يفقد كثير من الناس الإستمتاع بجمال الحياة وتذوق معناها في بَساطتها حتى يستمتعوا بما يملكون ويبدعوا فيما يصنعون. لكن يقتلهم الروتين والجمود والتذمر، ثم يفقدون الأمل، ويموت فيه الحافز Motivation والمبادرة، وبالتالي يسيطر عليهم الإكتئاب والفشل ثم الإستسلام. هناك تفقد معنى وجودك فتصيرغير واثق من نفسك، مهملا الإعتناء بهندامك، ولا فرق عندك بين معطف تلبسه وآخر ولا بين النظافة وغيرها. أما حياتك في البيت فبطيئة لا وُرُود ولا لوحة ولا رمزاً للجمال، بل ولا برنامج أو هدف. كل ذلك له سبب واحد هو غياب المعنى الذي لم تعطه لحياتك بعد. الإنتاج والإنجاز عندما ننجز شيئاً تغمرنا السعادة حالاً بقدر ما أنجزناه من عمل بسيط أو جليل. كان ذلك الإنجاز لشخصك، أم لأسرتك، أم لصديقك، أم لجارك، أم لحيوان أعجم، وهكذا؟ العَطاء يُعَد العطاء في الممارسة البوذية الأكبر فاعيلة في تفجير ينبوع السعادة لدى الإنسان - أنظر كلمة كارما- والعطاء عندهم لا ينحصر في خبز أو مال أو شئاً ما، لكن دائرة العطاء واسعة. ففي اللحظة التي تعطي تشعر أنت بالسعادة قبل شعور المستفيد بها. بهذا تكون انت المتلقي لا المعطي أو أنت كلاهما، هذا. ينص الٌقرآن الكريم على العطاء بنوع من الدقة لم أنتبه إليها إلا بعد دراستي للديانة البوذية. نقرؤا في قوله تعالى: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ، فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ ... الآية السادسة من سورة الليل، لم تذكر الآية ماذا يُعطى حيث حُذف المفعول، وهذا أحد أجمل التعابير البلاغية في القرآن. من بين أسرا الحذف، أو الطي هو اتساع دائرة العطاء هنا. فلو نص على المعطًى بأن قال: من أعطى الأكل أو المال أو الثوب يكون قد حصر العطاء في المنصوص عليه ولا يتعداه، لكن العطاء هنا يشمل عطاء ك من علمك، من تجربتك من حبك من إحترامك، ثم من مالك حسب الإحتياج. جحيم الحياة عذاب أليم الذي قد يعانية ذلك الإنسان الجالس على الرصيف، أو وراء جهاز يقضي معظم يومه أو ليلته دون تنمية لذاته أواستثمار في وقته. أو ظل يقلب وجهه في السماء يراقب المارين ينتظر الأحداث ولا يصنع حدثاً فلا تسأل إذن عن الجحيم النفسي لهذا البئيس المثير للشفقة.ثم يتذمر أخيراً بأنه لم يجد للحياة معنى. ماذا يمكن لي أن أًنجز؟ قم بتنقية حديقتك، غيَر سياجها، أغرس فيها شيئاً، إقرأ كتاباً، إحفظ سورة من القرآن الكريم، تعلم لغة، ارتبط برياضة، إسق أشجارك، نظف محيط دارك، غير ترتيب الأثاث في بيتك. العمل التطوعي في هولاندا لا تكاد تصدق النسبة الهائلة من أعمال يؤديها متطوعون بانضباط: في جهاز الشرطة، في المطافئ، في المستشفيات، في دور العجزة، في السجون، وهلم جراً. ثقافة العمل التطوعي لدى الجيل الأول وحتى الثاني من المغاربة – للأ سف نادرة جداً، لكن فاجأني الإقبال الكثيف لأبنائنا من الجيل الثالث على العمل التطوعي، وهذا شيء مفرح لأن المواطنة ليست أوراقاً بل هي التي تصنعها بيدك. خلاصة ثبت أن معظم المقبلين على الإنتحار هم من فقدوا الثقة في محيطهم وذاتهم، وضاقت بهم دائرة الحياة بما رحُبت وطفقت تزداد ضيقاً وتزداد، فأضحى لا مناص لهم من البحث عن عنق الزجاجة لينفذوا من خلاله إلى فضاء الوجود الأوسع. لكن الحياة فضاء شاسع، لوحة جميلة، ونعمة مقدسة، فرصة سانحة للحب والعمل والإنتاج والعطاء. الذين اختاروا أن يرحلوا إلى أدغال أفريقيا من أطباء وممرضين ومساعدين وإلى مناطق الحروب والدمار ومقرات اللآجئين التألمين من اليتامى والأرامل، عم يبحث هؤلاء هناك دون معنى لحياتهم؟ نعم هناك عثروا عليها. في طي المشقة معنىً للحياة.