الحكومة    في درس تنصيب أفاية عضوا بأكاديمية المملكة .. نقد لخطابات "أزمة القيم"    ريال مدريد يُسطر انتصارا كاسحا بخماسية في شباك سالزبورج    شباب الريف الحسيمي يتعاقد رسميا مع المدرب محمد لشهابي    حموشي يؤشر على تعيينات جديدة في مناصب المسؤولية بمصالح الأمن الوطني    في الحاجة إلى ثورة ثقافية تقوم على حب الوطن وخدمته    الارتفاع ينهي تداولات بورصة الدار البيضاء    نحن وترامب: (2) تبادل التاريخ ووثائق اعتماد …المستقبل    رسميا.. مسرح محمد الخامس يحتضن قرعة الكان 2025    المغرب يُحبط أكثر من 78 ألف محاولة هجرة غير نظامية في 2024    القضاء يبرء طلبة كلية الطب من التهم المنسوبة اليهم    منتخب "U17" يواجه غينيا بيساو وديا    القضاء الفرنسي يصدر مذكرة توقيف بحق بشار الأسد    الشيخات داخل قبة البرلمان    أيوب الحومي يعود بقوة ويغني للصحراء في مهرجان الطفل    120 وفاة و25 ألف إصابة.. مسؤول: الحصبة في المغرب أصبحت وباء    الإفراط في تناول اللحوم الحمراء يزيد من مخاطر تدهور الوظائف العقلية ب16 في المائة    سناء عكرود تشوّق جمهورها بطرح فيديو ترويجي لفيلمها السينمائي الجديد "الوَصايا"    دراسة: أمراض اللثة تزيد مخاطر الإصابة بالزهايمر    Candlelight تُقدم حفلاتها الموسيقية الفريدة في طنجة لأول مرة    عادل هالا    الشاي.. كيف تجاوز كونه مشروبًا ليصبح رمزًا ثقافيًا عميقًا يعكس قيم الضيافة، والتواصل، والوحدة في المغرب    المدافع البرازيلي فيتور رايش ينتقل لمانشستر سيتي    المغرب يواجه وضعية "غير عادية" لانتشار داء الحصبة "بوحمرون"    علماء يكشفون الصلة بين أمراض اللثة وأعراض الزهايمر    المجلس العلمي المحلي لإقليم الناظور يواصل برامجه التكوينية للحجاج والمعتمرين    ثمود هوليود: أنطولوجيا النار والتطهير    الأمازيغية :اللغة الأم….«أسكاس امباركي»    ملفات ساخنة لعام 2025    أخذنا على حين ′′غزة′′!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كيلة: الصهيونية مشروع إمبريالي .. والمواطنة تنهي الاقتتال الطائفي
نشر في هسبريس يوم 30 - 01 - 2019

جرى هذا الحوار مع المفكر الفلسطيني سلامة كيلة (4 يوليوز 1955 - 2 أكتوبر 2018) قبل عشر سنوات على هامش زيارته للمغرب للمساهمة في ندوة دولية، لكن ظروف قاهرة حالت دون نشره آنذاك، حيث تطرقنا فيه إلى قضايا متعددة يجدها قارئ "هسبريس" في صلب الحوار.
(2)
شكل مشروع طيب تيزيني محاولة على قدر من التماسك في قراءة التراث استنادا على المنهج المادي التاريخي، وهو ما عالجته في كتابك "المادية والمثالية..نقد فكر ملتبس" لو تذكر القارئ بالخطوط العريضة لهذا النقد، وتقييمك العام للقراءات التي تعتمد هذا المنهج؟
نقدي الأساسي تمثل في نقد المنهج الذي استعمله الدكتور طيب تيزيني في دراسته مشروع الرؤية الجديدة، والذي يحضر في كتبه اللاحقة، وما استطعت أن أصل إليه واستكشفه هو كيفية حضور المادية والمثالية، لأن هذا التحديد ضروري من أجل دراسة التراث حيث إن الدكتور طيب تيزيني توصل إلى نتائج واسعة حول التيار المادي في التاريخ العربي، فحاولت أن أتلمس هل كان هناك تيار مادي بهذه السعة والقوة في التراث العربي الإسلامي. هدفي دراسة المنهجية نفسها، بمعنى كيف يفهم تيزيني المادية، وقد اكتشفت وأنا أدقق في ذلك الكتاب أنه يخلط بين المادية والعقلانية، بمعنى أنه في مواجهة الميل اللاهوتي الميتافزيقي الذي أصبح في ما بعد ميلا أصوليا، كان يعتبر أن العقلانية هي المادية، لهذا اعتبر الفلسفة هي المادية في مواجهة الميتافزيقا أي الدين وكان هذا ظلما للفلسفة وخطأ منهجيا كبيرا في الفلسفة الماركسية، لأن الفلسفة إلى وقت قريب هي فلسفة مثالية بالأساس ولم يكن هناك فرق بين المادية والمثالية كما يحاول أن يصور ذلك الدكتور تيزيني، وبين العقلانية والنصية والميتافزيقا.
وهذا هو الصراع في كل تاريخ الفلسفة منذ اليونان إلى العصر الحديث حينما تبلور الجدل المادي مع ماركس، بل حتى هيغل كان يحل الفكرة محل الله. هذا الصراع بين العقل وقدرته على تفسير الواقع وبين الله الذي يسير الواقع، اذا لا نستطيع إن نقول إن الفلسفة هي مثالية بامتياز، وبالتالي لم يتبلور الاتجاه المادي ألا مع ماركس، بعد أن بدأ مع فيورباخ. هذه الفكرة أوقعت تيزيني في أحكام غير دقيقة لمفكري أو فلاسفة التاريخ العربي الإسلامي. مثلا يعتبر أرسطو ماديا بينما لم يكن أرسطو ماديا على الإطلاق، فهو مؤسس المنطق الصوري الذي هو منطق شكلي يقوم على السكون ورؤية المظهر دون الغوص في العمق، وبالتالي كيف يمكن أن يكون ماديا وهو لا يصل في تحليله إلى فهم كنه المسائل، وابن رشد مثالي لكنه عقلاني.
هذه إشكالية حقيقية حكمت رؤية الطيب تيزيني للتراث، فراح ينتقي من التراث ما يريده. إنه لا يدرس التراث في تاريخيته، انطلاقا من منهجية متماسكة، وهذا ما أردت توضيحه وكان هدفي بالأساس أن أبين عبر نموذج تيزيني أن الوعي الماركسي كان يخلط بين المادية والعقلانية، ولا يميز بين أرسطو وهيغل وماركس، وهو ما ظهر في كتابات إلياس مرقص الذي يعتبر الفلسفة هي الأساس عندما كان يرد على الميل الاقتصادوي في الماركسية، فاعتبر أرسطو أن أرسطو هو مؤسس الفلسفة، وأن ما تلى ذلك تراكم كمي، بمعنى أن هناك توسعا في منطق أرسطو ذاته، ومن ثمة حاولت أن أتلمس المشكلة، أي المنطق القديم، المنطق الصوري الأرسطي، لأننا لم نمر بالمراحل التي مرت بها أوروبا، ليس على صعيد الاقتصاد، بل على صعيد الوعي فلم يتبلور عندنا شك نقدي ولا تبلورت عقلانية، وبالتالي تأسس خليط فكري حافظ على منطق أرسطو، المنطق الصوري، فنقدي هو لاتجاه في فهم الماركسية والذي لم يستطع فهمها.
لكن هناك إسهامات أخرى.
طبعا، هناك إسهام الدكتور حسين مروة الذي انطلق من "الشكل الكلاسيكي" في فهم التاريخ والتراث، الذي مر بالمراحل الخمس: مشاعة، رق، إقطاع، راسمالية، اشتراكية، وفي كل مرحلة هناك بنى اقتصادية ووعي مطابق، فأصبحت المهمة لدى الدكتور مروة هي كيف يلتقط من التراث ما يطابق هذا التصور الذي كان محددا مسبقا في الماركسية السوفياتية حول طبيعة الوعي في المجتمع الإقطاعي، وبالتالي غابت الدراسة التاريخية عن الموضوع، وبالأساس غاب فهم التطور بشكل صحيح، فالمراحل الخمس ليست مراحل حقيقية حتى وإن كان ماركس قال بها في بعض كتاباته. إن إعادة دراسة التاريخ يمكن أن تكشف أشياء أخرى، رغم أهمية تحليلات حسين مروة والقيمة الكبيرة لكتابه.
وهناك آخرون أقل مستوى، مثل محمود إسماعيل في مصر، الذي حاول أن يكرر أو يترجم في الواقع مفاهيم الطيب تيزيني أكثر مما كان يقدم شيئا إيجابيا.
يقول انجلز إن "غياب الملكية الخاصة هو مفتاح الشرق"، كتابك ملكية الأرض في الإسلام هو محاولة لتفسير وجود هذه الملكية، وهو كتاب يشتبك مع طروحات سمير أمين وأحمد صادق سعد، ماذا يميز قراءتك عن القراءات السابقة سواء كانت استشراقية أو عربية؟
إن الهم الذي حكمني عندما كتبت ملكية الأرض في الإسلام" هو من زاوية أخرى. حين ناقشت تيزيني فالماركسية طرحت تصورا للتاريخ والماركسية السوفياتية استندت إلى تصور كان قد أشار إليه ماركس في بعض كتاباته دون أن يدخل في تفاصيله. إن فكرة ماركس حول ارتقاء المجتمعات صحيحة، لكن الشكل الذي اعطي لها كان إشكاليا.
لهذا، حين يطبق على الشرق، يبدو كأننا نصوغ للشرق تاريخا خاصا. أمام هذه المشكلة مال بعض الماركسيين، خصوصا بعد تقرير خروتشوف عام 1956، ومحاولة الانفلات من هيمنة الماركسية السوفياتية، إلى البحث عن نصوص لماركس تساعدهم على فهم الشرق، فتم اكتشاف بعض النصوص التي تتحدث عن نمط الإنتاج الأسيوي، وغياب الملكية الخاصة وهو نمط يتميز بالركود ويقوم على الدولة الاستبدادية.
هذه النظرية حاول قطاع من الماركسيين أن يعممها. ومن هذا المنطلق حاولت أن أبحث في التاريخ العربي الإسلامي حول هذه المسألة، فتساءلت هل كان الإسلام يتنافى مع الملكية الخاصة، وهل كان مجتمعا دون ملكية خاصة. وكان بداية أو جزء من مشروع آخر في ذهني: إعادة صياغة تصور حول ارتقاء المجتمعات البشرية لا يتطابق مع الفهم التقليدي الذي ساد في إطار الماركسية السوفياتية. ومن خلال دراستي للتاريخ الإسلامي ركزت بالأساس على القرآن بصفته الدستور الذي حكم بنية الدولة وبصفته الوعي المعبر عن الفئات التي طرحت مشروع التغيير في الإسلام، للوصول إلى تأسيس امبراطورية عربية إسلامية، كما درست كتب السنة والفقه الإسلامي، وعديدا من الكتب التي جعلتني أتلمس الواقع كما كان في الحقيقة إلى حد ما، لأننا لا نستطيع أن نرى ذاك الواقع مباشرة فنعوض بوثائق قد تساعدنا على فهمه. المهم لم يكن هدفي تأكيد فكرة وجود الملكية في الإسلام لأنه لم يكن لدي تصور مسبق لما أريد.
لو كنت أود أن أدرس أن المسألة تتعلق بان الشرق لم يشهد ملكية خاصة، فسأصل إلى استنتاجات تتنافى مع الماركسية، ليس في فهم ارتقاء المجتمعات البشرية بل في فهم التكوين المجتمعي، لأن ماركس اعتبر أن نشوء الملكية الخاصة هو مفصل في نشوء الطبقات والصراع الطبقي، والماركسية تتأسس على صراع الطبقات، وإذا توصلنا إلى نتيجة أن ليس هناك ملكية خاصة في الإسلام والشرق يفتقد الملكية الخاصة، فسنعيد النظر في مفاصل أساسية في الماركسية.
لقد حاولت أن أفهم الواقع وتوصلت إلى أن الإسلام يقرر الملكية الخاصة، بل يعطيها طابع القداسة لأنها استخلاف من الله، وبالتالي النظام الاقتصادي الاجتماعي الذي تأسس في الإسلام كان قائما في مفاصله على الملكية الخاصة. لقد أثبتت ببعض المراجع التي تؤكد وجود طابع تسجيل لهذه الملكية في دوائر الدولة: أراض وغيرها. وبالتالي لا نستطيع أن نقول إن هناك غياب ملكية خاصة. الماركسية حين تطرح أن للملكية دور مفصلي في نشوء المجتمعات بعد المشاعة، ونشوء الطبقات والدولة هي صحيحة والخاطئ هو بعض النصوص التي حين كتبها لم يكن مطلعا على واقع الشرق، وحينما اطلع في نهاية حياته قبل أن يتوفى بسنوات قليلة غير هذه الرؤية، لأنه اكتشف في الإسلام ملكية خاصة ومقدسة، وهو ما ظهر في بعض ملاحظاته التي نشرت بعد وفاته. على هذا الأساس، حاولت أن أدخل في نقاش مع أفكار طرحت من طرف ماركسيين، منهم سمير أمين الذي يعتقد أنه في كل التاريخ السابق للرأسمالية لم تكن ملكية خاصة، وأيضا أحمد صادق سعد الذي دافع عن نظرية نمط الإنتاج الأسيوي، وماركسيين سابقين كمحمد عمارة، الذي حاول أن يروج لمسألة غياب ملكية الأرض، وغياب الملكية الخاصة في الإسلام،
هكذا بلورت بلورة رؤية للإسلام كنمط إنتاج، وهي جاهزة في كتاب لم أنشره بعد، تتضمن رؤيتي للتكوين المجتمعي في الشرق وعلاقته بأوروبا، انطلاقا من "عالمية" وأنا أضع كلمة عالمية بين مزدوجتين، لأن العالم سابقا لم يكن يشمل كل أوروبا وأطراف من إفريقيا وآسيا، حيث أدافع عن عالمية التطور التاريخي، برؤية تتجاوز المركزية الأوروبية ورؤيتها للتاريخ حيث كانت تعتبر تاريخها هو تاريخ العالم.
منذ 1989 كتبت في نقد الماركسية الرائجة وهو ما تابعته ضمنيا في كتابات أخرى، وصولا سنة 2002 إلى كتاب "أطروحات من أجل ماركسية مناضلة" فما هي الماركسية المطلوبة في الوضع الراهن؟
كان نقد الماركسية الراهنة مركزيا في تفكيري منذ نهاية السبعينيات، وكنت أعتقد أن هناك خطأ أساسيا في وعي الماركسيين، قذف بهم إلى الهامش وجعلهم لا يلعبون الدور الذي لعبه رفاقهم في الصين وفيتنام وغيرهما، توصلت إلى المشكل الأساسي كما أشرت في جواب سابق، أن الجانب السياسي كان مفصليا في الموضوع، بمعنى أن بعض الماركسيين اكتفى بنقد الماركسية من زاوية سياسية، مثلا، إلياس مرقص حاول نقد الماركسية من زاوية "يقول ماركس ولا يقول" وبالتالي دخل في معركة نصوص مع الماركسية الراهنة: نصوص ماركس حول القومية، الطبقات، الاستعمار...وحاول أن يضيف نصوصا لماركس وانجلز تتنافى مع السياسات المتبعة من طرف الأحزاب الشيوعية، فانطلقت من زاوية أخرى، هي زاوية الوعي الذي حكم الماركسيين الذي كنت أعتقد وما زلت أنه وعي تقليدي يقوم على المنطق الصوري قبل أن يقوم حتى على المنطق البورجوازي الحديث، وهو منطق يقوم على مبدأ الهوية عند أرسطو، أي هناك (ا) وليس هناك (ا)، وبالتالي ليست هناك علاقة بينهما، من هذا المنطلق كانوا ينظرون إلى الشكل دون الغوص في الجوهر. هذا ما جعلهم يطرحون مسائل غير واقعية، فنقلوا عن ستالين والماركسية السوفياتية حتمية الانتقال من الإقطاع إلى الاشتراكية، ولأن مجتمعاتنا كانت إقطاعية، بنوا استراتيجتهم على دعم البورجوازية الموجودة لتحقيق مشروعهم، وهو ما كان وهما.
منذ بداية القرن وجد العرب أنفسهم في مواجهة المشروع الصهيوني، إلى أي حد في تقديرك استطاعت الحركة السياسية العربية عموما، والفلسطينية خصوصا، فهم هذا المشروع فهما صحيحا، سواء تعلق الأمر بطبيعة المشروع الصهيوني، أو محدداته، أو علاقة هذا المشروع بالامبريالية؟
يمكن أن نتحدث عن مرحلتين في هذا الموضوع، المرحلة التي بدأت منذ نشوء المشروع الصهيوني كفكرة، حيث كان العديد من المفكرين والكتاب العرب واعين بطبيعة هذا المشروع، وكانوا يطرحون تصورا واضحا له، مثلا، نجيب عزوزي في سنة 1905 في كتابه يقظة الأمة العربية تحدث بوضوح عن هذا الموضوع كمشروع صهيوني استعماري، وأن الصراع هو بين المشروع القومي العربي وبين المشروع الاستعماري الصهيوني. بعد ذلك استمرت هذه الرؤية عند الأحزاب الشيوعية إلى حدود 1948 عندما وافق ستالين على قرار التقسيم، وبقيت سائدة عند الأحزاب الشيوعية إلى نهاية سبعينيات القرن الماضي، وحينما تأسست المقاومة الفلسطينية كانت تحليلاتها تقوم على أن المشروع الصهيوني مشروع امبريالي، وأن الدولة الصهيونية هدفها الأساسي منع تطور العرب ووحدتهم أساسا، فوعد بلفور كان لاحقا لسايكس بيكو وبالتالي لم يكن لنا إلا أن نهزم هذا المشروع أو ننهزم، لكن الأوهام التي نشأت والتي بدأت لدى بعض الماركسيين للأسف ومنهم الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، وقبلها الأحزاب الشيوعية بدأت تروج للسلام والتسوية مع الدولة الصهيونية، لأن موازين القوى لا تسمح بغير دولة فلسطينية في قطاع غزة والأرض المحتلة، والنتيجة الاعتراف بدولة إسرائيل.
هذه الرؤى انتشرت عند اليسار العربي منذ 1974، ومختلف الأحزاب بما فيها الأحزاب القومية، باستثناء بعض القوى الماركسية التي حاولت أن تعيد طرح المسألة في واقعيتها. هذا الوضع هو ما نلمسه الآن فهناك فهم مشوش مشوه لطبيعة المشروع الصهيوني، ولهذا هناك سياسات يومية دون أفق، ودون رؤية، وهو ما يحكم العلاقة بالقضية الفلسطينية وهذه مشكلة كبيرة الآن، لأن هذا أدى إلى تفكك المقاومة الفلسطينية، وانهيار حتى تنظيمات اليسار الفلسطيني وإلى نهوض الأصولية وميلها إلى تحويل الصراع إلى صراع إسلامي يهودي، وهو وضع مؤلم لأنه أعطى فرصة كبيرة للدولة الصهيونية لكي تغير الجغرافيا البشرية لكل فلسطين، وتحيل إمكانية نشوء الدولة الفلسطينية بأي شكل من الأشكال مستحيلة.
لهذا أدعو إلى العودة لرؤية جوهر المشروع الصهيوني بما هو مشروع امبريالي، حيث عملت الرأسماليات على تصدير اليهود الذين كانوا يسببون لها إرباكا، ليكونوا مرتزقة في مشروع يهدف إلى تفكيك المنطقة العربية ودوام تخلفها، لضمان هيمنة الشركات الاحتكارية الامبريالية. وهو ما توضح في الحرب الأخيرة على لبنان (المقصود حرب 2006) لأن الدور الأمريكي في فرض الحرب كان واضحا، وبدا أن إسرائيل تدخل في إطار الاستراتيجية الإسرائيلية للهيمنة على المنطقة العربية، وبالتالي إسرائيل هي جزء من مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي تطرحه الإدارة الأمريكية.
تواجه مجتمعات المشرق العربي مشكل الطائفية الذي يستعمل في الاقتتال الطائفي، ويشكل ركيزة للاستعمار، كما تساهم الطائفية في تحطيم قيم وثقافة اليسار، فهل استطاع الفكر السياسي العربي في نظركم تقديم إجابة نظرية واضحة على المسألة؟ وما هي الأسباب العميقة لبروز الطائفية من جديد؟
أعتقد أن الفكر العربي لم يقدم جوابا شافيا على هذه المسألة إلى الآن، إضافة إلى أن الانهيارات التي حدثت في السنوات الماضية، والإحباط الذي ساد، بغض النظر عن هذه المشكلة، جعل البحث فيها هامشيا، وبالعكس أصبحت بعض الوقائع تمس عديدا من القطاعات وتغذي الطائفية. إن الطائفية هي مشكلة تنوع ديني موجود في الواقع العربي، فهناك أديان ثلاثة في الوطن العربي: اليهودية والمسيحية والإسلام، وهناك في كل دين طوائف وفي الإسلام العديد منها، وهذا وجود تاريخي قائم وكان تعايش في إطاره، لكن منذ محاولة العرب النهوض والتطور في عصر النهضة ومحاولة المفكرين العرب تأسيس الدولة المدنية الحديثة، بدأت مسألة الدين، وكان واضحا بنشوء حركة الإخوان المسلمين في سنة 1928 الذي كان هدفها مواجهة كل اتجاه فكري حديث.
بعد ذلك أصبح الدين والطوائف يستعملان لمسائل خاصة، فإذا نظرنا إلى وضع لبنان الذي شكله الاستعمار الفرنسي على شكل فيدرالية طائفية، أي دولة تقوم على محاصصة طائفية، نجد أن الحرب التي بدأت في سنة 1975 كانت بتشجيع من الرأسمالية "المسيحية" التي كانت ترى أن تحولات الواقع ونمو الميل الديمقراطي وتزايد السكان يخدم مصالح طوائف أخرى، وخصوصا الشيعة، وكانت ترى المد القومي التحرري تهديدا لدورها. ولهذا لجأت إلى اللعب بالمشاعر الطائفية وتأجيج الصراعات الطائفية. طبعا نقدي للمسألة لا يتجه فقط للعب البورجوازيات والامبريالية بها، فما زالت هناك بنى متخلفة في بلادنا، بمعنى عدم انتقالنا من التكوين الزراعي المتخلف والبنى التقليدية والايديولوجيا التقليدية الدينية والقبلية والطائفية والجهوية، إلى مجتمع مدني حديث يبقي مجموعات من المجتمع تعيش وعيا مفوتا، ولهذا كان يمكن استخدامها في هذه الصراعات ببساطة لمصلحة فئات أخرى وليس لمصلحتها. ففي لبنان مثلا، استخدمت قطاعات مسيحية تعيش في ريف نائي معزولة عن المدينة والحضارة ولم تندمج في المجتمع الحديث.
هذه مشكلة حقيقية بحاجة إلى دراسة، مادام ليس هناك مشروع حداثة وتطور، وما دامت القوى البورجوازية المحلية والامبريالية تحاول أن تلعب دور سيطرة وهيمنة، كما يجري في العراق مثلا. التكوين العراقي كان مندمجا إلى حد كبير وكان هناك مستوى ثقافي متقدم، ولكن هناك دائما قوى اجتماعية متخلفة وحين تغيب القوى السياسية التي تحمل مشروع التقدم والتطور تخوض هذه القوى المتخلفة الصراع في إطار وعيها التقليدي المفوت، وهذا ما نلاحظه مع الفئات التي تنضوي تحت الوهابية التي تدعمها السعودية بأموال طائلة والتي تعتبر معركتها الأساسية ضد الشيعة. وفي المنطقة يمكن أن يتوضح أكثر. المسألة هنا هي مسألة تشكيل قوى حديثة لها مشروع سياسي واضح، يستطيع أن يوحد قطاعات شعبية أساسية تلحم القوى والفئات المتخلفة ويمنع استخدامها في إطار مشاريع تفكك وتفتيت توظفها الامبريالية والدولة الصهيونية الآن.
والحل واضح، هو تكريس مبدأ المواطنة التي تجعل الصراعات الطائفية تتراجع، لأن التعامل مع الفرد كمواطن والمساواة بين المواطنين تجعل كل الأطراف على قدم المساواة، وتخرج الدين من السياسة وتجعل الدين عقيدة شخصية يمارسها الفرد بحرية.
من هنا للعودة إلى الجزء الأول


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.