أصبحت الفوارق الاجتماعية في المغرب، منذ بداية الألفية الثالثة، مسألة بنيوية في السجل الاجتماعي المغربي. وإن الدليل على ذلك هو أن هذا البلد الأمين صار يتذيل الترتيب الاجتماعي الدولي، منذ ذلك الوقت. وقد حاولت الحكومة المغربية أن تتستر على إخفاقاتها الاجتماعية، وراسلت المؤسسات الأممية المسؤولة عن إعداد هذا الترتيب دونما جدوى؛ علما أن كل دول العالم توافق على مقتضيات إعداد هذا السجل الاجتماعي إلا المغرب، والسبب في ذلك هو أن هذا العمل الدولي يعري الحكومة المغربية الموقرة وكاد أن ينطق ويقول أن هذه الحكومة هي حكومة الأغنياء والألبة فقط. في القرن التاسع عشر، كان المغرب آنذاك منقسما إلى مغربين: بلاد المخزن وبلاد السيبة. وكانت بلاد المخزن تتكون من المدن الساحلية الغنية اقتصاديا من التجارة والتبادل، والسهول الفلاحية التي كانت تنتج القمح والشعير والذرة والفواكه وتصدرها إلى أوروبا. أما بلاد السيبة، فهي الجبال والصحاري والوديان الفقيرة التي كانت ترفض دفع الضرائب إلى السلطة المركزية لسببين: السبب الأول يكمن في عدم اكتراث المخزن بهذه المناطق، والسبب الثاني في فقر الساكنة. ولم تكن هذه السيبة قط بسيبة عسكرية، بل إن الساكنة التي هي في غالبيتها أمازيغية، كانت ترفض دفع الضرائب إلى السلطان؛ ولكن بالمقابل كانت تعترف به باعتباره "أميرا للمؤمنين"، حيث إن خطبة الجمعة كانت تقرأ باسمه في المساجد الموجودة بأراضيها. السلطان مولاي سليمان (1760-1822) ويحكى أن السلطان مولاي سليمان (1760-1822) دخل في حرب ضارية مع القبائل الأمازيغية للأطلس المتوسط قرب مدينة الحاجب. وخلال إحدى المعارك، تغلبت القبائل على عسكر السلطان الذين ولوا هاربين إلى فاس تاركين مولاي سليمان في قبضة الأمازيغ، وظن السلطان أنهم سوف يقتلونه لا محالة؛ غير أنهم أخذوه إلى بيت رئيس القبيلة "أمغار"، وخلعوا ملابسه وألبسوه جلاليب أمازيغية، وقاموا بتقطيع ملابسه السلطانية إربًا إربًا ووزعوها على رجالهم ك"بركة سلطانية"، ثم أطلقوا سراحه وأوصلوه مدينة فاس. لقد احترم المغاربة، منذ عهد الأدارسة (789-985)، سلاطينهم؛ لهيبتهم ومركزهم الديني في إطار إمارة المؤمنين. ولما فرض الفرنسيون الحماية على المغرب سنة 1912 لم يجدوا صعوبة في احتلال المدن الساحلية والسهول الفلاحية؛ ولكن الأمازيغ الموجودين في الجبال والوديان والمناطق الصحراوية حاربوهم بشراسة من 1912 حتى سنة 1936، حيث قاتل محمد بن عبد الكريم الخطابي الإسبان والفرنسيين من 1921 حتى 1925 خلال "حرب الريف" وحاربت قبائل آيت عطا وزيان وغيرها الفرنسيين لعقود. ومنذ أن استعمرت فرنسا المغرب، الذي كان يحسب له ألف حساب في المنطقة من قبل القوى الأوروبية، بادرت إلى تقسيمه إلى منطقتين: المغرب النافع (الساحل والسهول) والمغرب غير النافع (الجبال والوديان والصحاري)، وهذا تقسيم بمنطق كولونيالي صرف. الساحل والسهول توفر لفرنسا المنتجات الزراعية والمناجم والتجارة الدولية والتبادل، والمغرب غير النافع كان جبالا لا فائدة ترجى من ورائها، ما عدا الرجال الشجعان الذين استغلتهم فرنسا في الحربين العالميتين الأولى والثانية للدفاع عنها مقابل أجور ضئيلة جدا. وبعد الحرب العالمية الثانية، استغلتهم فرنسا مرة أخرى لإعادة إعمار أراضيها وبناء اقتصادها، واليوم وقد أصبحوا عبئا ثقيلا على كاهلها، فهي تصفهم بالإرهابيين بسبب دينهم وبالحثالة بسبب ثقافتهم، وغيرها من الأوصاف البذيئة التي تستعملها ماري لوبن... نيابة عن باقي الفرنسيين المتسترين لحاجة في نفس يعقوب. وبعد استقلال المغرب سنة 1956، حاولت الدولة المغربية بإمكاناتها المتواضعة بناء اقتصاد وطني يستفيد منه كافة المغاربة، ففتحت المدارس والمعاهد والجامعات وقامت بتكوين الآلاف من الكوادر التي طعمت بهم الإدارة المغربية. وهكذا، ظهرت إلى الوجود طبقة متوسطة لأول مرة في هذا البلد الأمين، مكونة من العاملين بالإدارة والأساتذة والمعلمين. ولم تدم هذه الطبقة لفترة طويلة، حيث إن المغرب أصيب بأزمة اقتصادية خانقة سنة 1982 لعدة أسباب، واضطر إلى الخضوع لإملاءات البنك الدولي الذي دعاه إلى الكف عن تشغيل خريجي الجامعات. ومن سنة 1982 إلى سنة 2000، انقرضت الطبقة المتوسطة وبقت في الساحة طبقتان: الطبقة الفقيرة: التي تعيش في ناصية المدن (مدن الصفيح) بأقل من دولار أمريكي في اليوم، الطبقة الغنية: المكونة من الأسر المخزنية التقليدية والأسر السياسية التي تبادل ولاءها للمغرب مقابل الريع الاقتصادي. إلى جانب الأغنياء الجدد الذين يحصلوا على ثروتهم من بيع الحشيش أو ما يسمى ب "التبزنيس": أي معاملات تجارية تخضع لمبدأ " دهن السير يسير" والارتشاء، إلى درجة أن استخدام الرشوة عند البعض أصبح نوعا من الرجولة الاقتصادية: " زطط راسك". مدن الصفيح واليوم يترنح المغرب بين طبقتين: طبقة "انعدام الأمل"؛ و طبقة "الغنى الفاحش". وتتوالى الحكومات على دفة الحكم من يمين ويسار وإسلاميين، ولا تجد حلا لتوزيع عادل للثروات في هذا البلد؛ بل إن معظم الوزراء لما يصلون إلى الكرسي الوفير يتناسون مبادئهم الحزبية وشعاراتهم الانتخابية الرنانة ويحاولون الالتحاق بصفوف طبقة الغنى الفاحش تفاديا ل" دواير الزمان". مساكين كأن حصولهم على 30000 درهم شهريا بعد مغادرة الحكومة ستضعهم في خانة الفقراء والمعوزين. وتعيش فرنسا، منذ عدة أسابيع، على حافة الثورة الثانية بعد ثورة 1789، بمجرد ما زاد ثمن البنزين و"السترات الصفراء" Gilets jaunes تقود انتفاضة ضد غلاء المعيشة بهذا البلد ربما أطاحت بالرئيس ماكرون؛ لأنها ترى فيه رئيسا أتى من بنك روتشيلد الأمريكي Rothschild Bank لخدمة أغنياء فرنسا فحسب. "والسترات الصفراء" بالمغرب هم الفقراء العاطلون عن العمل الذين يحرسون السيارات الفارهة للأغنياء. هل يفكرون هم كذلك في مسيرة إلى العاصمة الرباط لطلب توزيع عادل للثروة المغربية؟ بلا، إنهم يفكرون في القوت اليومي و"راحة البال" في الوقت الحاضر. بلا. إنهم المدافعون الأشاوس عن استقرار المغرب، ويستمرون دونما كلل في الحلم بمغرب عادل... مغرب للجميع وليس كما كان ينشد البعض خلال حقبة الاستعمار: "المغرب لنا، لا لغيرنا" والذين بعد الاستقلال أخذوا المغرب كله لوحدهم. لهذا السبب لن تقوم ثورة الفقراء في المغرب. إن المغاربة يفكرون دوما بمبدأ "تمغاربيت"، بما معناه أنه ما يجمعنا أكبر من ما يفرقنا اليوم وغدا. وفقراء المغرب كانوا ولا يزالون المدافعين الأولين والأخيرين عن هذا البلد، اسألوا عن من ذهب في "المسيرة الخضراء" لاسترجاع الصحراء، ستجدون أنهم 99 % من الفقراء كانوا وما زالوا يحلمون بمغرب كبير وقوي وعادل، يا حسرتاه. إذا زرت، بين الفينة والأخرى، الأحياء الصفيحية يدعوك السكان الفقراء القاطنين بها لشرب الشاي " أتاي بنعناع" أو إن وجدت بها يوم الجمعة دعوك لمشاركتهم في " قصعة كسكسو" مع اللبن. وبالمقابل، إذا زرت الأحياء الراقية وأطلت البقاء بها باغتتك الشرطة تسألك عن سبب الزيارة بعد أن يكون أخبرها أحد الحراس الغلاظ بوجود أجانب شرسين بالحي. وبينما يفكر الفقراء بقلوبهم النقية في "تمغاربيت" يفكر الأغنياء بقلوبهم المملوءة بحب اليورو والدولار الأمريكي في "تفرنسيست" أو "تماريكنيت". وعاش مغرب الفقراء حرا أبيا. تمغاربيت *أستاذ جامعي ومحلل سياسي