كثرت المبادرات "المطلبية" لأطراف الحركة الأمازيغية بالمغرب بعد تشكيل المعهد الملكي؛ بداية من تأسيس أحزاب (الحزب الديمقراطي الأمازيغي، مبادرة الخيار الأمازيغي..)، إلى مناداة بتقادم المطالب المدرجة في بيان أكادير والمناداة بحل الدولة العروبية واستبدالها بدولة تستمد هويتها من الهوية الأمازيغية للأرض المغربية، مرورا بما يروجه طلبة الحركة بالجامعة بجعل حركتهم الممثل الشرعي والوحيد للشعب الأمازيغي، انتهاء بالمبادرات الجهوية المطالبة بحكم ذاتي للريف وسوس و"تعميمه على كامل التراب المغربي إحقاقا لدولة الجهات" كما طالب حزب الدغرني. بماذا يتميز السياق الذي طرحت فيه هذه المبادرات؟ * تراجع الأداء النضالي للحركة منذ تأسيس المعهد، الذي امتص أغلب قيادات الحركة (الجمعوية بالأساس)، وهو تراجع يعترف به الكل داخل الحركة وخارجها. * مناخ من التيه السياسي وفقدان البوصلة داخل الحركة، يظهر القابلين بتكتيك النظام كواقعيين، ويزايدون "بإنجازاتهم" داخل المعهد، بينما يظهر الرافضون كعدميين يتنكرون لمطالب الحركة التاريخية. * تآكل كبير لقاعدة الحركة، المشكلة أساسا من الشبيبة المتعلمة (تلاميذ، طلبة)، وتراجع تنظيمي كبير مقارنة مع الفورة التنظيمية طيلة عقد التسعينات. تحولت الحركة إلى شبه منتدى أو "مجمع للحكماء"، تتعايش فيه تنويعات من الآراء والمواقف، من الليبرالية المتطرفة إلى اليمينية المتطرفة (مع إجماع على محاربة تأثير اليسار)، تطرح فيه المبادرات والمطالب ويعقبها نقاش الصحف وتعقد الندوات والموائد المستديرة، وتطوى القضية بعد ذلك. لا تعبئة ميدانية ولا نضالات جماهيرية، فالحركة ألفت طرح مطالبها "بلباقة، وبدون تهريج" على حد تعبير بيان محمد شفيق. مؤدى هذه الورقة، دحض الفكرة المغلوطة والضارة، السائدة داخل الحركة، والتي تعزل مطلب "إنصاف" الأمازيغية وتمتيع جزء كبير من الشعب المغربي بحقوقه اللغوية والثقافية، عن باقي المطالب. عن هذه الفكرة تنتج التكتيكات والشعارات والمطالب المغلوطة (نظريا وسياسيا واستحالتها- أو بالأحرى ضررها- اقتصاديا): * المطالبة بترسيم الأمازيغية في الدستور مع إغفال طبيعة هذا الدستور. * المطالبة بالحقوق الهوياتية والثقافية دون ربطها بالمطالب الاقتصادية والاجتماعية. * الركون إلى انتظارية خلفيتها الأساسية، الاعتقاد أن استجداء الحكم، مع المبالغة في الاعتدال، ستدفعه إلى الاستجابة لمطالب الحركة. * النفور من أي نضال ميداني، لأنه يناقض انتظاريتها المشلة لأي عمل مستقل. * تنويع معقد وأحيانا متناقض، من المطالب والشعارات والاقتراحات التنظيمية، تجعل قاعدة الحركة مجزأة ومحرومة من خطة عمل موحدة مركزة على مطلب معين له قدرة تعبئة الجماهير ودفعها لاقتحام ساحة النضال. هذه السمات المذكورة، ليست مقدرة وحتمية، بقدر ما هي مرتبطة بطبيعة قيادة الحركة- الليبرالية في معظمها- التي طمحت إلى إيجاد حل للقضية الأمازيغية بتوافق مع الملكية، دون استثارة القضايا الأخرى (الاقتصادية والاجتماعية والسياسية)، التي قد تهدد "استقرار البلاد" تماما كما في المثل الذي يحض على "عدم وضع الأصابع في النار عندما يكون في الإمكان التقدم على طريق مستقيمة، دون إثارة الكلاب الشرسة". هذه السمة قديمة قدم الليبرالية، وهي التي أودت بنضال المغاربة ضد الاستعمار إلى نهايته المعروفة: استقلال سياسي شكلي، مع تعزيز أواصر التبعية الاقتصادية للإمبريالية، وتعزيز الاستبداد السياسي. جرت العادة في صفوف الحركة الأمازيغية، أن تطرح الشعارات والمطالب دون نقاش مغزاها الحقيقي، ودون بحث إمكان حفزها لنضال تنظيمات الحركة. تطرح الشعارات والمطالب منذ البداية كمسلمات ثم يجري البحث عن مبررات لها (إما في تجارب أخرى تسقط إسقاطا على الواقع المغربي، أو استقراء براغماتي لتاريخ المغرب..). تدخل المطالبة بتمتيع المناطق ذات "الخصوصيات الأمازيغية"، بالحكم الذاتي أو مطلب الفيدرالية، في هذا الباب المؤسف "لنضال" الحركة الأمازيغية. طرح مطلب الحكم الذاتي/ الفيدرالية، في السياق المذكور أعلاه، مع تعضيده بما شاء الله من حجج ومبررات، نجملها في ما يلي مع محاولة نقاشها: * الأمازيغ حكموا أنفسهم تاريخيا باستقلال عن الدولة المغربية. هذه المقولة حتى وإن عبرت عن حقيقة تاريخية، ليست- بأي حال من الأحوال- مبررا للمناداة بمطلب الفيدرالية. إنه استعمال ذرائعي للتاريخ، استعمال تتفنن فيه الحركة، يجعل مطلب إعادة كتابة تاريخ المغرب الذي رفعته الحركة مهمة لازالت مطروحة. لكن التاريخ ينطق بغير ذلك. فتاريخ المغرب عرف فترات تقوى فيها الحكم المركزي مقلصا إلى الحدود الدنيا صلاحيات القبيلة "كمؤسسة سياسية". اقترنت هذه الفترات بالإمبراطوريات الكبرى (المرابطين والموحدين..) وكذا فترات متقطعة من عمر الدولتين السعدية والعلوية. وكان السبب وراء ذلك هو استفادة هذه الدول من التجارة الصحراوية التي لعبت فيها دور الوساطة، حيث امتلكت فوائض تجارية هامة (تجارة الذهب بالخصوص)، ما خفف العبء الضرائبي عن السكان، فتقوت الاتجاهات نحو المركزة. طبعا، لقد كانت تلك لحظات استثنائية، بينما تظهر اللوحة العامة لتاريخ المغرب، اتجاها نحو استدامة التجزئة. لكن يجب البحث عن الأسباب الحقيقية لذاك، بدل تعميده عاطفيا. فالأساس المادي للمركزة، هو فائض إنتاج اجتماعي أكثر تطورا، وطبقة اجتماعية لها كل المصلحة في المركزة السياسية. وهو ما افتقده المجتمع المغربي، فالفوائض التجارية التي سمحت بالمركزة في لحظات تاريخية معينة، كانت نتاج تجارة الوساطة البعيدة المدى وليس نابعا من قوى الإنتاج الداخلية، والفئات الاجتماعية السائدة لم تكن لها أدنى مصلحة لا في المركزة الاقتصادية ولا السياسية (أعيان القبائل، وشيوخ الزوايا). تحول الطرق التجارية نحو المحيط الأطلسي مع الاستكشافات الجغرافية، وجه ضربة قاضية لمحاولة البورجوازية التجارية، التي كانت تمد "المخزن" بالكوادر وتحثه على استكمال توحيد المغرب، فتقوت الاتجاهات النابذة للمركزة (من زوايا وقبائل..). ضمرت الحياة الحضرية وانكفأ العالم الريفي على نفسه، وعاش المغرب تجزئة سياسية، ليست إلا انعكاسا لاقتصاد طبيعي معتمد على الزراعة والرعي بالأساس، حيث كل وحدة (قبيلة، أسرة..) تحقق اكتفاءها الذاتي دون الحاجة إلى مساعدة مناطق أخرى، وحيث التجارة كمالية في الغالب. إعاقة التطور الاقتصادي يقود بالضرورة إلى إضعاف الميل إلى التمركز الكامن في الرأسمالية. فتراجع الحياة التجارية والصناعية في المدن، وتدني الروابط الاقتصادية بينها أديا إلى قلة الاعتماد على بعضها البعض. وهنا حجر الزاوية في عدم نجاح المغرب طيلة قرون في التخلص من الميول المضادة للمركزة في أقاليمه. إذ أن شح الموارد القومية والشعور بعد الاستقرار لا يمكن أن يساعدا البلاد على الخلاص من التيارات الإقليمية وإنما يغذيانها. تغذى هذا الميل مع الاستقلال وبناء الاقتصاد التبعي، ثم مع تطبيق برامج التقويم الهيكلي الذي يستنزف الموارد القومية ويمنع المجتمع من استعمالها استعمالا عقلانيا. فالأقاليم التي لا ترى في المركز إلا نهابا ومستخلصا للضرائب وقامعا سياسيا تنحو نحو اعتبار المركزة عبئا بالغا يجب التخلص منه. هل صحيح أن هذه التجزئة السياسية، كانت خاصة بالمجتمع "الأمازيغي" وحده؟ الجواب بالتأكيد هو؛ لا. فكل المجتمعات البشرية عاشت مرحلتها القبلية وخلفتها بعيدا، بعد بناء الإمبراطوريات، ثم الدول القومية مع حلول عصر الرأسمالية. لكن في المجتمع المغربي- على غرار مجتمعات أخرى- تحنطت فيه القبيلة وبقيت حية حتى مجيء الاستعمار. ليس هذا المقال مجالا لنقاش أسباب بقاء القبيلة المغربية على قيد الحياة، لكن لابد من إيراد هذه الحقيقة التاريخية. إن تطور الاقتصاد النقدي- الرأسمالي بالأساس- يلعب دورا رئيسيا في التوحيد القومي للبلد، حيث يربط كل أقاليمه في وحدة اقتصادية عضوية واحدة، لذلك حملت الثورات البورجوازية الديمقراطية هذه المهمة وحققتها في بلدان المركز الإمبريالي. لكن يستحيل تكرار التاريخ كما ينسخ كتاب على آلة نسخ. فدخول الاستعمار في عصر الإمبريالية، حرم البلدان المتخلفة من سلوك طريقها الخاص نحو الاقتصاد الرأسمالي وإتمام المهام الديمقراطية (بما فيها من توحيد البلد). ربطت اقتصاديات هذه البلدان بدول المركز، من موقع التبعية طبعا، حيث طورت مناطق على حساب أخرى تبعا لموقعها وثرواتها واستحدث التقسيم المعروف؛ المغرب النافع وغير النافع. أوجد هذا التقسيم أرضية صلبة لتهميش مناطق وعدم استفادتها من ثمار "التقدم" على جميع الواجهات (بطالة، هشاشة الخدمات العمومية والاجتماعية)، واتخذ الاستياء الاجتماعي بهذه المناطق طابع الاستياء الإقليمي والمناطقي، حيث يبرر التهميش باحتكار المركز (مثلث الدارالبيضاء- الرباط- فاس) للسلطات ونهب ثروات الهوامش. طبعا هناك جانب من الحقيقة في هذا التفسير، لكن يجب إتمامه بحقيقة أخرى هي؛ أن المستفيد حتى في هذا المثلث هو البورجوازية وبيروقراطية الدولة (وهي مكونة من ساكنة مستقطبة من كافة مناطق المغرب). وحقيقة أخرى غالبا ما يتم نسيانها أن هذه المناطق تشكل هوامش الهامش طبعا، فالمغرب جزء من العالم الثالث الذي تنهب ثرواته من طرف المركز الآخر الإمبريالي (مثلث آخر مكون من الاتحاد الأوربي- أمريكا- اليابان). ثم إن لا مجال للمقارنة بين أشكال الحكم القبلي للمجتمعات الماقبل رأسمالية والمفهوم الحديث/ العصري للحكم الذاتي والفيدرالية. فالأولى كانت تنظيمات وقائية بالأساس (دفاعية وهجومية في الوقت نفسه) للحفاظ على الموارد الحيوية (الماء والأرض) ضد الوحدات القبلية الأخرى وضد السلطة المركزية، وقائمة في مجتمع كفاف قائم على اقتصاد تقليدي معتمد على الزراعة والرعي، ولا مجال هنا لتجميل ذاك الواقع الذي كان تحت رحمة قساوة ظروف الطبيعة والفقر المدقع؛ إنه استمرار للأشكال العشائرية القديمة وديمقراطية بدائية تطبع الحياة داخل الوحدة القبلية بمساواة تقشفية مفروضة ولكن لا تستطيع مدها لتتجاوز حدودها وتشمل كل الوحدات الأخرى. أما الفيدرالية والحكم الذاتي بمفهومهما العصريين فقائمان على اقتصاد نقدي رأسمالي بمؤسسات عصرية (برلمان جهوي، شرطة منظمة..) وتفتقد لذاك الطابع المساواتي الذي تتسم به القبيلة. الفيدرالية لا تفرضها قساوة المناخ ولا تقليدية وسائل الإنتاج- كما في المجتمعات القبلية الماقبل رأسمالية، بل استحالة التعايش بين قوميات متعددة ناتجة عن القهر القومي في المجتمع الرأسمالي. إن من يغفل عن هذه الفروق التاريخية بين المجتمعات، سيسقط لا محالة- عن حسن نية أو عن سوءها- في طرح مطالب رجعية في جوهرها. وسيكون من فقدان الحس التاريخي، أن نجعل من حقيقة أن "الأمازيغ" حكموا أنفسهم دائما باستقلال عن الدولة المركزية، رافعة للمطالبة بتمتيع المناطق ذات "الخصوصيات الثقافية" بالحكم الذاتي. وإلا فعلينا المناداة بتمتيع كل مناطق العالم بالحكم الذاتي، ما دامت كل المجتمعات البشرية عرفت ظاهرة "حكم نفسها باستقلال عن الدولة المركزية". وسيكون ذلك ردة تاريخية وخطوة هائلة إلى الوراء. * المناطق ذات الخصوصيات الثقافية ذكرت أن المغرب عاش تجزئة سياسية حتى مجيء الاستعمار. هذه التجزئة وقفت حاجزا أمام تكون شخصية قومية مغربية على غرار ما وقع في أوربا مع تكون الدول- الأمم. كان "المغاربة" يحيلون انتماءاتهم إما إلى إطار ضيق؛ الانتماء القبلي بشكل خاص، أو إلى إطار أوسع حيث يحيلون إلى انتمائهم إلى جماعة المسلمين. عاش "المغاربة" لقرون حياة العزلة الإقليمية داخل قراهم وقبائلهم، خالقين تمايزات لهجية وثقافية فيما بينهم. لكن مجيء الاستعمار قطع عليهم عزلتهم الإقليمية تلك وخمولهم القروي، وزج بهم في أتون ضخم امتزجت فيه تلك الخصوصيات استعدادا لخلق شخصية قومية واحدة. فالهجرة الداخلية- مهما كان سببيها- قد أوجدت القاعدة الاجتماعية للقضاء على ما يسمى "الخصوصيات الإثنو- ثقافية". ودخول الاقتصاد الرأسمالي- في عصره الإمبريالي طبعا- أوجد القاعدة المادية لتوحيد مناطق المغرب- تحت سيطرة البورجوازية ونظامها السياسي: الملكية- بينما أوجد القهر الاستعماري القاعدة السيكولوجية لنمو وعي "قومي". كيف سنحدد خصوصية منطقة ما في المغرب؟ فالدارالبيضاء، المركز النابض للمغرب كله، فسيفساء من كل مناطق المغرب، وبها تتكون الشخصية الحقيقية للمغاربة. وساكنة سوس ليست مقتصرة على السوسيين كما كانت من قبل وكذلك الريف أو الأطلس. فحتى القرى التي كانت وكر الانعزال القبلي أصبحت مركزا للتلاقح الثقافي بين المغاربة كلهم، وكل ذلك نتيجة تغلغل الاقتصاد النقدي/ الرأسمالي إليها وانتشار وسائل الإعلام الجماهيري (تلفاز، صحون لاقطة..). أما المدن التي تعتبر مركز الإشعاع الروحي والثقافي ومستقطبا اقتصاديا لساكنة القرى، فلا يمكن أن نحدد خصوصيتها الثقافية (إلا بناء على اعتبارات ماضوية، وليس واقعها الحالي)، على أنها سوسية أو ريفية... فأكادير والناظور وخنيفرة وفاس ومكناس تعج بمغاربة منتمين إلى كل مناطق المغرب. لقد قضت الرأسمالية، على ظاهرة التجزئة السياسية التي وسمت تاريخ المجتمع المغربي. وليس لنا أن نخجل في اعتبار ذلك من المهام التقدمية التي حققها دخول نمط الإنتاج الرأسمالي إلى المغرب. طبعا لذلك كله طابع نسبي، فتوحيد المغرب الذي تم على يد الاستعمار، كان في صالح الرأسمال الأجنبي أولا، ثم وكيله المحلي ثانيا. وأرسى مكان التجزئة السياسية وحدة سياسية لكن تحت حكم استبدادي فردي، أعاد بناءه وفق معاهدة الحماية وأمده بوسائل للحكم العصري، لم يكن السلاطين القدماء يحلمون بها. ولا زالت مهمة إلغاء التمايزات الإقليمية مطروحة على جدول النضال بالمغرب، ولابد أنه سينتظر الثورة الاشتراكية بالمغرب لتجد حلها الحقيقي والجذري. كما أن "تنمية مناطق" بحد ذاتها، وتهميش أخرى، يؤخر عملية التجانس القومي، حيث يدفع المناطق المهمشة إلى المزيد من العزلة والانكفاء على الذات، والبحث عن بدائل "للتنمية المفقودة" في اعتبارات إثنية وثقافية وحتى قومية. لذلك لازالت هذه المهمة مطروحة على جدول أعمال النضال بالمغرب؛ وهي ليست مهمة محصورة في الاعتراف بالخصوصيات الثقافية أو اللغوية، بل تتعداها إلى خلق تجانس اقتصادي واجتماعي وجعل كل المناطق تعتمد على بعضها البعض، بدل تنمية مناطق وتهميش اخرى على غرار ما يحدث الآن. إن مقولة "الخصوصيات الإثنو- ثقافية" ليست، هي الأخرى، مبررا للمناداة بمطلب الحكم الذاتي. وإلا فسيكون مطلبا صالحا لكل بلدان العالم، حيث تنوع شديد التعقيد في الثقافات والخصوصيات الثقافية واللغوية. وهو مطلب رجعي في عصر تتجه فيه كل الدول، بما فيها الدول الكبرى والمستقوية باقتصادياتها إلى الاندماج. وفي وقت تعمل فيه الحركات المناضلة على توحيد قواها على المستوى العالمي لمواجهة سلطة رأس المال الجبارة، الموحدة في إطار منظمات فوق دولتية مالية كانت (البنك العالمي، صندوق النقد الدولي..) أو عسكرية (حلف الناتو..). * معاناة هذه المناطق من التهميش الاقتصادي والاجتماعي والسياسي لقد ذكرت أعلاه القاعدة المادية لتهميش هذه المناطق. لكن لا بأس من الاستفاضة في الحديث عن التهميش. وهو في اعتبارنا السكة الحقيقية لنقاش سليم لأوضاع هذه المناطق، بدل حصره في مشكل لغوي/ هوياتي كما يحاول صاحبنا بودهان أن يدفع إليه المنادين بمطلب الحكم الذاتي. غالبا ما تكون النزعات القومية أو الإثنية تفجيرا لاستياء اجتماعي تراكم مع السنين. يفجر الاستياء غالبا ضد التهميش الاقتصادي والاجتماعي الذي يعزز مشاعر القهر القومي ويدفع بها إلى الأمام، خصوصا عند غياب بنى ديمقراطية للتعبير عن هذا الاستياء، أو وهذا هو الأهم، عندما لا تقوم منظمات نضال الكادحين بالنضال ضد هذا التهميش. إن طرح التهميش الاقتصادي والإقصاء الاجتماعي من طرف المطالبين بالحكم الذاتي خطوة إلى أمام. لكن البحث عن تفسيرات لها في الخصوصيات الإثنو- ثقافية للمناطق الأمازيغية والصراع التاريخي بين هذه المناطق والدولة المخزنية خطوتين إلى الوراء. إن الأسباب الحقيقية للتهميش- وليس الوهمية طبعا- ملخصة في السياسة الاجتماعية والاقتصادية للدولة المغربية. هذه السياسة لا تقرر في دواليب مثلث الدارالبيضاء- الرباط- فاس، بل في مراكز القرار الرأسمالية العالمية. محتوى هذه السياسات واحد في كل بلدان العالم المتخلف: * التخلي عن تمويل الخدمات الاجتماعية والعمومية (تعليم وصحة، وشق الطرق وربط بشبكات الكهرباء والماء..)، ودعوة جمعيات المجتمع المدني لتحل محل الدولة في تمويلها. * هجوم شرس على جبهة التشغيل: تقليص التوظيف في القطاعات الحكومية، تهشيش لوضع الشغيلة وضرب حقوقها الاجتماعية * نهب الثروات وترحيل جزء كبير منها نحو بلدان المركز الإمبريالي * نزع للأراضي وإهدائها بأثمان رمزية للمستثمرين (الأجانب كما المحليين) * تشديد الدور العقابي للدولة، كجواب على احتجاج السكان على تراجع دورها "الاجتماعي": تقليص هامش الحريات، قمع أدنى احتجاج إن مظاهر التهميش هاته لا تخص منطقة دون أخرى. قد تختلف حدته حسب المناطق، لكن ذلك لا يعني أن هناك مناطق مظلومة بسبب خصوصيتها الإثنو- ثقافية. إن التفاوت في التطور وتراكب مظاهره من القوانين الأساسية للرأسمالية، ولا يمكن القضاء عليه مادامت الرأسمالية على قيد الحياة. إن تطورا متناغما ومنسجما لجميع المناطق يحتاج لنمط اجتماعي آخر؛ مجتمع يقرر فيه المنتجون المباشرون بكل حرية أين وكيف ستوظف الموارد. إن التهميش والإقصاء الاجتماعي والتخلف، مشكلة ذات أبعاد عالمية. لذلك يجب علينا البحث عن حلول على المستوى العالمي بدل الانزواء والانكفاء الإقليميين. إن اعتبار التهميش مبررا للحكم الذاتي، سيجعل هذا المطلب مطروحا في كل بلدان العالم وفي كل الأزمان، ما دام التهميش والإقصاء يطال السواد الأعظم من البشرية. إن منظمات الرأسمال العالمي تبحث عن حلول عالمية لأزمته المستديمة. وترد منظمات الكادحين بتوحيد صفوفها على المستوى العالمي للدفاع عن حقوقها. إن الرد على مشكل ذو أبعاد دولية، لابد أن يكون هو الآخر ذو طابع عالمي. القوميون المتعصبون والعنصريون هم فقط من يبحثون عن حلول في الانغلاق على ذواتهم. هل من منظور مغاير لطرح المشكل؟ ننتقل لبحث الأسباب الموضوعية (الاقتصادية بالأساس) للتفاوت الاقتصادي بين مناطق البلد الواحد. إن طبيعة اقتصاد بلد ما هو الذي يحدد طبيعة العلاقات الاجتماعية داخله. سنورد هنا تحليل الاقتصادي سمير أمين للجذر الاقتصادي للتفاوتات الإقليمية، فهي مثقفة جدا في هذا المجال: " الاقتصاد المتقدم يكون كلا متكاملا يتميز بحركة مبادلات داخلية كثيفة جدا... وبالعكس، يتألف الاقتصاد المتخلف من ذرات منعزلة نسبيا فيما بينها ولا تشكل كلا متكاملا، كما أن كثافة حركة المبادلات الخارجية لهذه الذرات أشد كثافة من حركة المبادلات الداخلية العظيمة الضعف". "إن نتائج هذا التفكك ذات أهمية بالغة. ففي اقتصاد قائم بذاته وقوي البناء، يمكن للتقدم الذي يحدث في نقطة ما أن ينتشر في عموم الهيئة الاقتصادية بمساعدة آليات متعددة متلاقية.. أما إذا كان الاقتصاد متخارجا، فإن جميع هذه المفاعيل تتوقف نسبيا وتنتقل، بقدر كبير، إلى الخارج. إن تقدما يحدث في الصناعة البترولية مثلا، لن يكون له أي أثر على اقتصاد الكويت، فتربية الماشية البدوية لا تعطي ولا تأخذ شيئا من القطاع البترولي؛ لكن هذا التقدم ينتشر في الغرب، في كل صناعاته التي تستهلك البترول". "وبهذا المعنى ما كان علينا أن نتحدث عن اقتصادات قومية متخلفة، بل أن نحتفظ بهذا النعت (قومي) للاقتصادات المتقدمة المتمحورة على ذاتها والتي تكون وحدها مجالا اقتصاديا حقيقيا، قوي البناء، ينتشر فيه التقدم انطلاقا من صناعات تستحق أن تعتبر كأقطاب للتطور. أما الاقتصاد المتخلف فيتكون من قطاعات، من شركات متجاورة ومنعزلة، قليلة الاندماج فيما بينها، لكن مندمجة بقوة، كل على انفراد، في مجموع نجد مركز ثقله في المراكز الرأسمالية. لا يوجد هنا حق أمة، بالمعنى الاق للكلمة، ولا سوق داخلية متكاملة". "ضعف التلاحم القومي في العالم الثالث يعكس هذه الواقعة التي هي أيضا قاعدة ظهور القوميات الصغرى: فالمنطقة المستفيدة من اقتصاد التصدير لم تعد بحاجة إلى باقي البلاد التي تشكل بالنسبة إليها، بالأحرى، ثقلا لا مجديا". (سمير أمين، التطور اللامتكافئ). نعتذر للقارئ عن طول الاستشهادات، لكنها مثقفة جدا فيما يخص حالة المغرب. فالطبيعة التبعية لاقتصاد المغرب؛ كاقتصاد تصدير (تعمقت هذه السمة أكثر مع برامج التقويم الهيكلي المفروضة من طرف صندوق النقد الدولي)، هذه الطبيعة هي التي تجعل المناطق المرتبطة بالتصدير مكتفية بذاتها، وأي ازدهار للقطاعات التصديرية لا ينعكس على القطاعات الأخرى والمناطق الأخرى. فالإيرادات الضخمة للمكتب الشريف للفوسفاط أو المناجم أو مناطق الصيد البحري، لا تساهم في تنمية المناطق المحيطة بهذه المراكز، بالأحرى أن تساهم في تنمية متناغمة لكل مناطق المغرب. إن استبعاد هذا المنظور في تناول وضعية المناطق "ذات الخصوصيات الإثنو- ثقافية"، لن تكون له إلا آثار مضللة على وعي ساكنة هذه المناطق، ولن ينتج إلا مطالب وشعارات مغلوطة ومحرفة للصراع الحقيقي ويغيب الحلول الحقيقية. الأساس العالمي للمشكل إن المنادين بمطلب الحكم الذاتي/ الفيدرالية يبنون سياستهم على الخصائص الإثنو- ثقافية لمناطقهم . "سيكون بالطبع أكبر حماقة أن لا نعرف هذه الخصائص، لكن علينا أن نعرف كيف نكشف تحتها عن القوى المحفزة للتطور العالمي وأن نعي اعتماد الخصائص القومية على التركيب العالمي للقوى. إن الميزة الهائلة للماركسية... تكمن في هذا الأسلوب العالمي لحل المشاكل القومية والخصائص القومية". (تروتسكي، الثورة الإسبانية) تتطلب الماركسية لتبرير أي شعار كان، تحليلا لهذا الشعار من حيث واقعه الاقتصادي وظرفه السياسي ومغزاه السياسي. إن كل شعار بمفرده ينبغي أن يستنتج من مجموع الخصائص التي تميز وضعا سياسيا واقتصاديا معينا. طرح مطلب الحكم الذاتي في وضع عالمي متسم بمركزة القرار الاقتصادي والسياسي على المستوى العالمي، في هيئات فوق دولتية (البنك العالمي، صندوق النقد الدولي، منظمة التجارة العالمية...) حيث تقف أقوى الدول على رأس السلسلة الاقتصادية (كما يقف أقوى حيوان على رأس السلسلة الغذائية)، وفي الوقت الذي تحاول فيه دول الجنوب الدخول في اندماجات اقتصادية، والحركات المناضلة توحيد صفوفها. إن تقسيم العمل في عهد الشركات المتعددة الجنسيات "يفكك الاقتصادات والمجتمعات المحيطية. وتتكاثر الحلقات الناقصة على إثر مركزة الحلقات القيادية في المركز وانتشار الحلقات التابعة في العديد من الأماكن، بشكل يسمح باستخدام التنافس بين ال"أمم الصغيرة" ويخفف من قدرتها على التفاوض. إن الشركة المتعددة القوميات تزيد من المزاحمة بين البلدان المتخلفة، وذلك بخلق بنيات متوازية تجعل من المستحيل تطوير القطاعات المكملة لبعضها والمساعدة على اندماج مساحات اق قوية البناء وأوسع، وهو شرط التطور المستقل". (سمير أمين، التطور اللامتكافئ) إن مصلحة الرأسمال الذي يتوحد على المستوى العالمي ويمركز قوته (مؤسسيا وعسكريا)، قائمة في تشتيت ضحاياه ومنع توحدهم انسجاما مع القاعدة الإمبراطورية القديمة "فرق تسد". من بين أكثر المفاهيم الإيديولوجية المصاحبة للهجوم الليبرالي العالمي رواجا، أن البيروقراطية ومركزة القرار السياسي في يد مؤسسات وطنية تعرقل حرية دخول وتداول "الرأسمال، حامل التقدم والازدهار والحرية". سارعت كل الدول إلى سن إصلاحات قانونية وهيكلية، لتوفير الأرضية المناسبة لحرية الرساميل. أعطيت في هذا الإطار صلاحيات كثيرة للمؤسسات الجهوية (الأقاليم، والبلديات)، صلاحيات تفويت الخدمات العمومية في إطار التدبير المفوض، لصالح الشركات والقطاع الخاص، صلاحيات تفويت الأراضي... في نفس الوقت الذي تشدد فيه القبضة القمعية للدولة وتعدم الحرية السياسية للكادحين، وهي المقابل الضروري لما يسمونه "حرية اقتصادية". هذه هي الصيغة التي يفهم بها الرأسمال العالمي "الحكم الذاتي". يجب أن نعرف ما هي المصلحة التي يعبر عنها أي مطلب، بما فيه الحكم الذاتي: مصالح أوسع الجماهير (الفلاحين الفقراء والعمال) أم مصالح طبقة أخرى. عندما نطرح مطلبا معينا يجب أن نحصن أنفسنا من أن نكون في خدمة الرأسمال. فهذا الأخير يشجع تشتيت "السلطات" في البلد الواحد، لكن فقط السلطات التي يمكن أن تكون أكثر خدمة لمتطلباته. في الوقت الذي يدعم فيه مركزة السلطة الحقيقية. ففي كل بلدان العالم شهدنا تقوية للسلطات التنفيذية، مع ترك أدوار شكلية للبرلمانات التي أصبحت يوما عن يوم أمكنة للمسرحيات الخادعة، و"غرفا للتسجيل"، تصادق عن القرارات التي تتخذها السلطة الحقيقية بالمجتمع: سلطة رأس المال. إن الاعتقاد أن مؤسسات محلية تستطيع أن تجد حلا لمشاكل التهميش والتخلف، في الوقت الذي تحرم فيه الدول من سيادتها السياسية من طرف المؤسسات العالمية والشركات المتعددة الجنسية، اعتقاد واهم. هل نحن ضد المركزية؟ إن طرح السؤال هكذا بالمطلق ليس صحيحا. فلابد من تحليل ملموس لكل وضع ملموس. دعم الماركسيون من الناحية المبدئية وبشكل دائم، حق الشعوب في الانفصال، لكن فقط عندما يستحيل التعايش بين قوميات في بلد واحد وفي حالة ما عبر الشعب المستعمر أو الملحق بشكل قسري، عن رغبته في الانفصال. لكن الماركسيين يشجعون الاندماجات الاختيارية، وليس القسرية طبعا. فالبلدان الكبرى من ناحية الحجم هي التي تستطيع الاستفادة من ثمار التقدم الاقتصادي. فقط عبر مركزة ديمقراطية للثروات على الصعيد الوطني- ومستقبلا على الصعيد العالمي في ظل الاشتراكية- وعبر خطة وطنية تستنفر موارد الوطن ككل، وتجعل كل المناطق والأقاليم تعتمد على بعضها البعض، يمكن ضمان تنمية اقتصادية متناغمة ومنسجمة يستفيد البلد كله من ثمارها. إن رفض الحكم المركزي بالنسبة للماركسيين، هو رفض لاضطهاد البيروقراطية وهيمنتها وغطرستها، وعسفها، وقساوتها تجاه حاجات الشعب، ولهدرها الثروات القومية، ومراكمتها امتيازات مادية مخزية. إن المركزية التي نرفضها هي هذه الزائدة الطفيلية- على حد تعبير ماركس- التي تقتات على حساب المجتمع وتعيق تقدمه الحر، والتي تبتلع جميع القوى والموارد. هذه الدولة هي التي يجب القضاء عليها كي يستعيد المجتمع ما ابتلعته سابقا، وليس القضاء على المركزية بشكل عام، والنضال من أجل الحكم الذاتي بشكل عام. في وجه هذه الدولة المكلفة، يجب أن نرفع مطلب حكومة قليلة المصاريف، بمضمون ماركس، وليس بمضمون الهجوم النيوليبرالي طبعا. إن من يرفض المركزية هكذا بالمطلق، إنما يكشف عن ضيق أفق إقليمي ونفسية بورجوازية صغيرة. فقط هذا هو من يفهم المركزية بالمعنى البيروقراطي والمفروضة من أعلى بوسائل بوليسية واستبدادية. كما يرى في المركزية نفيا للإدارة الذاتية المحلية الواسعة النطاق. عندما يوحد العمال وكافة الكادحين قواهم ليوجهوا ضربة واحدة لظالميهم وقامعيهم، عندما يعملون بشكل مشترك على إلغاء الاضطهاد الطبقي وبناء مجتمع العدالة والمساواة، أليس ذلك من المركزية. فهل من المنطقي أن نرفض هذا النوع من المركزية، بمبرر "الخصوصيات الإثنو- ثقافية". سيكون رجعيا مقيتا وبغيضا من يرفض مركزة من ذلك النوع. إن البديل عن المركزية البيروقراطية المفروضة بطرق بوليسية، كما الحال في المغرب، ليس ليا للقضيب في الاتجاه المعاكس، أي المطالبة بالفيدرالية أو الحكم الذاتي، بل النداء بنوع آخر من المركزية؛ مركزية ديمقراطية في ظل "نظام ديمقراطي" يسمح للكادحين بالتقرير الديمقراطي في السياسة الاقتصادية والاجتماعية التي يريدون تنفيذها بكل حرية. ف"الوحدة الاقتصادية للبلد في ظل حكم ذاتي واسع للمناطق القومية سيحقق للعمال والفلاحين فوائد جمة من الناحيتين الاقتصادية والثقافية". (تروتسكي الثورة الإسبانية). "إن البديل الحقيقي إنما هو التخطيط الاشتراكي الديمقراطي حيث يتغلب التضامن الطبقي على الأنانية المصنعية، أو الفرعية، أو المحلية، أو المناطقية، في ظل شروط تتمثل بالخيارات الحرة التي يقررها الكادحون أنفسهم بصورة ديمقراطية" (ارنست ماندل؛ الاتحاد السوفياتي في ظل غورباتشوف 31) هل نحن مع الحكم الذاتي؟ الجواب هو نعم، لكن في حالة فقط فهمنا ما هو الحكم الذاتي، وحللنا الأوضاع التي تفرضه تحليلا ملموسا. إن الحكم الذاتي/ الفيدرالية وحتى الاستقلال، مطلب ديمقراطي، يدعمه الماركسيون في حالة استحالة التعايش القومي الناتج عن القهر القومي والإلحاق القسري لقومية معينة داخل الحدود الترابية للدولة الظالمة، وفي حالة عبرت القومية المعنية عن هذه الرغبة. إن التمييز بين قومية المظلومين وقومية الظالمين أساسي في السياسة اللينينية في مجال القوميات. لنتناول الوضع الخاص بالمغرب. هل هناك إلحاق قسري للمناطق "ذات الخصوصيات الإثنو- ثقافية". ليس هناك أحد، لحد الآن، عبر عن هذا الرأي بما فيه المنادون بتمتيع هذه المناطق بالحكم الذاتي. فبلاغ تاينزرت الذي وقعته 34 جمعية بسوس ينادي ب"تمتيع فيدرالية سوس.. باستقلال ذاتي في إطار مملكة مغربية ديمقراطية وفيدرالية". هل هناك استحالة للتعايش بين سكان هذه المناطق. إن عنصريا بغيضا فقط- كبودهان- هو من سيحاول التأكيد على هذه النقطة. إن دواعي المناداة بالفدرالية، سياسية بالدرجة الأولى (الإلحاق القسري بالأساس)، وهذه الداوعي غير متوفرة بالمغرب، باستثناء الصحراء الغربية حيث المشكل بالنسبة للصحراويين أنصار جبهة البوليساريو الذين ينادون بالانفصال عن المغرب تحقيقا "لحق الشعوب في تقرير مصيرها" الذي "تضمنه الشرعية الدولية". إذا كان المقصود بالحكم الذاتي، مبادرة السكان من تحت بتنظيماتهم الذاتية، لتسيير شؤونهم بما هو أصلح لهم وليس ما هو أصلح للرأسمال، فنحن مع المطلب بلا قيد أو شرط. بل إن الماركسيين هم الأوائل الذين يحفزون على هكذا حكم ذاتي. لكن هذا النوع لا يطلب من الدولة بل يفرض من تحت بقوة الكادحين وينتزع انتزاعا بتدمير الدولة البورجوازية وتحطيم سلطة الرأسمال، وهو ما يفرض نوعا آخر من المركزية، نوعا محبذا بطبيعة الحال: المركزية الديمقراطية. يجب تخطي الخيار الزائف بين المركزية المفرطة والفيدرالية الحالمة. ومن الضروري اتخاذ طريق ثالث قائم على مركزية ديمقراطية، تضمن مركزة للفائض الاجتماعي ولقرارات توظيفه وتوزيعه مع ضمان حق المواطنين القاعديين في الرقابة الاجتماعية على هذه المركزة. أما الحكم الذاتي بالشكل الذي تنادي به أطراف داخل الحركة الأمازيغية، فلن يقوم إلا بإعادة إنتاج البيروقراطية على المستوى المحلي؛ بوليس محلي يقمع بدل بوليسي مركزي، برلمان جهوي يصادق على مخططات معادية لحقوق الكادحين محل برلمان مركزي يقوم بنفس الشيء؛ وهو عين ما تدفع به مؤسسات الرأسمال العالمي. كما أنه طريق لنزع فتيل القضية الأمازيغية، أي نفس العمل الذي قام به المعهد؛ وستكون مؤسسات الحكم الجهوي أوكارا لامتصاص قادة الحركة الحاليين، كما امتص المعهد القادة السابقين. ما هي الدواعي الحقيقية إذن للمطالبين بالحكم الذاتي؟ سبقنا وأشرنا في ورقة ناقشنا فيها بودهان، أن الحركة الأمازيغية بعد تأسيس المعهد الذي حشرها في مأزق ضيق، قد برعت في تكتيكات الهروب إلى الأمام. فبدل طرح المهمات الحقيقية (إعادة بناء الحركة بعد تشتتها التنظيمي، إعادة تدقيق المطالب، والأكثر أهمية إعادة تصحيح خطها النضالي وتوجيهه نحو العمل الميداني بدل انتظار صدقات الحاكمين)، تعمد الحركة على البحث عن أقصر السبل لإنصاف الأمازيغية، وهي في الحقيقة أقصر السبل للهزيمة. إن طرح مطلب الحكم الذاتي من طرف أطراف داخل الحركة، في وضع ذاتي متأزم شرحنا سماته أعلاه، يعتبر هروبا إلى الأمام. إنه ترف فكري عند نخبة ألفت العمل داخل الصالونات والنضال الأكاديمي الذي لا يلزم صاحبه بتصادم مع الدولة ولا بالتعامل مع النضالات الجماهيرية الجبارة كالتي حدثت في القبايل بالجزائر. غالبا ما يطرح المنادون بالحكم الذاتي تجربة القبايل، كنموذج يستندون إليه لتبرير مطالبتهم تلك. إن القبايليين قد طالبوا بالحكم الذاتي ونحن أيضا. لكن لماذا تقتدون بالقبايل في هذه النقطة فقط. فالمطالبة بالحكم الذاتي للقبايل لم يكن قط مطلبا جماهيريا، بل مطلبا هامشيا نادت به بعض الفعاليات فقط (المغني فرحات منهي). لماذا لا تعملون على بناء تنظيمات ذاتية للسكان (على غرار تتنسيقيات العروش والقبائل) وتحفزون السكان على النضال الميداني وانتزاع المطالب انتزاعا من الدولة. هناك نقطة أساسية ترتبط بموضوعنا تخص منطقة القبايل. فقد نادت تنسيقية العروش والقبائل في "أرضية القصور" بمطلب يعبر عن رغبة سكان المنطقة في ممارسة حكم ذاتي حقيقي، حيث السلطة في يد السكان وليس في يد برلمانات جهوية، لقد نادوا بترحيل كل قوات البوليس عن المنطقة وتسليم مهمة الأمن إلى منتخبين محليين. هذه النقطة اعتبرها عالم الاجتماع الجزائري المقيم بفرنسا، الدكتور الهواري عدي، مربط الفرس في لائحة المطالب، لأن تسليم الأمن للمنتخبين هو الحد الفاصل بين دولة بوليسية وجمهورية ديمقراطية. وردا على محاولة السلطة الجزائرية حصر مطالب القبايليين في مطالب جهوية، حيث أملت بذلك عزل المنطقة وتأليب باقي المواطنين على "الخصوصية القبائلية" بقصد منع أي التقاء في الاحتجاج. لكن القبايليين رفضوا تناول مطالبهم على أساس جهوي بل نظروا إلى حركتهم كمعبر عن مطامح كل الجزائريين. لماذا إذن يختصر المنادون بالحكم الذاتي، الاقتداء بتجربة القبايل الرائدة في مجرد المطالبة الحكم الذاتي. الجواب بسيط جدا. إن الطبيعة الاجتماعية لهؤلاء هي التي تفسر شعاراتهم وتكتيكاتهم. فكمثقفين، ومثقفين بورجوازيين صغار بالدرجة الأولى، يهربون من طرائق النضال التي قد تصب جام غضب الرجعية عليهم، وجل ما يطالبون به هو تحسين وضعية طبقتهم في إطار نفس المجتمع (الرأسمالي)، وتحت نفس النظام السياسي. إنها العقلية الضيقة للبورجوازي الصغير الذي يطالب لنفسه بتحسينات ولا يهتم بباقي المجتمع، عقلية حانوتي خامل أو فلاح لا يطالب إلا بتركه يعيش بسلام مع محراثه الموروث عن القرون الوسطى وقطعة أرضه الصغيرة؛ لكن عبثا يحاول ذلك فالمجتمع الرأسمالي لا يتركه في سلام، تارة بالضرائب الباهضة وتارة بالديون وفوائدها الربوية وتأثرات تقلبات الأسعار على المستوى العالمي. لقد مر وقت طويل كانت فيه الحركة تعتبر القضية الأمازيغية "مسؤولية وطنية"، لتتحول بعد تأسيس المعهد إلى قضية جهوية وقضية مناطق ذات "خصوصيات إثنو- ثقافية". إنها فعلا خطوة إلى الخلف مقارنة مع بيان أكادير. والتراجع نحو الوراء هو ما برعت فيه تنظيمات الحركة من تأسيس المعهد. بالنسبة لنا الدفاع عن القضية الأمازيغية يكون "وطنيا" أو لا يكون، طرحا طبقيا أولا يكون؛ طرح يضع مصالح الكادحين فوق أي اعتبارات، لغوية كانت أو دينية أو ثقافية...