في مواجهة أزمة "السترات الصفراء" المتصاعدة، دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الفرنسيين إلى المشاركة في نقاش وطني كبير يهدف إلى تبديد غضب المحتجين، لكنه ما يزال يصطدم بالتشكيك. وبعد حوالي شهرين من التظاهرات وقطع الطرقات احتجاجا على سياسته المالية والضريبية، رسم الرئيس الخطوط العريضة لهذه المشاورات غير المسبوقة في "رسالة إلى الفرنسيين" بثتها وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي أمس الإثنين. وطرحت الرسالة أربعة محاور كبرى هي القدرة الشرائية والضرائب والديمقراطية والبيئة، وهي تعكس العناوين الرئيسية للمواضيع التي يطرحها في غالب الأحيان آلاف الفرنسيين من الطبقات الشعبية والوسطى الذين يتمردون منذ 17 نوفمبر 2018 على سياسة يعتبرونها غير عادلة. ويقترح الرئيس تنظيم النقاش حول ثلاثين مسألة، وهو في الوقت نفسه يرسم خطوطا حمراء، مثل إلغاء الضريبة على الثروة، غير أنه يفتح الباب أمام إصلاحات هامة مثل "استفتاء المبادرة المواطنيّة". لكنه من غير الوارد المساس بأي شكل من الأشكال بحق الإجهاض وعقوبة الإعدام وزواج المثليين. ونبه ماكرون في الرسالة إلى أن النقاش "ليس انتخابات ولا استفتاء". وسيتكلف وزيران هما وزيرة الانتقال البيئي، إيمانويل واغون، ووزير السلطات المحلية، سيباستيان لوكورنو، بالإشراف على هذا النقاش الذي يتولى أعضاء المجالس المحلية تنظيمه. وسيقوم ماكرون باختبار هذه الصيغة منذ الثلاثاء بزيارته بلدة "غران بورترود" (غرب) إلى جانب 600 رئيس بلدية ومسؤول منتخب في النورماندي، ثم سيجول بمناطق كثيرة على مدى شهرين لحضِّ الفرنسيين على اغتنام الفرصة للتحاور، على أن يرفع تقريرا عن نتائج النقاش في مهلة شهر بعد انتهائه. وقال المتحدث باسم الحكومة، بنجامين غريفو، إن "الفكرة تقضي بالذهاب إلى كل مكان، إلى كل مساحة من الأراضي ومن الجمهورية، وعدم نسيان أحد". ويستمر النقاش حتى منتصف مارس، وبعدها تدرس نتائجه وتصدر قرارات قبل نهاية أبريل. مجازفة كبرى وهي ثاني محاولة يقوم بها ماكرون لإخماد غضب المحتجين الذين أبقوا على تعبئتهم رغم الإعلان عن خطة بقيمة عشرة مليارات يورو لدعم القدرة الشرائية للفرنسيين الأكثر فقرا. ولفت الخبراء السياسيون وكاتبو الافتتاحيات، الاثنين، إلى أن النقاش ينطوي على مجازفة كبرى بالنسبة للرئيس. وكتب بول كينيو في صحيفة "ليبيراسيون" اليسارية قائلا: "ببادرته هذه تجاه الفرنسيين، فإن رئيس الدولة هو في الواقع مرشح ... لإنقاذ السنوات الثلاث المتبقية له في الإليزيه"، مضيفا أن "هذه المناورة شديدة الخطورة، لا سيما وأن مزاج البلاد يبقى مشاكسا للغاية". وطعن المتظاهرون بالنقاش قبل بدئه، فأنكر العديد من "السترات الصفراء" أي شرعية له، مؤكدين أن النقاش الحقيقي يجري اليوم "في الشارع". كما أثبتوا، السبت، تصميمهم بالنزول إلى الشارع بأعداد متزايدة بلغت 84 ألف متظاهر مقابل 50 ألفا في الأسبوع الماضي، وفق أرقام وزارة الداخلية. ومن جانب الأحزاب السياسية، فإن "التجمع الوطني" اليميني المتطرف يصف النقاش الكبير بأنه "خاو"، في حين يعتبر حزب "فرنسا المتمردة" اليساري المتطرف أن النقاش مجرد "تمويه". في المقابل، حذّر رئيس حزب "الجمهوريّين" اليميني المعارض، لوران فوكييه، من "مناورة فظة"، لكنّ المتحدّثة باسم الحزب اليميني المعارض، لورانس ساييه، أكدت أن حزبها سيقدم "مساهمته" من أجل "المشاركة في إخراج فرنسا من الفوضى". كذلك تمنى الأمين العام للحزب الاشتراكي، أوليفييه فوريه، أن يتمكن حزبه من "إسماع صوته"، وهو ما أعرب عنه أيضا رئيس البيئيين، يانيك جادو، محذرا "إذا تلاعب ماكرون على الفرنسيين، فهناك مخاطر بانهيار الديمقراطية أكثر". واثنت جمعية رؤساء بلديات الريف الفرنسي على رسالة ماكرون، معتبرة أنها "منصة إطلاق" للنقاش الكبير "تطرح التشخيص بشكل صائب"، غير أنها أبدت خشيتها من أن تقتصر نتائج النقاش على "ترتيبات" بحتة. وأظهرت استطلاعات للرأي جرت مؤخرا أن 32 إلى 41% من الفرنسيين المستجوبين ينوون "المشاركة بشكل ما" في النقاش، غير أن 29% فقط يعتقدون أنه سيفضي إلى "تدابير مفيدة". أما نسبة الفرنسيين المؤيدين ل"السترات الصفراء" فسجلت تراجعا رغم أنها ما تزال تعكس الغالبية. *أ.ف.ب