تذكر بعض كتب التاريخ أنَّ المغاربة قد ارتدوا عن الإسلام اثنتي عشرة مرة، ولم يستقر إسلامهم حتى أجاز طارق وموسى بن نصير إلى الأندلس، ولم يتمكنّ الدين الجديد من نفوس المغاربة إلا بعد سنوات طويلة من المد والجزر، ثم أصبح جزءاً من الهوية النفسية ونمطاً من الوجود، غيّر رؤية المغاربة للدين، وأصبحت لديهم شخصية روحية متشبثة بالإسلام ومحبة لرسول الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم عبر التفنن في إبداع قصائد في المديح النبوي والصلاة على الرسول، حيث اندمج المغاربة بعمق في بنية الدين الإسلامي وكانت لديهم إضافات في فهم النصوص التأسيسية، سواء في التفسير أو استنباط الأحكام، وغير ذلك من مظاهر الالتزام الديني على مستوى الفكر والممارسة. ومن حين إلى آخر كانت تجتاح المغرب موجات فكرية دخيلة، سرعان ما تنقشع غيومها وتتبدد؛ فقد انتشرت في الآونة الأخيرة سلسلة من التسجيلات والفيديوهات على "يوتيوب" وبعض المواقع وصفحات التواصل الاجتماعي، في شكل فكاهة وسخرية من بعض الأحداث الدولية أو الوطنية مثل صراصير مكة أو قضية الرقية الشرعية وغير ذلك من الأحداث، ولكن مضمونها كان صادما للمغاربة، حيث تدعو تلك المقاطع إلى الانعتاق من قيود الأديان وترك الإسلام والاستمتاع بالحرية في ظل العقل الذي يجب استعماله لتمييز الحق من الباطل، وأن الأديان خرافة واسم الله من صُنع الإنسان لاستعباد أخيه الإنسان وفرض السيطرة عليه، وغير ذلك من الأفكار التي تحملها تلك الفيديوهات والتسجيلات، وذلك بجرأة فاضحة ولغة مباشرة تروم السخرية والضحك والاستهزاء. إنهم ملحدون جُدد يوظفون الدارجة المغربية والسُّخرية والأغنية الشبابية... لتشكيك المغاربة في دينهم وثوابتهم ومحاولة زعزعة عقيدتهم. سبّ مباشر للأنبياء واستهزاء فاضح بالعقائد الدينية مما لم يعهد له مثيل في المجتمع الإسلامي العربي وفوق ما يمكن توقّعه: حيث تحوّل الرسول (صلى الله عليه وسلم) في نظر الملحدين الجُدد إلى (سيمو ولد يامنة) ونعته بالشذوذ واللواط. وتجاوز هذا إلى السخرية من باقي الأنبياء والأديان السماوية والتطاول على ثوابت المغاربة، وخاصة مؤسسة إمارة المؤمنين التي يرى هؤلاء الملحدون الجدد أنَّها تقف أمام حرية المغاربة في الانعتاق من الدين والخروج من كل تبعية. ويبدو أنَّ المستهدف من هذه الحملة هو الشباب المغربي باستدراجه عن طريق الفكاهة والترفيه وإثارة الغرائز... بدعوى استعمال العقل والتحرر من كل قيد وشرط. ويبدو أنَّ هذه الرياح قد مهّدت لها حملات سابقة مثل التشكيك في أحاديث البخاري وقضايا المرأة والحرية والاختلاط وأحكام الشريعة واللباس... وغير ذلك من المناقشات التي تطفو من حين إلى آخر وتثير جملة من السجالات الفكرية. والسؤال الذي لا بد منه في هذا السياق: إذا كان لهؤلاء كل هذه الجرأة، لماذا يختفون وراء أسماء مستعارة ولا يكشفون عن وجوههم وأسمائهم للمغاربة؟ إنَّ الإلحاد موضة قديمة وموجة بالية لم يعد لها مكان في عالم تطور البيولوجيا والتقنية وعالم الذرة والفضاء... البشرية اليوم تبحث عن الروحانيات وليس تبتعد عن الله. ويبدو أنَّ المستهدف من هذه الحملة هو الشباب المغربي باستدراجه عن طريق الفكاهة والترفيه وإثارة الغرائز والتمرد على الواقع ورفض كل التقاليد والحدود والموانع، لبلوغ المتعة الكاملة في الحياة، وتحقيق الذات بعيداً عن التقوقع داخل دين معين أو سلطة ما، ومثل هذه الأفكار تجد لها صدى واسعا في صفوف الشباب واليافعين الذين لم تترسّخ لديهم القناعات العميقة تجاه الحياة والكون والوجود، فيكونون عرضة لكل حركة دخيلة مشبوهة، تزعم إخراجهم من ضيق الأسرة والدولة إلى سعة الكون ورحابة الحياة، ويكفي أن تخالف السائد لتلقى القبول والانتشار، ويكفي الاطلاع على عدد المشاهدات التي حظيت بها تلك التسجيلات لنعرف حجم تداولها وانتشارها في ظرف وجيز، واستقطابها لعدد من المراهقين الذين يبحثون عن فرص الخروج عن سلطة الأخلاق، وإثبات سلطة العقل التي تفوق كل السلط الأخرى. احتلت دراسة الأديان مكانة كبيرة عند العلماء والمفكرين، وقد كانت موضوع كثير من العلوم والمباحث الفلسفية في مختلف الثقافات والحضارات، وبمرجعيات مختلفة، وتوصل العلماء بعد مئات، بل ألوف من الدراسات والأبحاث، إلى أنَّ أهل أصل الدين إلهي، منزّه عن إبداع البشر، بينما التَّدين يمثل طريقة البشر في تطبيق تعاليم الدّين المُنزّل من قبل الله، إن الإنسان دائم البحث عن الأمان في مواجهة قسوة الطبيعة وضعف إمكاناته الجسدية مقارنة مع بعض الكائنات الأخرى القوية، ولذلك كان يلجأ إلى ممارسة طقوس معينة ظنّاً منه أنها تجلب له الخير، وتدفع عنه الشّر، وبذلك فصل بين المقدّس والمدنّس، واكتشف وجود عالمين: الأول مرئي، والآخر غيبي. وبما أنَّ مظاهر القوة في الطبيعة متعددة، فقد تعددت الآلهة التي يتقرّب إليها الإنسان، قبل أن يبدأ في الاختيار والترجيح، لينتهي به المطاف بعقيدة التوحيد، وبذلك يكون قد مرّ بثلاثة أطوار في بناء العقيدة الدينية، ومع ذلك لم يسقرّ في اعتقاده، حيث أصابته نكسة في عقيدته؛ فبعد الوحدانية، أصبح مؤمناً بالثنائية، أي إمكانية الجمع بين إلهين اثنين. ويفسّر علماء المقارنة بين الأديان ظهور الثنائية بعد الوحدانية بأنَّ الإنسان يترقّى في هذا الطّور فيحاول تفسير الشر في الوجود إلى إله غير إله الخير، كما قام الإنسان في بعض المراحل من حياته العقائدية، بتجسيد الصَّلاح في صور وأشكال وتماثيل، منحها القداسة، وبلغ تقديره لها درجة العبادة، ولم تكن في أصلها إلا مظاهر للخير ولمحاسن الأخلاق التي اتصف بها بعض الناس، ومثال ذلك أنَّ "العرب كانوا قبيل البعثة المحمدية يدين أناس منهم بالمسيحية، وأناس باليهودية، ويذكرون "الله" على ألسنتهم، ويسمّون أبناءهم بعبد الله وتيم الله، ويعبدون مع ذلك أسلافهم، فيقولون إن أصنام الكعبة تماثيل قوم صالحين، كانوا يطعمون الطعام ويصلحون بين الخصوم فماتوا فحزن أبناؤهم وإخوانهم عليهم وصنعوا تلك الأصنام على مثالهم وعبدوهم من فرط الحب والذكرى، ولكنهم لم يعبدوهم إلا ليقرّبوهم إلى الله زلفى، كما ذكر القرآن الكريم ذلك في قوله تعالى: "مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ". والملاحظ أنَّ نكسة العقيدة كانت تصيب بعض المتديّنين، فاليهود عبدوا العجل بعد عبادة الله الواحد، والنَّصارى عبدوا رهبانهم، كما عبدوا رسولهم المسيح عليه السلام، حيث ورد في القرآن الكريم: "اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَٰهًا وَاحِدًا، لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ، سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ". وعلى الرّغم من أنَّ دين الإسلام هو خاتم الأديان، وأنَّ الرسول محمد صلى الله عليه وسلم هو خاتم الرسل والأنبياء، ولا نبيّ بعده، فإن كثيرا من المتديّنين قد يصيب إيمانهم بعض الخلل، وقد تقع الردة عن الدين، بل التحلل من كل الأديان، ويبدو أنها موضة وموجة عابرة تظهر من حين إلى آخر لأسباب معظمها نفسي أو اقتصادي، مرتبطة بعوامل معينة، سرعان ما تتبدد غيومها لتعود السماء صافية مشعة بنور الإيمان والتضرع إلى الله. إن رياح الإلحاد في المغرب لن تكون إلا نفخة في الرماد، إذ المغاربة اليوم ملتفون حول ثوابتهم ومقدساتهم، ولا سبيل لأي فكر دخيل أن يؤثر في العقول أو يجعل المغاربة ينحرفون عن المسار الذي اختاروه طوعاً ومحبة واقتناعاً، ودليل ذلك حملات الاستنكار والاستهجان التي تواجه بها مثل تلك التسجيلات والفيديوهات، وغيرها من مظاهر التحلل من الدين والخروج عن الأعراف وتقاليد المغرب الراسخة عبر القرون، ودليل هذه الروح الدينية الراسخة لدى المغاربة فشل الكثير من دعوات الانحلال والمروق والفجور وانزواؤها في الظل بعيداً عن الأضواء. * باحث في الهوية المغربية