تيزيني يبكي الحضور في درسه الافتتاحي يوم الثلاثاء 27 أكتوبر 2015 كان موعد المثقفين والطلبة، والباحثين بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بابن امسيك، مع الدرس الافتتاحي الذي قدمه د. طيب تيزني. كان المدرج يمتلئ عن آخره، وهي إشارة دالة على الزمن الجامعي الجميل. رحّب د. عبد القادر كنكاي عميد كلية الآداب بالضيف، معتبرا هذا اللقاء حدثا جامعيا، وثقافيا في المغرب، دون نسيان أن يذكِّر بالمكانة التي يحتلها هذا المفكر عند جيل من التلاميذ والطلبة في مرحلة سابقة، كما أثنى على شعبة الفلسفة التي أعادت الذاكرة إلى الوراء في الوقت المغربي والعربي الصعب. بعد ذلك تدخل منسق الندوة الأستاذ عبد الإله بلقريز الذي ربط الضيافة بالضيف في زمن عربي تحمله الشقوق نحو الهاوية. بعد الترحيب بالمحتفى به وحرمه بحرارة بالغة وحب عميق لهذه العلامة الفارقة في الفكر العربي والإنساني. إنه صاحب مقالة وصاحب أطروحة ملأت الدنيا، وشغلت الناس. لقد كان كتابه التأسيسي الصادر سنة 1971 صديقا للتلاميذ والطلبة. أي لقد تتلمذ عليه جيل بكامله. ليس لأن محتوياته مرتبطة بالبرنامج الدراسي لتلك المرحلة. وإنما تأسيسه لرؤية جديدة في قراءة التراث العربي الإسلامي. وهو بذلك شكل ثورة في الرؤية والمنهج والذي تم بمقتضاها هندسة معرفية عميقة تضعه ضمن مشروع فكري طويل. إنه استلهم المادية التاريخية في قراءته للتراث فاتحة بذلك أذرعا للمقاومة والنهضة. إن ضيف شعبة الفلسفةيقول بلقزيزرجل صادق في التزاماته الفكرية والقومية صابر وصبور لم يغادرها ولم يساوم عليها. مرابط في خيمة دفاعا عن العقل والنهضة. طيب تيزني: مازلنا نملك القيادة لنفتح الطريق. القاعة تنبض حيوية، ودفئا خاصة كما لو كان ضيفها غير غريب عن الحضور. أو كأنه أعطى للمدرج طراوة، وحرارة الحضور ليس لأن الرجل قادم من انهياراتنا الجديدة وحامل شرارة الأمل ضد الدمار الذي لحق بالحجر والبشر هناك. وإنما في إيقاع درسه الافتتاحي المتأرجح بين رؤيته كمفكر تنويري. ووقوفه قبالة الدمار، والخراب، والموت، لقد خلق لنا موسيقا صعبة تروم الجسارة مثلما تنزع نحو طموح العالم في زمان ومكان منهارين وهو بذلك لم يتمالك نفسه مع دِفء القاعة. وحرقة أسئلة الفلسفة من بكاء شاركته بذلك القاعة بصمت ونحيب، ودموع مالحة كما لو كان الحضور يعبر عن تضامنه الصامت مع رجل لم يستسلم لليأس ولا حتى من خروجه خارج وطنه رغم أن وضعه الاعتباري كمفكر تنويري ومشاركته في ملتقيات فكرية خارج الوطن. ظل وفيا لجرح الوطن، ولمدينته حمص الذي تعيش بالقرب من سماسرة الموت إنما أمام شخصية نادرة في زمن يزرع الظلام في كل شيء قائم شخصية صامدة في الزمان والمكان تبحث عن ضوء ما في الأفق البعيد قدم طيب تيزني مداخلته بالحديث عن مشروعه الفكري ليس لكونه مشروعا انتهت معالمه فيما انشغل به في موضوعات التراث العربي الإسلامي بل أن حضوره في الدارالبيضاء/ كلية الآداب ابن امسيك أعطاه شحنة لإعادة النظر فيه وتجديده كما أن الراهن العربي وما يعيشه اليوم من دمار إلى أبشع درجات القتل كل ذلك يعطيه قوة لإعادة النظر في مشروعه مادام هذا المشروع ظل مفتوحا كما يرى. ولأنه كذلك فعملية غلقه تعني موته وهو لا يرغب في ذلك فهو كما يقول ? مشروع فكري يتحول شيئا فشيئا إلى مشروع يضم كل الحقول والآفاق، لأن الأوطان بدأت تتصدع. هو الآن يشعر بلحظة غامرة قد تكون بداية شيء ما إلا أنه وبنفس الإحساس يعتبر أن الملايين من السوريين يرون هذه اللحظة من تاريخهم فضيحة في أقصى تجلياتها. والمتمثلة في تدمير الحجر، والبقر، والبشر وكأن القتل الممارس على هذه الكائنات شكل من أشكال تجريب أسلحة الدمار الشامل. والذي يعتقدون إعماله سيؤتى أكله. من هذا الجحيم المهول يتساءل ماذا بعد هذا الدمار؟ سؤال يطرحه بقلق مراهنا على القادم من الزمن ولأنه مفكر منشغل بحال ومآل الأمة لقد بدأِتُكما يقولأفكر في المشروع الذي أنجزه كيف أعود إلى البداية. كان يعتبر شيئا وأصبحت شيئا آخر كيف أعود إلى البداية التاريخ إجابة أولية على الصراع التاريخي ما الذي يحدث. ثمة طريقان جاثمان على سوريا والوطن العربي طريق المستقبل وطريق يعيدنا عنوة وطواعية إلى الماضي لهذا تم تدمير سوريا باسم إعادة الإنسان إلى الماضي. انطلاقا من هذا الإحراق المدمر في عودة الإنسان إلى الماضي. جعل مفكرنا يقول: أعيد النظر في مشروعي أبحث عن حل فكري منهجي والذي سيجده في موضوعة الإنسان في هذا الخضم تكشف الأحداث المدمرة لسوريا والوطن العربي مسألة رئيسة وهي : التطور المذهل لحِرفية القتل لقد شارك العالم غي تدمير ما تأسّس على مئات القرون وبالمحصلة فإن كل ما ذكره يقدم له رؤية تتجه نحو إعادة النظر في مشروعه الفكري الذي انشغل به منذ نهاية الستينيات من القرن الماضي إلى اليوم أي في كيفية الدخول إلى مشروع نهضوي يتأسس بعوامل داخلية دون إلغاء العوامل الخارجية. هل يستطيع مأزومان، أو مريضان... إنقاذ مأزوم أو مريض؟ الجواب لا وألف لا. روسياوإيران مأزومتان ومريضتان. أزمة البلديْن عميقة. لذلك لن يكون في استطاعتهما إنقاذ نظام بشّار الأسد، لا لشيء لأنّ هذا النظام غير قابل للإنقاذ مهما بلغ حجم التواطؤ الأميركي مع إيران، وهو تواطؤ جعل كلّ رهان باراك أوباما على توقيع الملفّ النووي الإيراني، لعلّ هذا الإنجاز يمكّنه من ترك بصمة في التاريخ، باستثناء أنه الرئيس الأسود الأوّل وربّما الأخير للولايات المتّحدة. في الواقع، كان لقاء فيينا المخصّص لسوريا الذي جمع سبعة عشر وزيرا للخارجية، بمن في ذلك الوزير الإيراني محمد جواد ظريف مليئا بالدلالات. كان الدليل الأوّل على أهمّية اللقاء غياب النظام السوري عنه. حضرت إيران وغاب النظام السوري. هذا يؤكد أن مستقبل سوريا يُبحث في معزل عن النظام الذي جلس رئيسه، قبل فترة قصيرة، أمام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كالتلميذ أمام المعلّم. لم يكن ينقص بوتين سوى حمل قضيب رفيع كي يقول لكلّ من يعنيه الأمر أنّه صار، من الآن فصاعدا، صاحب القرار السوري. من الدلائل الأخرى المهمّة التي ظهرت من خلال لقاء فيينا الحضور الإيراني. تسعى إيران إلى أن تكون جزءا لا يتجزّأ من الدول التي تبحث جدّيا في كيفية إنهاء الأزمة السورية، ولكن بما يتفّق مع مصالحها طبعا. لم تستطع إيران تحقيق طموحها المتمثّل في المجيء إلى فيينا، إلا بعدما صارت الكلمة الأولى والأخيرة في سوريا، أقلّه في الجانب المتعلّق بالنظام في يد موسكو وليس في يد طهران. لم يعد سرّا أن روسيا تدخّلت عسكريا في سوريا من أجل إنقاذ إيران التي اكتشفت أنّها عاجزة عن إيقاف بشّار الأسد على رجليه. تدخّلت إيران في سوريا منذ اندلاع الثورة الشعبية في آذار ? مارس 2011. كان تدخلها بشكل غير مباشر في البداية قبل أن يصبح هذا التدخل مفضوحا، خصوصا مع مقتل جنرالات من ?الحرس الثوري? دفاعا عن النظام العلوي الذي ورثه بشّار الأسد عن والده. هذا النظام الذي تحوّل، مع الوقت، إلى نظام عائلي مرتبط مباشرة بإيران أكثر من أي شيء آخر. على الأرض، دخلت روسيا طرفا مباشرا في الحرب على الشعب السوري بعدما اكتشفت إيران أنّها عاجزة عن إنقاذ نظام سلّمها كلّ شيء. سلّمها سوريا وسلّمها لبنان. حلّت الوصاية الإيرانية مكان الوصاية الإيرانية ? السورية على لبنان نتيجة مغامرة مشتركة استهدفت التخلّص من رفيق الحريري في شباط فبراير من العام 2005. هل في استطاعة روسيا التي تعاني من أزمات داخلية مستفحلة ناتجة عن هبوط أسعار النفط والغاز أوّلا حماية بشّار الأسد ونظامه؟ هل يكون حظ روسيا في سوريا أفضل من حظ إيران؟ الأرجح أن روسيا ستكون قادرة على إنقاذ إيران في سوريا، لكنّها لن تستطيع إنقاذ النظام الذي يعاني من غياب أيّ دعم شعبي له. كان ملفتا ترافق الاجتماع المنعقد في فيينا مع تصعيد عسكري روسي على الأرض في كلّ الاتجاهات، خصوصا في محيط دمشق حيث تعرّضت دُومَا لمجزرة ذهب ضحيتها العشرات. شمل التصعيد درعا والجولان. كان الهدف تأكيد عمق التنسيق الروسي- الإسرائيلي في سوريا ومدى حرص إسرائيل على نظام بشّار. من يتمعّن في العمق في الوضع الروسي يكتشف أن كلّ ما تفعله موسكو حاليا هو استغلال للغياب الأميركي لا أكثر. ليس في واشنطن إدارة تستطيع القول إن الحرب الباردة انتهت وأن لا طائل من التدخل الروسي في سوريا، لا لشيء سوى لأن مثل هذا التدخّل يحتاج إلى إمكانات ليست في حوزة ذلك الطرف الذي أرسل طائرات وقوات وأسلحة إلى منطقة الساحل السوري. هل جاءت روسيا لإنقاذ النظام السوري أم جاءت لإنقاذ إيران في سوريا؟ حضرت إيران مؤتمر جنيف أم لم تحضره، لم تعد تلك هي المسألة. لا يمكن إنقاذ نظام مرفوض من شعبه أوّلا. ولا يمكن لقوتيْن مفلستيْن ومأزومتيْن جعل مثل هذا النظام يقف على رجليه يوما. تحتاج روسيا إلى من ينقذها من أزماتها، بدءا بالاقتصاد المنهار وصولا إلى المجتمع المهترئ. روسيا من الدول القليلة التي يتناقص فيها عدد السكّان. روسيا، فوق ذلك كلّه، دولة لا حديث فيها سوى عن الفساد، خصوصا في الأوساط المحيطة ببوتين. أمّا إيران فلا يشبه الوضع فيها سوى الوضع الذي كان سائدا في سوريا عشّية اندلاع الثورة الشعبية. هناك كره ليس بعده كره من الإيرانيين لنظام يصرف الأموال في لبنان وفلسطين واليمن، على سبيل المثال وليس الحصر، فيما نصف الشعب الإيراني تحت خط الفقر! جاءت روسيا لإنقاذ إيران. جاءت إيران قبل ذلك لإنقاذ النظام. روسياوإيران في حاجة الآن إلى من ينقذهما، خصوصا أنّ هناك نظاما لا يستطيع أحد إنقاذه. يستحيل إنقاذ النظام لأنّ السوريين يرفضون بأكثريتهم الساحقة، حياة الذلّ التي عاشوها طوال نصف قرن. الأهمّ من ذلك والأخطر، أن النظام لا يمتلك أي شرعية من أي نوع كان، فضلا عن وجود شرخ طائفي عميق يزداد اتساعا يوما بعد يوم، خصوصا بعدما أصرّ بوتين على إشراك الكنيسة الروسية في الحرب التي تستهدف الشعب السوري. لا شيء ينقذ النظام السوري. حضرت إيران إلى فيينا أم لم تحضر. حضرت ربّما لسبب واحد. يتمثّل هذا السبب في أنها مصرّة على أن تكون من بين الذين سيشاركون في صلاة الغائب على روح النظام. إنّه النظام الغائب الذي أكّد لقاء فيينا أنّه صار في ذمّة التاريخ. بين النظام السوري الراحل وإيرانوروسيا والسياسة الأميركية التي تعكس حالا من الضياع الذي قد يكون مقصودا، هناك دوَران في حلقة مغلقة. مثل هذا الدوران في هذه الحلقة التي اسمها الحرب على الشعب السوري لا يمكن أن تقود سوى إلى نتيجة واحدة. هذه النتيجة هي الانتهاء من سوريا التي عرفناها. من هذا المنطلق يبدو مدير الاستخبارات الفرنسية برنار باجوليه على حق عندما يقول إن الشرق الأوسط الذي عرفناه لم يعد موجودا. بدأ الزلزال في العراق في العام 2003. منذ ذلك التاريخ، بدأت عملية إعادة رسم خارطة الشرق الأوسط. من سيرسم خرائط الدول في النهاية هو الوقائع على الأرض، وليس أنهار الدم الذي سال وسيسيل. ليست إيران من سيتكفل برسم الخارطة الجديدة للمنطقة، حتى لو كان لديها شريك روسي وحتّى إن كان هناك تواطؤ أميركي معها. إيران، التي نصف شعبها جائع، ليست قوّة عظمى، وروسيا ليست سوى خليفة الاتحاد السوفياتي الذي كان قوّة عظمى لا أكثر ولا أقلّ. كان فعل ماض... إلى إشعار آخر. قالوا عن الندوة الفكرية محمد الشيخ: ضحكات فوكو ودموع طيب تيزيني كان فوكو يرد على أولئك الذين ما يفتأون يعيبون عليه عدم ذكر اسم «ماركس» في كتبه، بأن أولئك الذين «يعشق» فكرهم إنما «يوظفهم»، أو بالأحرى «يستعملهم» أو «يُثْمِرُهُمْ»، من غير ما حاجة مسيسة منه إلى أن «يتلو» أسماءهم بكرة وأصيلا. كان ذلك، في رأيي، التوظيف المثمر لماركس. ولا شك، عندي، أن شبح ماركس لكي نُذَكِّر بكتاب مفكر آخر من حجم فوكو (جاك دريدا) لا يزال يخيم على الفكر العالمي، فأسئلة ماركس التي طرحها بجرأة كبيرة وبنباهة فائقة على الفكر الرأسمالي الليبرالي لا تزال حية، وذلك على الرغم من كل «الضربات» التي تلقتها الماركسية عن حق أحيانا، وعن غير حق أحيانا أخرى بعد انهيار الكثير من الأنظمة السياسية التي كانت تنتسب إليها. أما أصحاب مشاريع القراءة «المادية التاريخية» للتراث ولا شك أن من أبرزهم طيب تيزيني فكان بعضهم، عكس فوكو تماما، يُكثر من ذكر ماركس، لكن من غير أن «يثمره» الإثمار الذي يليق به، والذي أجد أن أهمه هو «ما لم يفكر فيه» ماركس عندما فكر في ما فكر؛ نحو ما قام به ماكس فيبر مثلا. لهذا السب، عادة ما كنت ولا أزال أتحفظ من «تنزيل» أي منهج «اصطنعه» صاحبه على مجال غير المجال الذي اشتغل عليه واضع المنهج نفسه. أكثر من هذا، كنت ولا أزال أرى أن المنهج في الفلسفيات لا يكاد يستعمل إلا «مرة واحدة». ولا تفارقني بهذا الصدد صورة «الموظف الفلسفي» الذي جلس في مكتب «ماركسي» يستدعي «ملفات» الفلاسفة المسلمين ويدمغ عليها: هذا ابن رشد، مثلا، فيلسوف «مادي» «ثوري» ندمغ عليه بدمغة «الثورة» و»التقدمية»، وذاك ابن سينا، مثلا، فيلسوف «مثالي» و»رجعي» ندمغ على ملفه بدمغة «المحافظة» و»الإقطاعية». ففي ذلك أبأس صور الكافكاوية على الإطلاق. ترى، ما الذي بقي من صورة «الموظف الماركسي» ومن وظيفته؟ لكن، دعنا نرسم، من جانبنا، صورة أخرى: سأل صحافي برازيلي ذات جولة لميشيل فوكو في البرازيل هذا المفكر: «لكن، في نهاية المطاف، من تكونون يا ترى؟ وما هو تخصصكم؟ ومن أي موقع تتحدثون؟» وكان هذا هو مطلب «الإدلاء بالهوية» الذي لطالما كرهه فوكو بأشد كره يكون. وقد تقدم فوكو في كتابه «أركيولوجية المعرفة» بالجواب التالي عن سؤال الهوية: «لا، لا، أنا لا أوجد حيثما تتعقبونني، ولكن حيث أرمقكم وأنا أضحك ... لا تسألوني من أكون ولا تطلبوا مني أن أبقى أنا هو هو: هذه أخلاق الحالة المدنية؛ وهي أخلاق تحكم أوراق الهوية الثبوتية. أَلا فلتتركنا هذه الأخلاق أحرارا لما يكون الأمر يتعلق بالكتابة». في نهاية المطاف كان جواب فوكو عن سؤال الصحافي البرازيلي: «من أنا؟ أنا قارئ». أما طيب تيزيني، فإنه عندما تحدث عن مشروعه الفكري في صلته بالمستقبل ذرف دموعا كثيرة. أعلن أنه راجع كل مشروعه، إلا شيئا واحدا ليس يمكنه أن يراجعه: ثقته بأن الإنسان هو صانع التاريخ، أكان ذلك الصنع على جهة الإيجاب أم كان على جهة السلب. وكذلك تكون همة كل واحد من الرجلين: المفكر المتختل الماكر الذي يطلق القهقهات، كل يوم هو في شأن، والمفكر الإيديولوجي الذي يذرف الدموع على واقع كليل تهاوى كواكبه. صرخ فوكو عند اكتشافه هول ما ارتكب من سوء تقدير للثورة الإيرانية: «لا، أنا لست بالمفكر الاستراتيجي»، وإنما كان الرجل، «قارئا تكتيكيا»، وبكى طيب تيزيني عندما اكتشف فظاعة ما يمكن أن يفعله «الإنسان» السوري بالإنسان السوري، وعندما انهارت قراءة التراث أمام شبهة الثورة، وحشر من قبره حشرا المكبوت المدفون منذ قرون والذي كان يُعتقد أنه مات وما مات ولكن شبه لهم: العنف. عبد اللطيف فتح الدين: واقع حال ورهان فكر تنظيم شعبة الفلسفة للندوة الفكرية حول أعمال المفكر العربي طيب تيزيني، تحمل أكثر من دلالة، خاصة في خضم الوضعية التي يعيشها العالم العربي عامة وواقع وطن طيب تيزيني، الذي يعيش على إيقاع والتفجير والتقتيل...ومن ثمة يبقى من بين رهانات هذه الندوة، معاينة أن الفلسفة العربية المعاصرة تواجه تحديات خطيرة ترهن وجود الإنسان ومصير الأرض التي يسكن فيها، تحديات واقعية وفكرية، داخلية وخارجية. ذلك أن استفحال الشك في العقل ولواحقه النظرية والعملية، من علمٍ وفلسفةٍ وحرية وديمقراطية وحقوق إنسان، وطغيان ثقافة اليأس والعدمية والانغلاق على الهويات الضيقة غير القابلة للحياة، جراء شعور مرير بالإحباط والفشل على كل المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، كل هذا يُفقِد الإنسان ثقته في نفسه وفي قدرته على التحدي والإبداع. فإذا أضفنا إلى ذلك التحديات الخارجية المتمثلة، من جهة، في المواجهات الساخنة الفكرية والعملية بين الذات والآخر (الغرب) والتي تركت جروحا كبيرة في الضفتين معا في العقود الأخيرة ؛ ومن جهة ثانية، في التدفق الهائل لسيل من الأسئلة والمفاهيم والمعارف والتقنيات والعلمية الجديدة والرؤى الفلسفية غير القابلة للإحاطة... لأدركنا مدى اللَّبس الذي يتخبط فيه الإنسان العربي اليوم. لقد تراكمت الأخطاء السياسية والتاريخية والاقتصادية والثقافية في العالم العربي إلى درجة أضحت تهدد بكوارث تاريخية كبرى أدخلت العالم العربي في نفق مسدود، أهم علاماته سيادة التطرف الأعمى بمختلف أجناسه وفصوله، وغياب حرية التفكير والتدبير. وقد أجمع المتتبعون على أن السبب الرئيسي لهذا الوضع يعود بخاصة إلى غياب الفكر النقدي. نعم، لا يمكن أن ننكر بأن للفكر العربي تقاليد مشهوداً بها في النقد واللوم الذاتي، غير أن هذا النقد كان في غالب الأحيان نقدا إيديولوجيا أو سياسيا أو طائفيا، والحال أن الإنسان العربي يحتاج بخاصة إلى النقد الفلسفي، نقد المفاهيم والمسلمات والمعتقدات والصور الراسخة عن الذات وعن الآخر معا. في هذا الجو المشحون بالأسئلة والتحديات والعوائق داخليا وخارجيا، أجمع كل المتدخلين، في ندوة التراث والمستقبل، على أن لا مناص من الفلسفة لإعادة بناء الإنسان وترتيب البيت الداخلي للمجتمعات العربية بروح من النقد والعقلانية والحرية والحوار والتسامح، مؤكدين بذلك على راهنية الطرح التيزيني. وهنا نتساءل ما الذي يمكن للفلسفة أن تقدّمه لنشر ثقافة جديدة، ثقافة غايتها الخلق والتحدي، لوضع العالم العربي في طريق الحداثة والتنوير، كي يحتل المكانة اللائقة به في الفضاء العمومي لعالمنا المعاصر؟ ما الذي يمكن أن تفعله الفلسفة من أجل خلق إنسان جديد قادر على الإبداع والمقاومة حتى لا ينهار عالمه أمام عينيه؟ حسن الوفاء: بورتريهات أن تُقْدِم شعبة الفلسفة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بابن مسيك (البيضاء) على تنظيم ندوات فكرية كل سنة لهوَّ الأمر الذي يجعل هذه الشعبة الفتية تفي بوعد قُطع قبل كل اتفاق. ولربما هو الوعد الذي يُفصح عنه عمق العمل الجاد الذي تقوم به لتشخيص الوضع التاريخي للوعي العربي، من خلال إنجاز بورتريهات لمثقفين أشداء، لم يذخروا الجهد والوسع لتخريج فكر عربي معاصر نابض بالحياة، من عيار عبد الله العروي، ومحمد عابد الجابري، وهشام جعيط، وطيب تيزيني، وناصيف نصار، وآخرين. يستشعر المرء، وهو يواظب على هذا الحدث الهام، الذي تنجزه الشعبة كل سنة، أنه يعيش أزمنة عديدة للوعي والفكر. ومهما اختلفت وتغيرت هذه الأزمنة فإن السؤال الذي يستغرقها كلها، كان ومازال، هو: ما النهضة العربية؟ إنه سؤال-التزام؛ معه نحس بأهمية الفكر وبضرورته في عالم يترصد هذا الفكر، ويقصد عنوة الزج به إلى زاوية الصمت، لأنه عالم تتبعثر فيه أطراف الفكر فينقلب كفرا، مثلما تتبعثر أحوال شعوب نقاسمها الذاكرة واللغة. ومعه، كذلك، نتعلم أن الفكر ليس ترفا ولا ينبغي له، بل هو العزم عينه، ولك أن تقول إنه الصبر والجَلد اللذان يَدُكَّان الأرض المتكلٍّسة لوعينا المخنوق، والمشدود إلى ذاته حد الغثيان. في هذه البورتريهات يظهر أن للفكر وجوه تنطق وتتكلم، وليس حركة مجهولة للكلام. وأن تكون للجامعة وجوه لهُوَّ بحق الدرس الإنساني الذي نعيشه هناك، في حضرة السؤال ذاك، ومع أهل العزم أولئك. محمد بوقيدي: منسوب نقدي عال، يتجاوز الإطراء والمدح إن الرجل، المحتفى به في هذه الندوة، قامة من قامات الفكر العربي المعاصر، يستحق أكثر من ندوة، تسلط الضوء على ما أنتجه، وما زال ينتجه في مجال الفكر من دون كلل أو ملل، في ظل أوضاع سياسية، على وجه الخصوص، تتسم بالعنف المادي والرمزي كليهما. والندوة التي أقدمت شعبة الفلسفة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك على تنظيمها يوم الأربعاء 28 أكتوبر 2015 احتفاء بالأستاذ والمفكر العربي السوري طيب تيزيني، والتي توزعت أشغالها على ثلاث جلسات، جلستان في الصباح انطلاقا من الساعة العاشرة صباحا والجلسة الثالثة انطلاقا من الرابعة بعد الزوال بقاعة عبد الله العروي ،تعد منارة تستحق التنويه والتشجيع، وتدل على أن هذا الوطن يزخر بطاقات هائلة خلاقة كلها إصرار وعزم على مواصلة مسيرة الإنتاج الفكري، متحدية الشروط الخارجية المعيقة، والسياق التاريخي المتسم بسيادة النزعات النكوصية والإحيائية التي لا تخدم،في الأصل، إلا الأطراف الخارجية - الدول الغربية تحديدا - التي لا تسعى لأن يخرج العالم العربي من الأوضاع التي يتخبط فيها، بل إنها تحاول بكل الوسائل بأن تعرقل أية محاولة جادة لإرساء أنظمة ديمقراطية تكون فيها السيادة للشعوب بالدرجة الأولى...! وإن الاساتذة الذين ساهموا بمداخلاتهم في هذه الندوة، أبانوا عن منسوب نقدي عال، يتجاوز الإطراء والمدح، في قراءتهم لمشروع طيب تيزيني الفكري، ولا أدل على ذلك من تنويه هذا الأخير نفسه، في كلمته التي اختتمت بها الندوة، بل وإعجابه بالمداخلات التي تابعها من أولها إلى آخرها. والنقد هنا بمعناه الإيجابي لا السلبي فحسب. والجميل في هذه الندوة هي أنها همزة وصل بين الأجيال، والاتصال المباشر مع الطلبة الذين تتاح لهم الفرصة، للتعرف عن قرب، على رجال الفكر في العالم العربي، والاقتراب من إنتاجاتهم ورصيدهم في مجال الفكر العربي المعاصر، والطريقة التي عالجوا بها القضايا التي اشتغلوا عليها، والإشكاليات التي تصدوا لها، والخلاصات التي توصلوا إليها....! إن الاساتذة الذين يسهرون على عقد مثل هذه الندوات التي دأبت شعبة الفلسفة على تنظيمها منذ سنوات خلت، يستحقون كل التقدير والاحترام، خاصة وأن الأوراق التي تقدم فيها يتم الحرص على نشرها في كتب لتصل إلى عامة القراء الذين لم يتسن لهم تتبعها، ويتم توثيقها لتطلع عليها الأجيال اللاحقة.