أولا- ملاحظات أولية: طرح النظام مبادرة الجهوية الموسعة،وقبل التفصيل في تصور النهج الديمقراطي لهذه للمسألة،لا بد من تقديم بعض الملاحضات حول هذه المبادرة. 1-إن النهج الديمقراطي يعتبر أنه لا ديمقراطية جهوية في غياب ديمقراطية على الصعيد الوطني:فالكل هو الذي يحدد الجزء.والحال فان النظام السائد في بلادنا بعيد كل البعد عن أن يكون نظاما ديمقراطيا.ويكفي الإشارة هنا إلى أن الدستور يكرس الحكم الفردي المطلق للملك والاستبداد المخزني والمؤسسات "الديمقراطية" المزعومة صورية وفاسدة والجهاز الإداري مفرط في المركزية ومتحكم في كل مناحي الحياة والحكومة عبارة عن مجموعة من الموظفين الكبار. 2-إن الجهوية بصفتها إحدى مكونات الديمقراطية تتعلق بتقرير مصير الشعب المغربي،لذلك لابد أن يبلورها ممثلو الشعب الحقيقيين.إن المؤسسات "الديمقراطية" المزعومة فاقدة للشرعية الشعبية(مقاطعة الشعب للانتخابات بشكل عارم)وللشرعية الديمقراطية(لوائح انتخابية فاسدة،إشراف وتدخل وزارة الداخلية لصنع الخريطة الانتخابية،استعمال المال...)وهي بالتالي ليست مؤهلة لتحديد مضمون الجهوية التي يريدها الشعب. 3-إن ما سبق يعني أن الجهوية الموسعة التي يسعى النظام إلى بلورتها ستكون جهوية ممنوحة من طرف النظام ولن تتجاوز إعطاء صلاحيات محدودة ومراقبة لنخب جهوية تختارها الأجهزة بعناية فائقة.والهدف هو تجاوز مشكل الصحراء وإيهام الرأي العام الداخلي والخارجي بان هناك تقدم في البناء الديمقراطي والانصياع لاملاءات المؤسسات المالية والتجارية العالمية التي تستهدف من الجهوية ضمان الحرية المطلقة للرأسمال العالمي بينما تهدف الدولة إلى التهرب من التزاماتها الحيوية والإلقاء بها على عاتق الجهات.وستكون النتيجة هي المزيد من نهب خيرات الجهات وتكثيف استغلال كادحيها وبالتالي المزيد من تهميشها مما قد يؤدي إلى تقوية النزعات الانفصالية داخلها وتفكيك وحدة البلاد. ثانيا:الأسس التاريخية للجهوية. إن مسألة الجهوية تحتل موقعا هاما، بل استراتجيا، في النضال من أجل تحقيق أهدافنا المرحلية المتمثلة في التحرر الوطني والبناء الديمقراطي على طريق انجاز مهمتنا الأسمى وهي بناء الاشتراكية. إنها إحدى أهم الحلقات التي تربط بين مهمة التحرر الوطني والبناء الديمقراطي لأنها لن تتحقق، كما سنبين فيما يلي، في شقها الديمقراطي (أي إعطاء صلاحيات واسعة لمناطق معينة لتسيير ذاتها وتحديد اختياراتها)، إلا بقدر ما سنتقدم في سيرورة التحرر الوطني من هيمنة الرأسمالية التبعية والكتلة الطبقية السائدة لأن ذلك شرط أساسي لنمو قوى الإنتاج التي تشكل الأساس المادي لنمو وازدهار الجهات. إن التصور للجهوية، لكي يستقيم لابد أن يرتكز إلى تحليل عميق لواقع التشكيلة الاجتماعية المغربية .لذا يجب الرجوع إلى الصيرورة التاريخية التي أدت إلى تشكل الشعب المغربي وفهمه، ليس على أساس الأحداث أو الأشخاص، بل على أساس الدينامية الاجتماعية المحركة المرتكزة إلى البنية الأساسية للمجتمع. وفي اعتقادنا، فإن الدينامية الأساسية للمجتمع المغربي ظلت، خلال قرون، ترتكز إلى البنية التحتية الأساسية المتمثلة في القبيلة. فمن خلال دراسة حاجيات القبائل الموضوعية يمكن فهم خلافاتها وتحالفاتها وصراعاتها.لقد أدت هذه الدينامية والعصبية التي أفرزتها إلى بناء إمبراطوريات (المرابطين، الموحدين والمرينيين) كانت تدوم قرنا تقريبا (من مرحلة صراعها من أجل السلطة ثم استيلائها عليها ثم بروز الخلافات داخل العصبية وتفككها وتفكك الدولة التي انبنت عليها). إن فشل بناء الدولة على أساس العصبية سيقود القبائل، وخاصة أمام الغزو الخارجي (أساسا البرتغاليون)، إلى اللجوء المشروط والمقيد لعنصر خارجي يتمتع بشرعية دينية أي الشرفاء من أجل قيادة الكفاح ضد الأجنبي وبناء دولة تتوفر على استقرار أكبر.غير أن هذه المرحلة ستعرف بروز تناقض جديد هو التناقض بين القبائل والسلطة المركزية وسترى تطور أوربا وصعود الرأسمال التجاري الأوربي (مرحلة المركنتيلية) وحاجته إلى أسواق خارجية، الذي سيسعى إلى التغلغل في النسيج الانتاجي وسيجد في السلطة الحاكمة ( السلطة المركزية والقياد الكبار) الباحثة عن وسائل لتثبيت سلطتها المهددة من طرف القبائل، حليفا ستمده الدول الأوربية بالأسلحة المتطورة ( المدافع بالخصوص) التي لا تتوفر عليها القبائل، وذلك لكي يدمر مقاومة القبائل ويفرض عليها الاندماج التدريجي في السوق التي تتحكم فيها الرأسمالية الأوروبية الصاعدة. إن هذه التطورات ستؤدي إلى بروز المخزن وتقويته في المناطق الخصبة ( السهول الأطلسية بالأساس)وإضعاف القبائل في هذه المناطق وتفككها المتسارع.هكذا وخلال مرحلة دامت أكثر من أربعة قرون ،انتقل مركز الثقل الاقتصادي من داخل البلاد (كتعبير عن واقع اقتصاد يهتم بالأساس بتلبية حاجيات السكان) إلي السهول الأطلسية والموانئ (الصويرة ثم البيضاء) كتعبير عن اقتصاد أصبح يسعى أكثر فأكثر إلى تلبية حاجيات الرأسمال الأوربي وعملائه المحليين. هكذا فإن التقاء العنصرين التاليين (سلطة مركزية مستقلة عن القبائل والتغلغل التجاري الرأسمالي الأوروبي) سيؤدي إلى انقسام المجال إلى: -"مغرب نافع"، (هذه التسمية أطلقها الاستعمار) يتشكل بالأساس من السهول الأطلسية الخصبة، تم فيها إخضاع القبائل وضرب ديناميتها وبداية تحول البنية القبلية إلى بنية طبقية. وهذه المناطق كانت تسمى "بلاد المخزن" . -"مغرب غير نافع" يتشكل من باقي التراب الوطني لم يستطع المخزن القضاء فيه على مقاومة القبائل التي ظلت تتمتع باستقلالية وقوة وتعيش نوعا من الاكتفاء الذاتي ماعدا خلال الحملات العسكرية للمخزن لنهب جزء من الثروة. وهذه المناطق كان مؤرخو المخزن يسمونها "بلاد السيبة" وهي في الواقع لم تكن سائبة بل متشبتة ببنياتها الاجتماعية وأعرافها وثقافتها ورافضة لنهب المخزن والاندماج في السوق الرأسمالية الناشئة. لقد اضطر الاستعمار الفرنسي والاسباني إلى خوض معارك ضارية خلال أكثر من ثلاثين سنة في مناطق "المغرب غير النافع" ،سجلت خلالها القبائل ملاحم بطولية ،وفي مقدمتها قبائل الريف من أجل بناء نظام جديد على أنقاض نظام يتهاوى وقبائل الأطلس التي لم تضع فك الارتباط مع المخزن كهدف لمقاومتها في إطار ما عرف بالقائدية. ولجأ الاستعمار إلى توظيف عملائه والسلطة المخزنية والقياد والمحميين وبعض الزوايا الموالية له، للقضاء على القبائل ونزع السلاح منها وإضعافها اقتصاديا عبر استحواذه هو ومساعدوه المحليون على أجود الأراضي ونهب خيراتها وتجنيد جزء من السكان في صفوف جيوشه وأجهزته القمعية لتوظيفهم ضد الشعب المغربي وغيره من الشعوب المستعمرة(الهند الصينية نموذجا) وحتى ضد الشعبين الاسباني والفرنسي، وفي حروبه مع بعضه البعض (الحرب الامبريالية الأولى والثانية) وفي نفس الوقت سيقوي البنية المخزنية ويبني فعلا سلطة مركزية سيستورثها للمخزن بعد الاستقلال الشكلي. إن الاستعمار، وتلبية لحاجياته (من مواد غذائية ومعدنية بالأساس) ولحاجيات السوق لمنتوجاته الصناعية، سيبني اقتصادا رأسماليا تبعيا تشكل فيه منطقة "المغرب النافع" وخاصة السهول الساحلية حول الدارالبيضاء، منطقة ستتراكم فيها الثروات بينما ستتعرض مناطق "المغرب غير النافع" إلى مزيد من امتصاص خيراتها وثرواتها. غير أن هذا التراكم البدائي، عوض أن يشكل الأساس لتراكم موسع للرأسمال على غرار ما وقع في دول أوروبا الغربية مثلا ،سيجهض بفعل استيلاء الرأسمال الكولونيالي على الجزء الأكبر منه، واستحواذ الطبقات السائدة السائرة نحو التكون على الباقي(طبقات وشرائح طفيلية وريعية :ملاكو الأراضي الكبار، كمبرادور، كبار موظفي المخزن...). هكذا ستتسارع عملية تحول المجتمع في مناطق "بلاد المخزن" إلى مجتمع طبقي وستبرز الطبقة العاملة في محور القنيطرةالدارالبيضاءالجديدة مع جيوب عمالية في القرى والمدن المنجمية وغالبية من الكادحين في الأحياء الشعبية وأحزمة البؤس والحرمان التي تحيط بالمدن.أما في البوادي وخاصة "بلاد السيبة" فان الغالبية العظمى تتشكل من الجماهير المسحوقة من فلاحين كادحين ومعدمين من دون أرض.وستكون من نتائج ذلك تحول الاقتصاد الوطني من اقتصاد متمركز على الذات إلى اقتصاد تبعي للمتروبول و انتقال العاصمة من فاس إلى الرباط والصعود الصاروخي للدار البيضاء كأكبر مركز اقتصادي. وبعد الاستقلال الشكلي، أدى "النمو" الرأسمالي التبعي المخزني إلى تقوية وتعميق الفوارق بين الطبقات والجهات (مزيدا من توسيع الهوة بين الطبقات والجهات). هكذا سيتمظهر الصراع الطبقي في التشكيلة الاجتماعية المغربية في: -شكل صراع طبقي كدينامية رئيسية في مناطق "المغرب النافع". -شكل صراع من أجل رفع التهميش على مناطق "المغرب غير النافع"كدينامية رئيسية في هذه المناطق.إن الكفاح من اجل التحرر من هيمنة الكتلة الطبقية السائدة والامبريالية والمخزن يشكل في المرحلة التاريخية الحالية القاسم المشترك بين هذين الشكلين من الصراع وذلك لأن تهميش مناطق معينة واستغلال الطبقة العاملة ونهب ثروات البلاد والقمع والاضطهاد يتحمل مسؤوليته هذا الثلاثي. وهناك دينامية أخرى يجب فهمها لإعطاء أجوبة سديدة على قضايا أساسية في عملية التغيير الجذري للأوضاع في بلادنا لصالح الطبقات الكادحة.ذلك أن تغلغل القبائل العربية في المغرب تركز بالأساس على السهول الأطلسية، وذلك لأنها طرق القوافل التجارية، بينما ظلت الجبال وجل الهضاب بمنأى عن هذا التغلغل. الشيء الذي جعلها تحافظ إلى حد كبير على لغتها وثقافتها وتقاليدها وأعرافها. هكذا ستستوطن القبائل العربية بالأساس السهول الأطلسية وسيتم تعريب القبائل الامازيغية المتواجدة فيها أو القريبة منها (مثلا منطقة جبالة) بفعل الإكراه في بعض الأحيان، وبفعل قوة جذب اللغة والثقافة العربية خلال مراحل ازدهارها (حوالي 7 قرون). إن ما سبق يبين ما يلي: -ارتباط التهميش في أغلب الحالات، بالمناطق الأمازيغية.مما يجعل النضال من أجل الاعتراف باللغة والثقافة الامازيغيتين وضمان ازدهارهما والنضال من أجل تمتع المناطق الأمازيغية المهمشة خلال قرون بصلاحيات واسعة مهمتين مرتبطتين ارتباطا عضويا. -وبما أن التهميش الذي تعرفه مناطق " المغرب غير النافع" هو نتيجة لتغلغل الرأسمال التجاري في مرحلة ما قبل الاستعمار، وهيمنة الرأسمالية التبعية خلال مراحل الاستعمار وما بعدها وتمفصلها مع بروز وتقوية المخزن وتبلور الكتلة الطبقية السائدة، فإن توفر هذه المناطق على الاستقلالية في تدبير شؤونها وتحديد اختياراتها شرط ضروري لضمان ازدهارها لكنه غير كاف. فاستمرار هيمنة الرأسمالية التبعية لا يمكنه إلا أن يعيد إنتاج التقاطب المجالي والطبقي ويعمقه. إن رفع التهميش عن هذه المناطق مرتبط عضويا بالقضاء على هيمنة الرأسمالية التبعية في بلادنا وإعادة تهيكل الاقتصاد والمجال.إن طرح مسألة التهميش بمعزل عن أسبابها العميقة وبالتالي النظر إلى الجهوية كحل سحري لهذه المعضلة، خطأ قاتل قد يؤدي شعبنا ثمنه غاليا. إن الجهوية في ظل الواقع القائم ستؤدي لامحالة إلى بروز سلطات ونخب وطبقات سائدة قد لا تختلف عن المخزن والكتلة الطبقية السائدة بل وربما قد تكون أكثر تعفنا بسبب الإفساد الذي مارسه المخزن خلال عقود في هذه المناطق (المخدرات، الدعارة، التهريب، الهجرة ،استعمال الاستعمار والاستعمار الجديد لهذه المناطق كخزان لقواته القمعية الموجهة ضد الشعب لتحويل سخطها وغضبها ضد المخزن والكتلة الطبقية السائدة إلى حقد ضد سكان "المغرب النافع"...).واذا كان الازدهار الفعلي للجهات لن يتم إلا في إطار التحرر الوطني فان ذلك لا يعني إرجاء النضال من اجل جهوية ديمقراطية حقيقية إلى أن يتم انجاز مهمة التحرر الوطني لأن العلاقة بين مهمة التحرر الوطني والبناء الديمقراطي علاقة جدلية.لذلك فان أي تقدم على مستوى البناء الديمقراطي ومن ضمنه الجهوي يمكن من أن يخدم مهمة التحرر الوطني والعكس بالعكس.إن الواقع الموضوعي للصراع الطبقي هو الذي سيحدد في أي سيرورة يمكن التقدم في انجاز المهام المطروحة في ظرفية محددة. الخلاصة:إن إقامة ديمقراطية جهوية حقيقية يتطلب ما يلي: -التقدم في بناء الديمقراطية على المستوى الوطني ترتكز إلى: +دستور ديمقراطي بلورة ومضمونا وتصديقا،دستور يجسد إرادة الشعب المغربي باعتباره صاحب السيادة ومصدر كل السلط،يعترف بالثقافة واللغة الأمازيغية كثقافة وطنية ولغة رسمية،يساوي بين المرأة والرجل،يخضع كافة المسؤولين للمحاسبة والعقاب،يرفع كل مظاهر التقديس عن المؤسساسات ويجعل من القضاء سلطة ويضمن استقلالها عن السلطة التنفيذية ويعترف بحق الجهات التي تتمتع بشخصية متميزة بأقصى حد ممكن من التسيير الذاتي على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية مثل جهات الريف والأطلس وسوس. +تفكيك الأجهزة المخزنية(الأجهزة القمعية وجهاز وزارة الداخلية والجهاز القضائي)وإعادة هيكلتها باعتماد الشفافية ودولة القانون والحق ومبدأ المحاسبة وعدم الإفلات من العقاب. -التقدم في صيرورة التحرر الوطني من الامبريالية والكتلة الطبقية السائدة والمخزن مما يوفر الأساس المادي لنمو وازدهار الجهات. إن تحديد الجهات يجب أن يعتمد على الخصوصيات التي تتوفر عليها والتي تبلورت خلال السيرورة التاريخية لتشكل الشعب المغربي والتي تجعل منها كيانا قابلا للتطور وفرز دينامية التقدم الاقتصادي والثقافي وكذا إطارا منفتحا على بناء وحدة تكاملية مع باقي الجهات في إطار مغرب موحد وديمقراطي. إن صلاحيات الجهات والتي قد تختلف من جهة الى أخرى،وقد تصل إلى الحكم الذاتي بالنسبة للبعض منها يجب أن يحددها الممثلون الحقيقيون لتلك الجهات وليس المؤسسات "الديمقراطية"المزعومة الحالية في إطار التفاوض مع الدولة المركزية التي يمكن أن تأخذ شكل دولة فيدرالية