ميشيل فوكو المفكر الملتزم أو فيلسوف الحقيقة بعد 30 سنة من وفاته عام 1984 لا يزال الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو حاضر التأثير في مجالات الفكر والسياسة والاقتصاد وعلم الاجتماع وعدد من المشارب الأخرى. ليس في فرنسا فحسب.. ولكن أيضاً على الصعيد العالمي، فهو أحد المراجع الفكرية والفلسفية الفرنسية، إن لم يكن المرجع الأول، الأكثر تردداً في الكتابات والنقاشات في تلك المجالات. هذا الفيلسوف، المصنف كمرجع عالمي في مجال العلوم الإنسانية، كان موضوع محاضرة نظمتها جريدة البيان ومجلة الأزمنة الحديثة، يوم الاثنين الماضي، بالدار البيضاء، نشطها الفيلسوف الفرنسي جون-لو تيبو الذي تناول موضوع «ميشيل فوكو والروحانية السياسية». اختيار هذا الموضوع تم، حسب ورقة تقديمية لجريدة البيان، بالنظر لكون بعض الآراء، سواء الماضية أو الحالية، فرضت نظرة أحادية لواقع يكشف باستمرار وضعه المعقد والذي، في ظل ظواهر التوسع الإعلامي، يدخل متاهات ويضيع في دوامات تجعله غير مسموع البتة. وشددت الكلمة التقديمية لجريدة البيان على أهمية هذا اللقاء/الحدث الذي يسلط الضوء على ميشيل فوكو الذي أحدث ثورة في الهوية وأحدث رجة في العديد من المفاهيم. في الاتجاه ذاته، شدد عبد الله البلغيثي العلوي رئيس تحرير مجلة «الاأزمنة الحديثة» على الضرورة الاستعجالية المتمثلة في الاهتمام بفلسفة فوكو والرهانات التي يمثلها الجهاز المفاهيمي الذي تركه هذا الفيلسوف. كلمة مقتضبة لعبد الله البلغيثي الذي وجه تحية لجريدة البيان وللضيف الفيلسوف الفرنسي جون –لو ثيبو ، أشارت إلى عمق العمل الفلسفي لميشل فوكو وراهنيته في زمن تحتاج فيه المجتمعات إلى نظرة فلسفية ثورية وملتزمة. وهو ما شكل منطلق المحاضر الفرنسي الذي قدم نبذة عن ميشيل فوكو، معتبرا إياه من أهم فلاسفة النصف الأخير من القرن العشرين، وأكثرهم شهرة وإثارة للجدل في الفلسفة الغربية المعاصرة . لكن ما علاقة ميشيل فوكو بالثورة الإيرانية؟ وما هي مقاييس المحددة والتي تدفع للقول جزما أن فوكو مفكر ملتزم ؟ وهل نسمح لأنفسنا أن نقول إنه فيلسوف الحقيقة؟ هذا ما حاول تناوله جون لو تيبو، الفيلسوف الفرنسي، والكاتب، وعضو لجن تحرير مجلة «Esprit»، في الندوة التي حملت موضوع «ميشيل فوكو والروحانية السياسية» . بدأ جون لو تيبو محاضرته بمخل لا بد منه. فقد استعاد شريط الزيارتين التي قام بهمام ميشيل فوكو إلى إيران في بداية الثورة الإيرانية، ما حرره من انطباعات عنها في مقالات نشرت في الصحافة الفرنسية والإيطالية، أثارت ردود فعل مختلفة داخل الأوساط الثقافية في هذين البلدين وفي أوروبا. يقول جون لو تيبو في مدخله إن فوكو جاءته فرصة للتوجه إلى إيران كمراسل لصحيفة «كوريير ديلا سيرا» الايطالية اليومية حين أخذت الاحتجاجات ضد نظام الشاه تشتد مطلع سنة 1987، وحين جاء شهر غشت كان الإيرانيون ينخرطون في الإضرابات والتظاهرات. عاش فوكو أياما طوالا مع المضربين والمتظاهرين في الشوارع، قبل أن يحرر مقالته الأولى التي حلل فيها الموقف الغربي المعتاد إزاء أزمة إيران، مؤكدا فيها، بأسلوب المقتنع، أن الشاه ليس رجل دولة من طراز رفيع، إلا أنه «يجسد قوى التحديث والعلمانية، وهكذا يملك المستقبل إلى جانبه، أما معارضوه فما هم إلا حشد من الفلاحين المتخلفين والمتعصبين المتدينين الذين يتوجب عليهم التكيف مع حقائق العالم المعاصر» ظلت هذه قناعة فوكو، رغم تواجده وسط المعارضين للنظام، وفي قلب الساحة حيث الحشد الطلابي يدير حلقات النقاش، مخاطب فيها ميشيل فوكو نفسه بلغة العقل والمنطق عن ما أسموه» حلم الإيرانيين بالحكومة الإسلامية». تهيأ لفوكو، حينذاك، أنه يشهد انفجارا ل «روحانية سياسية» شبيهة بتلك التي اكتسحت أوروبا في عهدي الكالفينية وكرومويل، دون أن يرتقي هذا الانفجار إلى مستوى صياغة برنامج سياسي، رغم إثارته للإعجاب. توالت بعد ذلك مقالات ميشيل فوكو عن إيران، يقول المحاضر، عرضته لانتقادات جارحة. هناك من قال ، ردا على فوكو، إن أي حكومة إسلامية محكوم عليها بالانزلاق نحو نوع ما من «فاشية متحجرة»، فيما ادعى آخرون أن اهتمام فوكو ب «الروحانية» أصابه بالعمى، مثل العديد من الغربيين. انتقادات أثبتت الأحداث التي ستشهدها إيران صوابها. ويبدو أن ميشيل فوكو لم يتسرع في الرد عليها. فعندما عاد الخميني منتصرا، جابهت إيران انبعاثا شعبويا رجعيا تسلطيا، مما حدا بميشيل فوكو إلى أن يكتب رسالة مفتوحة إلى رئيس الوزراء مهدي بزركان يعرب فيها عن فزعه من خطر قيام نظام يسحق الحقوق والحريات. ويقول جون لو تيبو إن معالجة فوكو للمسألة الإيرانية لم تتعد 15 مقالة ومقابلة ظهرت في كتاب تحت عنوان «عن فوكو والثورة الإيرانية». مؤلف يرى المحاضر أنه يتهم فوكو بأنه يفضل العلاقات الاجتماعية ما قبل الحديثة على العلاقات الحديثة، قبل أن يضيف « لا غرابة في ذلك لأن مؤلف الكتاب لم يفهم كتابات فوكو عن تواريخ الجنون والمستشفيات والمدارس، وحاول أن يضيف عمقا فلسفيا لاتهاماته بالإيحاء أن فوكو وقع تحت تأثير الفيلسوف الألماني هايدجر وفكرته عن الوجود باتجاه الموت، رغم أن هايدجر كان يحاول توضيح الفرق بين إحساسنا بالمستقبل وإحساسنا بالماضي». جون لو تيبو سيأخذ الحضور بعد ذلك إلى مدارات حاول من خلالها وضع حد للخلاف حول شخصية الفيلسوف الفرنسي وسر الخمينية. علاقة الصحفي بالخميني قال لو وهو يستعرض عددا من مؤلفات ارتبطت بشخصية فوكو، إما كمؤلف لها، أو كدراسات حاولت الغوص في عمق شخصيته، إن كتاب «فوكو صحافياً... أقوال وكتابات» يعتبر عرضاً لفلسفة فوكو الصحافي الذي يتحدَث بمفاهيم الفلسفة، والفيلسوف الذي تستهويه السياسة فيتحدّث لغتها محلِلا الإسلام الإيراني، آليات السلطة، الجنسانية، الثورة الإيرانية والخمينية. يحضر الفيلسوف ميشيل فوكو ملخِّصاً ومستدركا لبعض القضايا الفلسفية التي فاتته الإشارة إليها في مؤلفاته الكبرى مثل «آركيولوجيا المعرفة وتاريخ الجنسانية»، وناقدا لبعض النظريات الفلسفّة كالوجودية والتحليل النفسي، ومتحدثاَ في مواضيع أخرى كثيرة كالموت، العدالة، الهوية، والسياسة الصحية. يتضمن الكتاب مجموعة مقالات لفوكو حول إيران، أبرزها «الدين ضد الشاه، والزعيم الأسطوري للثورة الإيرانية، وبما يحلم الإيرانيون؟»، إلى جانب بعض الحوارات الرصينة معه. ويصب جوهر الكتاب في خانة العلاقة الملتبسة والمثيرة للسجال بين الفيلسوف الفرنسي والثورة الخمينية ومسارها. فقد ظل موقف فوكو من الخمينية مدار جدل لفترة طويلة، يقول المحاضر، وصدرت حوله عشرات الكتب بهدف معرفة السر الذي جعل فوكو يميل إلى ثورة انتهت بسيطرة استبدادية على إيران. وقد سمحت وفاة فوكو المبكرة بالنقاش المفتوح. لم يكن ميل فوكو نحو الخمينية إلا نتيجة مسار سياسي. انحسر النشاط السياسي في أواخر السبعينيات بعد خيبة الأمل تجاه الكفاح اليساري، وتخلى عدد من الشباب اليساريين عن معتقداتهم ليصبحوا ما يسمى «الفلاسفة الجدد»، وغالباً ما ذكروا بأن فوكو يمثِّل مرشدا أساسيا لهم، أمر بدا أن مشاعر فوكو كانت مختلطة تجاهه. آنذاك، يقول جون لو تيبو، أطلق فوكو مشروعاً من ستة مجلدات بعنوان «تاريخ الجنسانية» لم يتمكن من إنهائه، الأول منها بعنوان «إرادة المعرفة» فيما لم يظهر المجلد الثاني والثالث إلا بعد ثماني سنوات، وقد كانا مثار استغراب القراء نظرا إلى الأسلوب التقليدي لهما، وموضوعاتهما ومقاربتهما لمفاهيم أهملها فوكو في ما سبق. وبينما بلغت التظاهرات ضد الشاه في إيران أوجها، عمل ميشيل فوكو مراسلاً صحافياً خاصاً لجريدتي «كوريي ديلا سيرا» و»لونوفل أوبزرفاتور». فزار إيران للمرة الأولى في سبتمبر 1978، ثم قابل الخميني في منفاه في ضواحي باريس في أكتوبر من العام نفسه. سافر إلى إيران ثانية في نونبر، عندما بلغت الثورة الإيرانية ضد الشاه أوجها. خلال هاتين الرحلتين، كانت مقالات فوكو تتصدر الصفحة الأولى من جريدة كوريي ديلا سيرا»، وقد نشر مقالات أخرى عن إيران في صحف ومجلات فرنسية، بادرت مجموعة ناشطة من الطلاب إلى ترجمة واحدة منها على الأقل إلى الفارسية لنشرها على جدران جامعة طهران في خريف عام 1978. أبرز فوكو سلسلة من المواقف النظرية والسياسية المميزة في الثورة الإيرانية. الحساسية السياسية حيال الواقع يتضح من مقالات فوكو ولقاءاته في إيران، يقول جون لوتيبو، أنه اهتم بعدد من أفكار شكلت دوراً مركزيا في تفكيره خلال منتصف السبعينيات وهي: مقاومة سلطة الدولة، دور المثقفين، والتضاد بين الشرق والغرب. ولكن وجدت أفكار جديدة عدة طريقها إلى عقله في الثمانينيات وهي: الروحانيات السياسية، النقد في اعتبار أنه مشروع أخلاقي إيجابي. كذلك يمكن أن نرى في دراسة فوكو عن إيران حماسة متفائلة وضعت أوراقه كافة في خدمة إمكانات واحتمالات جديدة هي مدعاة إلى الاشتباه والشك في ما يتعلق بالحساسية السياسية حيال الواقع. فقد اعتبر فوكو من دون شك أن الثورة الإيرانية هي نضال شعب لأجل التحرر من الاستبداد، لكنه لم يكن يتقاسم النزعة الغربية الإرادية والإيمان الغيبي بالديمقراطية وحقوق الإنسان من دون نسيان المساواة بين الجنسين، والتي قد يجدها كثيرون، دوغمائيات مثل غيرها. هناك مقالتان أخيرتان بقلم فوكو عن إيران، نشرتا بعد وصول الخميني إلى السلطة وبعد تأسيس «الحكومة الإسلامية». هاتان المقالتان، يقول المحاضر، سيطرت عليهما نبرة أسف وخيبة أمل، لاسيما في ما يتعلق بإعادة تقييم فوكو للمثل التي حرضت وعبأت اهتمامه بالثورة الإيرانية. أنا لا أعلم من أنا نادرا ما كان ميشيل فوكو يكشف خباياه للصحافة، يقول جون لو تيبو، وحين حدث ذلك صرح أنه ليس «كاتبا، فيلسوفا، ولا صورة عظيمة من حياة مفكر: أنا معلم. هناك ظاهر اجتماعية تشغلني باهتمام كبير. أنا لا أريد أن أصبح نبيا، أنا لا أرى إنه من الضروري أن أعلم بالضبط من أنا. الاهتمام الأساسي في الحياة والعمل أن تكون شخصا آخرا عن ما كنت عليه في البداية. لو كنت تعلم عندما تبدأ بكتابة كتابك ماذا ستقوله في النهاية، لن تملك الشجاعة في كتابته». ما هو حقيقي بالنسبة للكتابة، وبعلاقة الحب، أيضا هو حقيقي بالنسبة للحياة. هذا ما ظل فوكو يردده. اللعبة جديرة بالاهتمام لغاية الآن لأننا لا نعلم ما سيكون بالنهاية. حقله كان هو تاريخ الفكر. الإنسان هو كائن فكري. الطريقة التي يفكر بها تعود للمجتمع، السياسة، الاقتصاد والتاريخ، وأيضا تعود بشكل عام جدا للتصنيفات العالمية، والبنى الشكلية. ولكن الفكر بشكل عام هو شيء آخر يختلف عن العلاقات الاجتماعية. الطريقة التي يفكر بها الناس بشكل حقيقي لم تحلل بشكل كاف عن طريق التصنيفات العالمية للمنطق. بين التاريخ الاجتماعي والتحليل الرسمي للفكر هناك مسار ، ممر، محتمل أن يكون ضيق جدا- الذي هو المسار التاريخي للفكر. كثيرا ما سئل ميشل فوك، يقول جون لوتيبو، ماذا سيحدث، طالبين منه تقديم برنامج للمستقبل.كان يرد بالقول إنه حتى في أفضل النوايا، هذه البرامج تصبح أداة، وجهازا للقمع. روسو ، عاشق الحرية، استخدم في الثورة الفرنسية ليؤسس نموذجا للقهر الاجتماعي. ماركس خوف به عن طريق الستالينية واللينية. قانون فوكو هو دفع الناس لمعرفة كم هم أحرار أكثر مما هم يشعرون، و إن الناس يقبلون بشكل حقيقة، ودليل، بعض الموضوعات التي أسست بلحظة معينة خلال التاريخ، وهذا الذي يدعى دليل من الممكن أن ينقد ويقوض. لأن تغيير شيئا في عقول الناس، هو دور المفكر. فوكو يعيد أحيانا مقاربة المفكرين المهمشين بدلا من أخذ أمثلة من التيار السائد للتاريخ، يتعامل مع صور ، ومكونات المنبوذين لسببين: الآليات السياسية والاجتماعية بواسطة الطريقة التي وضعت بها المجتمعات الغربية الأوربية بنظام وهي ليست واضحة جدا، نسيت، أو أصبحت اعتيادية. هم جزء من معظم المشاهد الاعتيادية، ولكنا لا نستوعبهم لحد الآن. لكن معظمهم بشر مصدومين قديما. إنه هدف من أهداف فوكو أن يعرض للناس أن الكثير من الأشياء هي جزء من مشاهدهم إن الناس عالميا- هم نتيجة لتحولات اجتماعية دقيقة. كل تحليله هو ضد الفكرة الخاصة بالضرورات العالمية في الوجود الإنساني. هم يعرضون اعتباطية المؤسسات، ويعرضون حجم الحرية التي لازلنا نتمتع بها، وكم من التغيرات الممكن القيام بها. كل أعمال فوكو هي جزء من سيرته الذاتية. لسبب أو لآخر كانت لديه المناسبة ليشعر ويعيش هذه الأشياء. كتابات استهوت فوكو كان فوكو مستغربا عندما كتب اثنين من أصدقائه في بيركلي شيئا عنه، بأن هيدجر كان مؤثرا به. بالطبع كان أمرا حقيقيا، يقول المحاضر، ولكن لم يكن هناك أحد في فرنسا استوعب ذلك. عندما كان فوكو طالبا في عام 1950 ، قرأ هوسرل، سارتر، ميرلي بونتي. عندما تشعر بأثر غامر، أنت تحاول أن تفتح النافذة. بتناقض كاف، هيدجر ليس من الصعب جدا أن يفهمه رجل فرنسي. عندما تكون كل كلمة لغز، تكون في وضع سيء لفهم هيدجر. الكينونة والزمن «كتاب لهيدجر» صعب، ولكن كتبه الصادرة حديثا أكثر وضوحا. نيتشة كان بالنسبة له اكتشاف. شعر بإن هناك شيئا مختلفا عن ما تم تعليمه له. قرأه بشغف عظيم. من خلال نيتشه، أصبح ميشيل فوكو غريبا عن كل هذا. لا ندري إن كان مندمجا في الحياة الاجتماعية والفكرية الفرنسية. قال في آخر حياته، «لو كنت أصغر، لهاجرت إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية». إضاءة يعد الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو « 1926 -1984 «أهم فلاسفة القرن الماضي، الذي شكل ثورة فكرية انقلابية على نظام الأفكار في العالم كله وليس الغربي وحسب.. عاش ميشيل فوكو في كنف أسرة ميسورة في مدينة بواتييه. كان والده جرّاحاً كبيراً وأراد لابنه أن يتبع نفس المسار. لكن الابن كان مأخوذاً منذ طفولته بعلم التاريخ. كانت حياته المدرسية مزيجاً من النجاح والفشل. حيث كان ضعيفاً جداً في مادة الرياضيات ومبرزا في اللغة الفرنسية والتاريخ. ولم يحصل بمادة الفلسفة في امتحانات الحصول على الشهادة الثانوية سوى على 10 درجات من أصل 20، أي حصل على الحد الأدنى المطلوب للنجاح. دخل ميشيل فوكو إلى مدرسة المعلمين العليا التي كان من طلبتها قبله جان بول سارتر وريمون آرون وغيرهما من كبار مفكري فرنسا. ويصف «ديدييه اريبون» صديق فوكو وكاتب سيرة حياته تلك الفترة بكتابة ما مفاده: «كان يتخاصم مع الجميع ويبدي سلوكاً عدوانياً حيال الآخرين، ونوعاً من جنون العظمة. كان فوكو يحب إبراز العبقرية التي كان يدرك أنه يحملها. هكذا وجد نفسه بسرعة موضع شجب من جميع زملائه. واعتبروه نصف مجنون». حاول ميشيل فوكو «الانتحار» عام 1948 ليتم إنقاذه في المستشفى. ومما يُنقل عنه أنه أجاب أحد أصدقائه عندما سأله: إلى أين أنت ذاهب، بالقول: أنا ذاهب إلى أحد المتاجر كي اشتري حبلاً لأشنق نفسي. لكن بالتوازي مع نزعة الانتحار كان فوكو مثابراً جداً على العمل ونهماً في قراءة الكتب. خلال سنوات 1951 1955 عمل فوكو أستاذاً لعلم النفس في مدرسة المعلمين العليا بناء على طلب من الفيلسوف الفرنسي لويس التوسير. ومن خلال اهتمامه بعلم النفس خرج بعمل شهير آخر له هو «تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي». وكان قد نال شهادة الدكتوراه عام 1961 على أطروحة ناقش فيها نفس الموضوع. لا شك أن فوكو قد احتل، خاصّة فيما يتعلّق بشرح العلاقة بين السلطة والمعرفة، مرتبة المنظّر الفكري والفلسفي الأول بين فلاسفة ومفكري فرنسا في النصف الثاني من القرن العشرين. لقد فاقت شهرته تلك التي حظي بها عمالقة آخرون من جيله مثل جاك لاكان ، أحد ورثة سيغموند فرويد، وبيير بورديو، عالم الاجتماع، والفيلسوفين جيل ديللوز وجاك ديريدا. ومن الأقوال المعروفة التي كان قد نطق بها ميشيل فوكو تأكيده «أن القرن العشرين سيكون ديللوزيا»، أي نسبة إلى جيل ديللوز صديق فوكو و»منافسه « على الصعيد الفلسفي. ما يمكن قوله، دون الخوف كثيراً من اقتراف خطأ كبير، هو أن القرن العشرين هو بالأحرى «فوكويا نسبة إلى فوكو» بامتياز. لكن ميشيل فوكو لم يأبه كثيراً لمسألة المكانة الاجتماعية ولم يسع أبد إلى «النجومية». ذلك على خلفية رفضه العميق لقيم الاستعراض التي ولّدها المجتمع الاستهلاكي. بل جعل في مقدمة اهتمامه نقد تلك القيم والتشكيك بها على أساس أنها كانت بمثابة «أدوات» في خدمة السلطات في سعيها للسيطرة على المستويات الفردية والجماعية. مصدر التأثير الفكري والفلسفي الأول بالنسبة لميشيل فوكو يمكن أن نجده لدى الفيلسوفين الألمانيين فريدريك نيتشه ومارتن هايدغر. وقد مثّلت أعماله بجوهرها نقداً عميقاً للمعايير الاجتماعية السائدة وللآليات «العمياء» التي تنتهجها السلطات بغية ممارسة سيطرتها على الأفراد والمجموعات الخاضعة لها. ذلك عبر مؤسسات تبدو أنها «حيادية» مثل الطب والعدالة والعلاقات العائلية. كما أولى فوكو اهتمامه لدراسة ل»الهويات الفردية والجماعية» من خلال العلاقة مع الآخر ومع الذات. له العديد من الكتب المؤثرة في الفكر العالمي، مثل «نظام الأشياء»،» السلطة والمعرفة»، «تاريج الجنسانية «، «المجتمع والعقاب»،»تاريخ الجنون»، «نظام الخطاب»... الخ. وكان كتابه السلطة والمعرفة مؤثرا وفاعلا جدا بساحة الفكر العربي منذ أن وظفه إدوارد سعيد في كتابه الاستشراق. ويعتبر كتابه الذي يحمل عنوان «المجتمع والعقاب» الصادر عام 1975 « من الأعمال الشهيرة في شرحه لآليات عمل السلطة. ويؤكد فيه أن القرن التاسع عشر كان «فخورا» بتلك السجون، القلاع التي كانت تبنيها السلطات عند مشارف المدن وأحياناً داخلها. بدت تلك السجون أنها بديل «لطيف» للمقصلة «السابقة من جهة، ووسيلة لمعاقبة «الروح» وليس الجسد من جهة أخرى. ويجد فوكو أن هناك تشابها كبيرا بين قوانين «الحجر والعزل» التي سنتها السلطات الغربية في العصر الكلاسيكي لفترة ما بعد النهضة وبين السلوك الذي انتهجته العصور الوسطى ب»عزل» المصابين بمرض الجذام. بالتوازي كانت المؤسسات الكلاسيكية المتمثّلة في المستشفيات وغيرها من المنشآت الصحية مكرّسة خاصة لإيواء الهامشيين من فقراء ومتسولين ومجانين.