الديبلوماسية الموازية مهمة جوهرية للحزب    نقابة الكونفدرالية بالمحمدية تطالب بعقد اجتماع عاجل مع السلطات الإقيليمية لإنقاذ عمال مجموعة "الكتبية"    أزيد من 220 عاملًا بشركة "أتينتو Atento" بتطوان يواجهون الطرد الجماعي    وزارة الأوقاف: تأشيرات السياحة أو الزيارة لا تخول أداء مناسك الحج    يضرب اليوم موعدا مع تنزانيا في النهائي القاري .. المنتخب النسوي للفوتسال يحقق تأهل مزدوجا إلى نهائي كأس إفريقيا وبطولة العالم    أخبار الساحة    تنظيم ماراتون الدار البيضاء 2025 يسند إلى جمعية مدنية ذات خبرة    الوداد يمنح موكوينا عطلة استثنائية ويكشف موعد الانفصال عنه    مشروع مستشفى بالقصر الصغير في طي النسيان منذ أكثر من عقد يثير تساؤلات في البرلمان    هذا المساء في برنامج "مدارات" بالإذاعة الوطنية: المؤرخ ابن خلدون … شاعرا    هلال يكشف لمجلس الأمن تزييف الجزائر للحقائق حول قضية الصحراء المغربية    استعادة التيار الكهربائي تنهي ساعات من العزلة والصمت في البرتغال    البطولة.. أربعة فرق تحاول تجنب خوض مباراتي السد وفريقان يصارعان من أجل البقاء    البرلمان الكولومبي يجدد دعمه للوحدة الترابية للمملكة المغربية    خبير اقتصادي ل"رسالة 24″: القطار فائق السرعة القنيطرة مشروع استراتيجي يعزز رؤية 2035    بورصة البيضاء تستهل تداولاتها على وقع الانخفاض    أرسنال يستضيف باريس سان جرمان في أولى مواجهتي نصف نهائي دوري أبطال أوروبا    مهرجان كان السينمائي.. لجنة تحكيم دولية برئاسة جولييت بينوش وعضوية ليلى سليماني    مؤسسة المقريزي تسدل الستار على الأسبوع الثقافي الرابع تحت شعار: "مواطنة تراث إبداع وتميّز"    المكتب الوطني للمطارات يعلن عن عودة الوضع إلى طبيعته في كافة مطارات المملكة    شباب خنيفرة يسقط "الكوكب" ويحيي الصراع على الصعود    لقاء علمي بجامعة القاضي عياض بمراكش حول تاريخ النقود الموريتانية القديمة    عودة حمزة مون بيبي : فضيحة نصب تطيح بمؤثر شهير في بث مباشر وهمي    بعد انقطاع كهربائي غير مسبوق.. هكذا ساعد المغرب إسبانيا على الخروج من "الظلام"    "الجمعية" تحذر من انفلات صحي واجتماعي بالفقيه بن صالح    كيوسك الثلاثاء | بنعلي تعلن قرب تحقيق الأهداف الطاقية قبل أربع سنوات من الموعد المحدد    الصين: تسليط الضوء على دور القطاع البنكي في تعزيز العلاقات الاقتصادية بين الصين والمغرب    السايح مدرب المنتخب النسوي للفوتسال: "التأهل للنهائي إنجاز تاريخي ونعدكم بالتتويج بلقب الكان.. والفضل يعود لهشام الدكيك"    منظمة العفو الدولية: "العالم يشاهد عبر شاشاته إبادة جماعية مباشرة في غزة"    وزير التعليم يربط تفشي العنف المدرسي بالضغط النفسي    مراكش: تفاصيل توقيف أستاذ جامعي يشتغل سائق طاكسي أجرة بدون ترخيص    وهبي: تعديل القانون الجنائي سيشدد العقوبات على حيازة الأسلحة البيضاء    انقطاع كهربائي واسع في إسبانيا والبرتغال يربك خدمات الإنترنت في المغرب    كندا.. الحزب الليبرالي يتجه نحو ولاية جديدة بعد فوزه في الانتخابات التشريعية    فاطمة الزهراء المنصوري: عدد الطلبات الاستفادة من الدعم المباشر بلغ 128 ألف و528    طقس الثلاثاء .. أجواء حارة في عدد من المدن    تمارة.. اعتقال أب وابنه متورطين في النصب والاحتيال بطريقة "السماوي    الصين تتوقع زيادة بنسبة 27 في المائة في السفر عبر الحدود خلال عطلة عيد العمال    الصين: الحكومات المحلية تصدر سندات بحوالي 172 مليار دولار في الربع الأول    عودة الكهرباء بنسبة 99 % في إسبانيا    حصاد وفير في مشروع تطوير الأرز الهجين بجيهانغا في بوروندي بدعم صيني    جسر جوي جديد بين تشنغدو ودبي.. دفعة قوية لحركة التجارة العالمية    سانشيز يشيد بتعاون المغرب لإعادة الكهرباء    البوليساريو تنهار… وتصنيفها حركة ارهابية هو لها رصاصة رحمة    لماذا يستحق أخنوش ولاية ثانية على رأس الحكومة المغربية؟    حصيلة الدورة 30 للمعرض الدولي للنشر والكتاب    ‪بنسعيد يشارك في قمة أبوظبي ‬    منظمة الصحة العالمية: التلقيح ينقذ 1.8 مليون شخص بإفريقيا في عام واحد    أزيد من 403 آلاف زائر… معرض الكتاب بالرباط يختتم دورته الثلاثين بنجاح لافت    دراسة: متلازمة التمثيل الغذائي ترفع خطر الإصابة بالخرف المبكر    بريطانيا .. آلاف الوفيات سنويا مرتبطة بتناول الأغذية فائقة المعالجة    اختيار نوع الولادة: حرية قرار أم ضغوط مخفية؟    التدين المزيف: حين يتحول الإيمان إلى سلعة    منصف السلاوي خبير اللقاحات يقدم سيرته بمعرض الكتاب: علينا أن نستعد للحروب ضد الأوبئة    مصل يقتل ب40 طعنة على يد آخر قبيل صلاة الجمعة بفرنسا    كردية أشجع من دول عربية 3من3    وداعًا الأستاذ محمد الأشرافي إلى الأبد    قصة الخطاب القرآني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كيلة: الصهيونية مشروع إمبريالي .. والمواطنة تنهي الاقتتال الطائفي
نشر في هسبريس يوم 30 - 01 - 2019

جرى هذا الحوار مع المفكر الفلسطيني سلامة كيلة (4 يوليوز 1955 - 2 أكتوبر 2018) قبل عشر سنوات على هامش زيارته للمغرب للمساهمة في ندوة دولية، لكن ظروف قاهرة حالت دون نشره آنذاك، حيث تطرقنا فيه إلى قضايا متعددة يجدها قارئ "هسبريس" في صلب الحوار.
(2)
شكل مشروع طيب تيزيني محاولة على قدر من التماسك في قراءة التراث استنادا على المنهج المادي التاريخي، وهو ما عالجته في كتابك "المادية والمثالية..نقد فكر ملتبس" لو تذكر القارئ بالخطوط العريضة لهذا النقد، وتقييمك العام للقراءات التي تعتمد هذا المنهج؟
نقدي الأساسي تمثل في نقد المنهج الذي استعمله الدكتور طيب تيزيني في دراسته مشروع الرؤية الجديدة، والذي يحضر في كتبه اللاحقة، وما استطعت أن أصل إليه واستكشفه هو كيفية حضور المادية والمثالية، لأن هذا التحديد ضروري من أجل دراسة التراث حيث إن الدكتور طيب تيزيني توصل إلى نتائج واسعة حول التيار المادي في التاريخ العربي، فحاولت أن أتلمس هل كان هناك تيار مادي بهذه السعة والقوة في التراث العربي الإسلامي. هدفي دراسة المنهجية نفسها، بمعنى كيف يفهم تيزيني المادية، وقد اكتشفت وأنا أدقق في ذلك الكتاب أنه يخلط بين المادية والعقلانية، بمعنى أنه في مواجهة الميل اللاهوتي الميتافزيقي الذي أصبح في ما بعد ميلا أصوليا، كان يعتبر أن العقلانية هي المادية، لهذا اعتبر الفلسفة هي المادية في مواجهة الميتافزيقا أي الدين وكان هذا ظلما للفلسفة وخطأ منهجيا كبيرا في الفلسفة الماركسية، لأن الفلسفة إلى وقت قريب هي فلسفة مثالية بالأساس ولم يكن هناك فرق بين المادية والمثالية كما يحاول أن يصور ذلك الدكتور تيزيني، وبين العقلانية والنصية والميتافزيقا.
وهذا هو الصراع في كل تاريخ الفلسفة منذ اليونان إلى العصر الحديث حينما تبلور الجدل المادي مع ماركس، بل حتى هيغل كان يحل الفكرة محل الله. هذا الصراع بين العقل وقدرته على تفسير الواقع وبين الله الذي يسير الواقع، اذا لا نستطيع إن نقول إن الفلسفة هي مثالية بامتياز، وبالتالي لم يتبلور الاتجاه المادي ألا مع ماركس، بعد أن بدأ مع فيورباخ. هذه الفكرة أوقعت تيزيني في أحكام غير دقيقة لمفكري أو فلاسفة التاريخ العربي الإسلامي. مثلا يعتبر أرسطو ماديا بينما لم يكن أرسطو ماديا على الإطلاق، فهو مؤسس المنطق الصوري الذي هو منطق شكلي يقوم على السكون ورؤية المظهر دون الغوص في العمق، وبالتالي كيف يمكن أن يكون ماديا وهو لا يصل في تحليله إلى فهم كنه المسائل، وابن رشد مثالي لكنه عقلاني.
هذه إشكالية حقيقية حكمت رؤية الطيب تيزيني للتراث، فراح ينتقي من التراث ما يريده. إنه لا يدرس التراث في تاريخيته، انطلاقا من منهجية متماسكة، وهذا ما أردت توضيحه وكان هدفي بالأساس أن أبين عبر نموذج تيزيني أن الوعي الماركسي كان يخلط بين المادية والعقلانية، ولا يميز بين أرسطو وهيغل وماركس، وهو ما ظهر في كتابات إلياس مرقص الذي يعتبر الفلسفة هي الأساس عندما كان يرد على الميل الاقتصادوي في الماركسية، فاعتبر أرسطو أن أرسطو هو مؤسس الفلسفة، وأن ما تلى ذلك تراكم كمي، بمعنى أن هناك توسعا في منطق أرسطو ذاته، ومن ثمة حاولت أن أتلمس المشكلة، أي المنطق القديم، المنطق الصوري الأرسطي، لأننا لم نمر بالمراحل التي مرت بها أوروبا، ليس على صعيد الاقتصاد، بل على صعيد الوعي فلم يتبلور عندنا شك نقدي ولا تبلورت عقلانية، وبالتالي تأسس خليط فكري حافظ على منطق أرسطو، المنطق الصوري، فنقدي هو لاتجاه في فهم الماركسية والذي لم يستطع فهمها.
لكن هناك إسهامات أخرى.
طبعا، هناك إسهام الدكتور حسين مروة الذي انطلق من "الشكل الكلاسيكي" في فهم التاريخ والتراث، الذي مر بالمراحل الخمس: مشاعة، رق، إقطاع، راسمالية، اشتراكية، وفي كل مرحلة هناك بنى اقتصادية ووعي مطابق، فأصبحت المهمة لدى الدكتور مروة هي كيف يلتقط من التراث ما يطابق هذا التصور الذي كان محددا مسبقا في الماركسية السوفياتية حول طبيعة الوعي في المجتمع الإقطاعي، وبالتالي غابت الدراسة التاريخية عن الموضوع، وبالأساس غاب فهم التطور بشكل صحيح، فالمراحل الخمس ليست مراحل حقيقية حتى وإن كان ماركس قال بها في بعض كتاباته. إن إعادة دراسة التاريخ يمكن أن تكشف أشياء أخرى، رغم أهمية تحليلات حسين مروة والقيمة الكبيرة لكتابه.
وهناك آخرون أقل مستوى، مثل محمود إسماعيل في مصر، الذي حاول أن يكرر أو يترجم في الواقع مفاهيم الطيب تيزيني أكثر مما كان يقدم شيئا إيجابيا.
يقول انجلز إن "غياب الملكية الخاصة هو مفتاح الشرق"، كتابك ملكية الأرض في الإسلام هو محاولة لتفسير وجود هذه الملكية، وهو كتاب يشتبك مع طروحات سمير أمين وأحمد صادق سعد، ماذا يميز قراءتك عن القراءات السابقة سواء كانت استشراقية أو عربية؟
إن الهم الذي حكمني عندما كتبت ملكية الأرض في الإسلام" هو من زاوية أخرى. حين ناقشت تيزيني فالماركسية طرحت تصورا للتاريخ والماركسية السوفياتية استندت إلى تصور كان قد أشار إليه ماركس في بعض كتاباته دون أن يدخل في تفاصيله. إن فكرة ماركس حول ارتقاء المجتمعات صحيحة، لكن الشكل الذي اعطي لها كان إشكاليا.
لهذا، حين يطبق على الشرق، يبدو كأننا نصوغ للشرق تاريخا خاصا. أمام هذه المشكلة مال بعض الماركسيين، خصوصا بعد تقرير خروتشوف عام 1956، ومحاولة الانفلات من هيمنة الماركسية السوفياتية، إلى البحث عن نصوص لماركس تساعدهم على فهم الشرق، فتم اكتشاف بعض النصوص التي تتحدث عن نمط الإنتاج الأسيوي، وغياب الملكية الخاصة وهو نمط يتميز بالركود ويقوم على الدولة الاستبدادية.
هذه النظرية حاول قطاع من الماركسيين أن يعممها. ومن هذا المنطلق حاولت أن أبحث في التاريخ العربي الإسلامي حول هذه المسألة، فتساءلت هل كان الإسلام يتنافى مع الملكية الخاصة، وهل كان مجتمعا دون ملكية خاصة. وكان بداية أو جزء من مشروع آخر في ذهني: إعادة صياغة تصور حول ارتقاء المجتمعات البشرية لا يتطابق مع الفهم التقليدي الذي ساد في إطار الماركسية السوفياتية. ومن خلال دراستي للتاريخ الإسلامي ركزت بالأساس على القرآن بصفته الدستور الذي حكم بنية الدولة وبصفته الوعي المعبر عن الفئات التي طرحت مشروع التغيير في الإسلام، للوصول إلى تأسيس امبراطورية عربية إسلامية، كما درست كتب السنة والفقه الإسلامي، وعديدا من الكتب التي جعلتني أتلمس الواقع كما كان في الحقيقة إلى حد ما، لأننا لا نستطيع أن نرى ذاك الواقع مباشرة فنعوض بوثائق قد تساعدنا على فهمه. المهم لم يكن هدفي تأكيد فكرة وجود الملكية في الإسلام لأنه لم يكن لدي تصور مسبق لما أريد.
لو كنت أود أن أدرس أن المسألة تتعلق بان الشرق لم يشهد ملكية خاصة، فسأصل إلى استنتاجات تتنافى مع الماركسية، ليس في فهم ارتقاء المجتمعات البشرية بل في فهم التكوين المجتمعي، لأن ماركس اعتبر أن نشوء الملكية الخاصة هو مفصل في نشوء الطبقات والصراع الطبقي، والماركسية تتأسس على صراع الطبقات، وإذا توصلنا إلى نتيجة أن ليس هناك ملكية خاصة في الإسلام والشرق يفتقد الملكية الخاصة، فسنعيد النظر في مفاصل أساسية في الماركسية.
لقد حاولت أن أفهم الواقع وتوصلت إلى أن الإسلام يقرر الملكية الخاصة، بل يعطيها طابع القداسة لأنها استخلاف من الله، وبالتالي النظام الاقتصادي الاجتماعي الذي تأسس في الإسلام كان قائما في مفاصله على الملكية الخاصة. لقد أثبتت ببعض المراجع التي تؤكد وجود طابع تسجيل لهذه الملكية في دوائر الدولة: أراض وغيرها. وبالتالي لا نستطيع أن نقول إن هناك غياب ملكية خاصة. الماركسية حين تطرح أن للملكية دور مفصلي في نشوء المجتمعات بعد المشاعة، ونشوء الطبقات والدولة هي صحيحة والخاطئ هو بعض النصوص التي حين كتبها لم يكن مطلعا على واقع الشرق، وحينما اطلع في نهاية حياته قبل أن يتوفى بسنوات قليلة غير هذه الرؤية، لأنه اكتشف في الإسلام ملكية خاصة ومقدسة، وهو ما ظهر في بعض ملاحظاته التي نشرت بعد وفاته. على هذا الأساس، حاولت أن أدخل في نقاش مع أفكار طرحت من طرف ماركسيين، منهم سمير أمين الذي يعتقد أنه في كل التاريخ السابق للرأسمالية لم تكن ملكية خاصة، وأيضا أحمد صادق سعد الذي دافع عن نظرية نمط الإنتاج الأسيوي، وماركسيين سابقين كمحمد عمارة، الذي حاول أن يروج لمسألة غياب ملكية الأرض، وغياب الملكية الخاصة في الإسلام،
هكذا بلورت بلورة رؤية للإسلام كنمط إنتاج، وهي جاهزة في كتاب لم أنشره بعد، تتضمن رؤيتي للتكوين المجتمعي في الشرق وعلاقته بأوروبا، انطلاقا من "عالمية" وأنا أضع كلمة عالمية بين مزدوجتين، لأن العالم سابقا لم يكن يشمل كل أوروبا وأطراف من إفريقيا وآسيا، حيث أدافع عن عالمية التطور التاريخي، برؤية تتجاوز المركزية الأوروبية ورؤيتها للتاريخ حيث كانت تعتبر تاريخها هو تاريخ العالم.
منذ 1989 كتبت في نقد الماركسية الرائجة وهو ما تابعته ضمنيا في كتابات أخرى، وصولا سنة 2002 إلى كتاب "أطروحات من أجل ماركسية مناضلة" فما هي الماركسية المطلوبة في الوضع الراهن؟
كان نقد الماركسية الراهنة مركزيا في تفكيري منذ نهاية السبعينيات، وكنت أعتقد أن هناك خطأ أساسيا في وعي الماركسيين، قذف بهم إلى الهامش وجعلهم لا يلعبون الدور الذي لعبه رفاقهم في الصين وفيتنام وغيرهما، توصلت إلى المشكل الأساسي كما أشرت في جواب سابق، أن الجانب السياسي كان مفصليا في الموضوع، بمعنى أن بعض الماركسيين اكتفى بنقد الماركسية من زاوية سياسية، مثلا، إلياس مرقص حاول نقد الماركسية من زاوية "يقول ماركس ولا يقول" وبالتالي دخل في معركة نصوص مع الماركسية الراهنة: نصوص ماركس حول القومية، الطبقات، الاستعمار...وحاول أن يضيف نصوصا لماركس وانجلز تتنافى مع السياسات المتبعة من طرف الأحزاب الشيوعية، فانطلقت من زاوية أخرى، هي زاوية الوعي الذي حكم الماركسيين الذي كنت أعتقد وما زلت أنه وعي تقليدي يقوم على المنطق الصوري قبل أن يقوم حتى على المنطق البورجوازي الحديث، وهو منطق يقوم على مبدأ الهوية عند أرسطو، أي هناك (ا) وليس هناك (ا)، وبالتالي ليست هناك علاقة بينهما، من هذا المنطلق كانوا ينظرون إلى الشكل دون الغوص في الجوهر. هذا ما جعلهم يطرحون مسائل غير واقعية، فنقلوا عن ستالين والماركسية السوفياتية حتمية الانتقال من الإقطاع إلى الاشتراكية، ولأن مجتمعاتنا كانت إقطاعية، بنوا استراتيجتهم على دعم البورجوازية الموجودة لتحقيق مشروعهم، وهو ما كان وهما.
منذ بداية القرن وجد العرب أنفسهم في مواجهة المشروع الصهيوني، إلى أي حد في تقديرك استطاعت الحركة السياسية العربية عموما، والفلسطينية خصوصا، فهم هذا المشروع فهما صحيحا، سواء تعلق الأمر بطبيعة المشروع الصهيوني، أو محدداته، أو علاقة هذا المشروع بالامبريالية؟
يمكن أن نتحدث عن مرحلتين في هذا الموضوع، المرحلة التي بدأت منذ نشوء المشروع الصهيوني كفكرة، حيث كان العديد من المفكرين والكتاب العرب واعين بطبيعة هذا المشروع، وكانوا يطرحون تصورا واضحا له، مثلا، نجيب عزوزي في سنة 1905 في كتابه يقظة الأمة العربية تحدث بوضوح عن هذا الموضوع كمشروع صهيوني استعماري، وأن الصراع هو بين المشروع القومي العربي وبين المشروع الاستعماري الصهيوني. بعد ذلك استمرت هذه الرؤية عند الأحزاب الشيوعية إلى حدود 1948 عندما وافق ستالين على قرار التقسيم، وبقيت سائدة عند الأحزاب الشيوعية إلى نهاية سبعينيات القرن الماضي، وحينما تأسست المقاومة الفلسطينية كانت تحليلاتها تقوم على أن المشروع الصهيوني مشروع امبريالي، وأن الدولة الصهيونية هدفها الأساسي منع تطور العرب ووحدتهم أساسا، فوعد بلفور كان لاحقا لسايكس بيكو وبالتالي لم يكن لنا إلا أن نهزم هذا المشروع أو ننهزم، لكن الأوهام التي نشأت والتي بدأت لدى بعض الماركسيين للأسف ومنهم الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، وقبلها الأحزاب الشيوعية بدأت تروج للسلام والتسوية مع الدولة الصهيونية، لأن موازين القوى لا تسمح بغير دولة فلسطينية في قطاع غزة والأرض المحتلة، والنتيجة الاعتراف بدولة إسرائيل.
هذه الرؤى انتشرت عند اليسار العربي منذ 1974، ومختلف الأحزاب بما فيها الأحزاب القومية، باستثناء بعض القوى الماركسية التي حاولت أن تعيد طرح المسألة في واقعيتها. هذا الوضع هو ما نلمسه الآن فهناك فهم مشوش مشوه لطبيعة المشروع الصهيوني، ولهذا هناك سياسات يومية دون أفق، ودون رؤية، وهو ما يحكم العلاقة بالقضية الفلسطينية وهذه مشكلة كبيرة الآن، لأن هذا أدى إلى تفكك المقاومة الفلسطينية، وانهيار حتى تنظيمات اليسار الفلسطيني وإلى نهوض الأصولية وميلها إلى تحويل الصراع إلى صراع إسلامي يهودي، وهو وضع مؤلم لأنه أعطى فرصة كبيرة للدولة الصهيونية لكي تغير الجغرافيا البشرية لكل فلسطين، وتحيل إمكانية نشوء الدولة الفلسطينية بأي شكل من الأشكال مستحيلة.
لهذا أدعو إلى العودة لرؤية جوهر المشروع الصهيوني بما هو مشروع امبريالي، حيث عملت الرأسماليات على تصدير اليهود الذين كانوا يسببون لها إرباكا، ليكونوا مرتزقة في مشروع يهدف إلى تفكيك المنطقة العربية ودوام تخلفها، لضمان هيمنة الشركات الاحتكارية الامبريالية. وهو ما توضح في الحرب الأخيرة على لبنان (المقصود حرب 2006) لأن الدور الأمريكي في فرض الحرب كان واضحا، وبدا أن إسرائيل تدخل في إطار الاستراتيجية الإسرائيلية للهيمنة على المنطقة العربية، وبالتالي إسرائيل هي جزء من مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي تطرحه الإدارة الأمريكية.
تواجه مجتمعات المشرق العربي مشكل الطائفية الذي يستعمل في الاقتتال الطائفي، ويشكل ركيزة للاستعمار، كما تساهم الطائفية في تحطيم قيم وثقافة اليسار، فهل استطاع الفكر السياسي العربي في نظركم تقديم إجابة نظرية واضحة على المسألة؟ وما هي الأسباب العميقة لبروز الطائفية من جديد؟
أعتقد أن الفكر العربي لم يقدم جوابا شافيا على هذه المسألة إلى الآن، إضافة إلى أن الانهيارات التي حدثت في السنوات الماضية، والإحباط الذي ساد، بغض النظر عن هذه المشكلة، جعل البحث فيها هامشيا، وبالعكس أصبحت بعض الوقائع تمس عديدا من القطاعات وتغذي الطائفية. إن الطائفية هي مشكلة تنوع ديني موجود في الواقع العربي، فهناك أديان ثلاثة في الوطن العربي: اليهودية والمسيحية والإسلام، وهناك في كل دين طوائف وفي الإسلام العديد منها، وهذا وجود تاريخي قائم وكان تعايش في إطاره، لكن منذ محاولة العرب النهوض والتطور في عصر النهضة ومحاولة المفكرين العرب تأسيس الدولة المدنية الحديثة، بدأت مسألة الدين، وكان واضحا بنشوء حركة الإخوان المسلمين في سنة 1928 الذي كان هدفها مواجهة كل اتجاه فكري حديث.
بعد ذلك أصبح الدين والطوائف يستعملان لمسائل خاصة، فإذا نظرنا إلى وضع لبنان الذي شكله الاستعمار الفرنسي على شكل فيدرالية طائفية، أي دولة تقوم على محاصصة طائفية، نجد أن الحرب التي بدأت في سنة 1975 كانت بتشجيع من الرأسمالية "المسيحية" التي كانت ترى أن تحولات الواقع ونمو الميل الديمقراطي وتزايد السكان يخدم مصالح طوائف أخرى، وخصوصا الشيعة، وكانت ترى المد القومي التحرري تهديدا لدورها. ولهذا لجأت إلى اللعب بالمشاعر الطائفية وتأجيج الصراعات الطائفية. طبعا نقدي للمسألة لا يتجه فقط للعب البورجوازيات والامبريالية بها، فما زالت هناك بنى متخلفة في بلادنا، بمعنى عدم انتقالنا من التكوين الزراعي المتخلف والبنى التقليدية والايديولوجيا التقليدية الدينية والقبلية والطائفية والجهوية، إلى مجتمع مدني حديث يبقي مجموعات من المجتمع تعيش وعيا مفوتا، ولهذا كان يمكن استخدامها في هذه الصراعات ببساطة لمصلحة فئات أخرى وليس لمصلحتها. ففي لبنان مثلا، استخدمت قطاعات مسيحية تعيش في ريف نائي معزولة عن المدينة والحضارة ولم تندمج في المجتمع الحديث.
هذه مشكلة حقيقية بحاجة إلى دراسة، مادام ليس هناك مشروع حداثة وتطور، وما دامت القوى البورجوازية المحلية والامبريالية تحاول أن تلعب دور سيطرة وهيمنة، كما يجري في العراق مثلا. التكوين العراقي كان مندمجا إلى حد كبير وكان هناك مستوى ثقافي متقدم، ولكن هناك دائما قوى اجتماعية متخلفة وحين تغيب القوى السياسية التي تحمل مشروع التقدم والتطور تخوض هذه القوى المتخلفة الصراع في إطار وعيها التقليدي المفوت، وهذا ما نلاحظه مع الفئات التي تنضوي تحت الوهابية التي تدعمها السعودية بأموال طائلة والتي تعتبر معركتها الأساسية ضد الشيعة. وفي المنطقة يمكن أن يتوضح أكثر. المسألة هنا هي مسألة تشكيل قوى حديثة لها مشروع سياسي واضح، يستطيع أن يوحد قطاعات شعبية أساسية تلحم القوى والفئات المتخلفة ويمنع استخدامها في إطار مشاريع تفكك وتفتيت توظفها الامبريالية والدولة الصهيونية الآن.
والحل واضح، هو تكريس مبدأ المواطنة التي تجعل الصراعات الطائفية تتراجع، لأن التعامل مع الفرد كمواطن والمساواة بين المواطنين تجعل كل الأطراف على قدم المساواة، وتخرج الدين من السياسة وتجعل الدين عقيدة شخصية يمارسها الفرد بحرية.
من هنا للعودة إلى الجزء الأول


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.