يعتبر مفهوم «المغرب النافع والمغرب الغير النافع» من أخطر وأشهر المفاهيم في القاموس السياسي،الاقتصادي، التاريخي والسوسيولوجي عند المغاربة. فإذا كان المغرب النافع يقابله عدة مفاهيم مثل: بلاد المخزن وطاعة والسلطان، الشرع الإسلامي، السهول والهضاب،التعريب، النخبة المدنية والعائلة الفاسية والموريسكية، الحركة الوطنية.... أما المغرب الغير النافع فهو بلاد «السيبا»، المغرب العميق، العصيان، التمرد ضد المخزن والمقاومة ضد الاستعمار، العرف، الأعيان، الجبال، الأمازيغية، جيش التحرير.... «فالمغرب النافع والمغرب الغير النافع» هي سياسة تعتمد على المنطق المركزي في التعامل مع إشكالية التنمية الغير المتكافئة والغير المتوازنة على المستوى ألمجالي والتي زادت في تعميق التفاوتات الجهوية الموروثة عن الاستعمار والتي كانت لها آثار سلبية على التكوين الاجتماعي في مختلف المجالات. كما أن عولمة الاقتصاد إذا كانت تربط الاقتصاديات الوطنية فيما بينها فهي عمقت الفوارق ما بين الدول والمجالات وقوضت التماسك الوطني، فضلا عن تعميق الفجوة بين "الجهات الغنية" بمناطق مركزية والتي تستحوذ عن الثروة والسلطة والكفاءات و"الجهات الفقيرة" في المناطق الهامشية التي تضعف وتفقر بفعل التحولات الهيكلية التي يعرفها العالم. فالمغرب النافع يتضمن السهول الغربية الخصبة ذات الأودية الدائمة الجريان والأحواض الغنية بفرشتها المائية وأغلبية السواحل الأطلسية. أما المغرب الغير النافع فيضم أراضي جبال الريف وجبال الأطلس الكبير والمتوسط والصغير وسوس بالإضافة إلى الصحراء المغربية والأراضي الشبه الصحراوية في الجنوب الشرقي، فهو إن يتميز بوعورة تضاريسه فهو غني بالثروات الطبيعية سواء كانت معدنية أو فلاحية أو بحرية.... وإذا كان أغلب الباحثون يرون أن هذا المفهوم مرتبط بالمستعمر ومن صنعه، فإننا نرى أن تقسيم المغرب إلى نافع وغير نافع هو استمرارية للتقسيم التاريخي للمغرب إلى بلاد المخزن وبلاد «السيبا»{أولا}، وما كان على السياسة الكولونيالية إلا تكريس هذا التقسيم{ثانيا}، أما النظام المغربي بعد «الاستقلال» فقد خطى نفس خطوات المستعمر في تعميق الهوة بين المغربين: النافع والغير النافع{ثالثا}، مما يطرح أكثر من سؤال حول سبل تصيح تلك الإختلالات والفوارق بين المنطقتين؟{رابعا}.
أولا : تقسيم المغرب قبل «الحماية» لقد أستقر الرأي لدى مجموعة من الباحثين إلى التفرقة الأساسية للإدارة الترابية في مغرب ما قبل الحماية، حيث ميزوا بين بلاد المخزن وبلاد «السيبا»، وإن كان البعض يعتبر هذا التمييز إحالة إلى إشكالية الوحدة أي أنه يحيلنا إلى نمطين مختلفين لممارسته نفس السلطة، وليس إلى تقطيع ترابي. أ بلاد المخزن يطلق بلاد المخزن على القبائل التي يبسط في إطارها السلطان سلطته كاملة وشاملة بواسطة قواده وباشاواته، وذلك في جميع الميادين، المالية والجنائية والتجارية.... إن أصل كلمة" المخزن" من فعل ''خزن'' أي " جمع"، وقد كان يعني في بداية الأمر المكان الذي كانت تجتمع فيه الضرائب الموجهة إلى بيت مال المسلمين، وأتسع معناه فيما بعد ليشمل معنى الحكومة المغربية، وبنياتها، وتشعباتها وجميع دواليبها، أي السلطان والجيش والموظفون وكل الأشخاص الذين يربطون السلطة العليا بباقي المجتمع المدني، أو بعبارة أوضح كل الذين يتقاضون أجرا من خزينة السلطان ويجعلون من أنفسهم المدافعين عن شرعية المخزن مقابل الاعتراف لهم بصفة الانتماء له. ب بلاد «السيبا» هي بلاد يقطنها الساكنة الناطقة بالأمازيغية (الأمازيغوفونية) ذات تنظيم سياسي و إداري وعسكري خاص بها مبدأها حكم نفسها بنفسها، ترفض الهيمنة من بلاد المخزن سياسيا واقتصاديا لأن من عادة الإنسان الأمازيغي أنه لا يؤمن إلا بالحرية، وكانت بلاد «السيبا» تثور على ثقل الضرائب المخزنية وترفض دفع الضرائب ماديا وخاصة في أيام الجفاف، وبها أججت الكثير من الحروب بين بلاد «السيبا» وبلاد المخزن بسبب رفض إخضاع السكان والتنظيمات الأمازيغية لعبودية المركز المخزني ورفض سيطرته. فبلاد «السيبا» كان يسير بواسطة تنظيم سياسي وإداري واجتماعي يسمى"الجماعة"، التي كانت تلعب دورا مهما في الفصل في شؤون السكان السياسية والاقتصادية والاجتماعية، حيث كانت تتوفر على جهاز تداولي يسمى "مجلس الجماعة"، وجهاز تنفيذي يسمى " أمغار" أو" أنفلوس". وكان مجلس الجماعة يتكون من الأفراد المنتمين للقبيلة، المتصفين بالقيم الشخصية النبيلة والبطولة في القتال، وقدر معين من الجاه. والجماعة كانت تمارس جميع الوظائف التشريعية والتنفيذية والقضائية، وكان من اختصاصها تعيين " أمغار" الجماعة، الذي يمارس مهامه لمدة عام أو عامين، ويختار بالتناوب من طرف مجموع الفخذات أو الدواوير المكونة للجماعة. وكانت اختصاصات "أمغار" تتعلق بتنفيذ قرارات مجلس الجماعة ويقترح التدابير الضرورية لحسن سير الجماعة، ومسؤول عن النظام العام وله اختصاصات عسكرية ويقوم بوظيفة قائد حرب، وكانت تصرفاته مراقبة من طرف مجلس الجماعة ولا يقوم بأية مبادرة دون استشارته. إذن، وإن كان الخطاب المخزني يربط «السيبا» بمفهوم المحاربين والخارجين عن الشرع الإسلامي أي يربطها بالفتنة، فإن الواقع مخالف لذلك، إذ «السيبا» مؤسسة سياسية منظمة ومنتظمة، تواجه المخزن عندما تشعر أن القبيلة مستهدفة اجتماعيا وسياسيا. ومن هنا يستنتج الباحث " روبير مونتاري" في كتابه "البربر والمخزن" أن العداوة بين القبيلة والمخزن عداوة بنيوية، نظرا لتعارض طموحاتهما، فالأولى تحلم باستقرار استقلالها الأزلي، والثاني يحلم دوما بإنشاء إمبراطوريته تحت سلطة السلطان. ثانيا: الاستعمار والانتقال إلى مفهوم « المغرب النافع والغير النافع» بعدما ضل المغرب مقسما إلى بلاد المخزن و«السيبا» على امتداد حكم دولة الأدارسة و المرابطين والموحدين والمرينيين والعلويين، أخترع "المارشال ليوطي"، المقيم العام الفرنسي ومهندس نظام الحماية في المغرب في السنوات الأولى للاستعمار الفرنسي في المغرب، مفهوم «المغرب النافع» و«المغرب غير النافع»، وكان هذا المفهوم يعكس نظرة نفعية نابعة من مصالح الإدارة الاستعمارية الفرنسية التي لم تكن عندها بطبيعة الحال سياسة اجتماعية في مستعمراتها، ولا حتى سياسة اقتصادية تقوم على أسس علمية. وكان الاستعمار سواء الفرنسي أو الاسباني يسعى بالأساس إلى جني الأرباح بشكل سريع وآلي دون أن تكون هناك بنية اقتصادية وإنتاجية تعود بالنفع على المستعمرة على المدى البعيد، كما أن الرفض الشعبي «للحماية» في مناطق الأمازيغوفونية، ساهم في تركيز الحماية في بداية الأمر على المغرب الأطلسي محولة إياه إلى مركز للجذب من الداخل إلى الأطلس، حيث لعبت الدارالبيضاء بوضعيتها الجغرافية(ميناء ذو امتداد داخلي، ثروة فلاحية) والرباط بصفتها نقطة انطلاق الطرق الطبيعية السبعة التي تتشعب في كل الاتجاهات مراكز إشعاع اقتصادي، كما كانت هذه المناطق تمثل تقليديا ما يعرف ببلاد المخزن، وبالتالي كان لدى سكانها قابلية للركوع والخضوع أكثر من سكان بلاد "السيبا". لذلك لا غرو أن نجد المغرب النافع يتمثل في الدارالبيضاء، فاس، مكناس، الشاوية، دكالة، مراكش، ضامة المناطق والجهات الغنية فلاحيا وذات الإمكانيات الاقتصادية المهمة التي يمكن استغلالها واستنزافها، وهذه الجهات هي التي استفادت من أكبر حصة من الاستثمارات العمومية خلال فترة «الحماية»، أما المغرب الغير النافع فهو باقي الجهات الجبلية والتي لم تعرف أي نشاط يذكر سوى استخراج المعادن وتصديرها خاما. وعموما، إن نظرية التقسيم التي أبتدعها "المارشال ليوطي" تقوم على أساس إنعاش الجهات المؤهلة لتنمية الرأسمال، وتجاهل الأخرى التي تظهر فيها إمكانية النمو ضعيفة، لأن الذي يحكم في نهاية المطاف حسب هذه النظرية هي النتيجة الصافية، ولا يهم أن تؤدي القيمة الاقتصادية المرجوة إلى إختلالات جهوية، أو أن تؤدي الإخفاقات السوسيوإقتصادية إلى ضرب باقي أجزاء التراب الوطني، بل المهم هو ارتفاع الناتج الخام، ولو أدى ذلك إلى إفقار الجهات الفقيرة، وتزايد غنى الأخرى. هكذا، إذن وكما ورد من كون دافع الحماية من خلال تقسيمها للمملكة هو تركيع المقاومة ونهب ثروات وخيرات المغرب، فإنه مع الاستقلال لم يكن الأمر كذالك وإنما كان لدوافع وأبعاد أمنية وسياسية. ثالثا: «الاستقلال» وتعميق الفجوة بين «المغرب النافع» و«المغرب الغير النافع» منذ بداية سنة 1956، و تأسيس الدولة المغربية على النموذج اليعقوبي الفرنسي، قامت السلطات المخزنية بحصار المناطق المغرب «الغير النافع» وتدمير جميع أنظمتها السياسية والثقافية والاقتصادية وتدمير القيم الاجتماعية والثقافية التي شكلت عبر التاريخ عناصر القوة والمناعة للمجتمع الأمازيغي، حتى يتسنى بسهولة للمخزن فرض ديكتاتوريته اليعقوبية ذات التوجه المركزي ويسهل عليه انتزاع الأراضي والغابات والشواطئ وتفويتها لفائدة أعوان المخزن بمقتضى قوانين استعمارية جديدة. إن أبعاد التعامل مع المجال بعد «الاستقلال» لم تكن تخرج عن الهاجس الأمني، حيث تمثلت إستراتيجية الدولة في هذا الإطار في الرغبة في إيجاد تاطير سياسي أمني أكثر فعالية وذلك لتوفير وسائل المراقبة الكفيلة بجعل الدولة المتحكم الوحيد في المجال الوطني عن طريق تواجدها فوق كل نقطة يتجمع بها السكان بالبلاد وإرساء قواعد سلطتها في المناطق التي لا تتواجد بها، ومن أجل ذلك قام بإلغاء التنظيم القبلي السائد في فترة الاستعمار، وعوضه بالتقسيم الإقليمي( ظهير02 دجنبر 1959 بشأن التقسيم الإداري للمملكة) ذي البعد الأمني، من أجل فرض سلطته المركزية سياسيا وإداريا على جميع مناطق المغرب. على المستوى الثقافي، قامت السلطات المخزنية باستيراد إيديولوجيات عروبية- وهابية من المشرق، وتكريس العنصر الوحيد في الهوية واللغة والثقافة وإقصاء الأمازيغية من خلال إغلاق المحاكم ذات الأعراف الأمازيغية، وتعريب الفضاء والمرافق الإدارية والتعليم والقضاء، وإغلاق "كوليج أزرو" وإحراق جميع الكتب الأمازيغية الموجودة فيه. أما على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، تم التركيز على زيادة تحويل النواة الاقتصادية والديموغرافية إلى الشريط الساحلي( القنيطرة- الدارالبيضاء)، هذا التركيز سيزيد نتيجة الهجرة التي وقعت من المغرب الغير النافع إلى المغرب النافع مما سهل في تكوين أحياء هامشية شعبية على هامش المدن الكبرى( الدارالبيضاء، الرباط، فاس، طنجة...). فحسب المندوبية السامية للتخطيط (2004)، وعلى سبيل المقارنة بين الجهات تبلغ نسبة الفقر في جهة الحسيمةتازةتاونات 12,70 و 12,66 في جهة الشرق، في حين تبلغ 2,73 في جهة الدارالبيضاء الكبرى و 2,38 في جهة الرباط- سلا-زمور- الزعير. أما معدل الهشاشة فيبلغ 13,59 في جهة الحسيمةتازةتاونات و12,85 في جهة مكناس تافيلات، في حين تبلغ 5,21 في جهة الرباطسلازمور الزعير و 7,09 في جهة الدارالبيضاء الكبرى. إذن، هذا يبين حجم الفوارق بين المغرب النافع والمغرب الغير النافع على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والديموغرافي، مما يتحتم على النظام المغربي اعتماد منظور جديد للتعامل مع المجال، قوامه الجهوية السياسية وسيلة للحد من التفاوت الجهوي، وأمثل طريقة لتوزيع السلطة والثروة بين الجهات من جهة، والحفاظ عن التنوع الثقافي والاجتماعي من جهة أخرى. رابعا: التوزيع العادل للثروة والسلطة... والبديل الجهوي إذا كانت العديد من الدول استطاعت التخفيف من حدة الفوارق بين مناطقها بفضل إقرارها الجهوية، فان المغرب لم يتمكن من تحقيق ذالك المبتغى رغم مرور أزيد من خمسة عقود عن «الإستقلال» ، وهو ما يحتم على السلطات ببلادنا الإقدام على خطوة متقدمة وأكثر جرأة في بلورة جهوية سياسية في ضل انتقال ديمقراطي حقيقي، وذلك من أجل تصحيح الإختلالات الاقتصادية والاجتماعية الموجودة بين «المغرب النافع » $$(".desc").each( function(link) { new Tooltip(link, { mouseFollow: false }); });