الرجاء يشتكي آيت منا إلى القضاء    بعد 40 ساعة من المداولات.. 71 سنة سجنا نافذا للمتهمين في قضية "مجموعة الخير"    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها بأداء إيجابي        الرباط: المنظمة العربية للطيران المدني تعقد اجتماعات مكتبها التنفيذي        28 ناجيا من تحطم طائرة بكازاخستان    مسؤول روسي: المغرب ضمن الدول ال20 المهتمة بالانضمام إلى مجموعة "بريكس"    التوحيد والإصلاح: نثمن تعديل المدونة    بلاغ رسمي من إدارة نادي المغرب أتلتيك تطوان: توضيحات حول تصريحات المدرب عبد العزيز العامري    مصرع لاعبة التزلج السويسرية صوفي هيديغر جرّاء انهيار ثلجي    بعد تتويجه بطلا للشتاء.. نهضة بركان بالمحمدية لإنهاء الشطر الأول بطريقة مثالية    الوداد يطرح تذاكر مباراته أمام المغرب الفاسي    تأجيل محاكمة عزيز غالي إثر شكاية تتهمه بالمس بالوحدة الترابية    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الخميس    ابتدائية الناظور تلزم بنكا بتسليم أموال زبون مسن مع فرض غرامة يومية    الريسوني: مقترحات التعديلات الجديدة في مدونة الأسرة قد تُلزم المرأة بدفع المهر للرجل في المستقبل    الحصيلة السنوية للمديرية العامة للأمن الوطني: التحفيز والتأديب الوظيفي آليات الحكامة الرشيدة    برنامج يحتفي بكنوز الحرف المغربية    نسخ معدلة من فطائر "مينس باي" الميلادية تخسر الرهان    "ميسوجينية" سليمان الريسوني    ترامب عازم على تطبيق الإعدام ضد المغتصبين    لجنة: القطاع البنكي في المغرب يواصل إظهار صلابته    مجلس النواب بباراغواي يصادق على قرار جديد يدعم بموجبه سيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية    باستثناء "قسد".. السلطات السورية تعلن الاتفاق على حل "جميع الفصائل المسلحة"    تقرير بريطاني: المغرب عزز مكانته كدولة محورية في الاقتصاد العالمي وأصبح الجسر بين الشرق والغرب؟    ماكرون يخطط للترشح لرئاسة الفيفا    بطولة إنكلترا.. ليفربول للابتعاد بالصدارة وسيتي ويونايتد لتخطي الأزمة    نزار بركة: 35 مدينة ستستفيد من مشاريع تنموية استعدادا لتنظيم مونديال 2030    مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع القانون التنظيمي المتعلق بالإضراب    بنحمزة: الأسرة تحظى بالأهمية في فكر أمير المؤمنين .. وسقف الاجتهاد مُطلق    مجلس النواب بباراغواي يجدد دعمه لسيادة المغرب على صحرائه    ضربات روسية تعطب طاقة أوكرانيا    تزايد أعداد الأقمار الاصطناعية يسائل تجنب الاصطدامات    ارتفاع معدل البطالة في المغرب.. لغز محير!    السعدي : التعاونيات ركيزة أساسية لقطاع الاقتصاد الاجتماعي والتضامني    ونجح الاتحاد في جمع كل الاشتراكيين! .. اِشهدْ يا وطن، اِشهدْ يا عالم    وزير الخارجية السوري الجديد يدعو إيران لاحترام سيادة بلاده ويحذر من الفوضى    الخيانة الزوجية تسفر عن إعتقال زوج وخليلته متلبسين داخل منزل بوسط الجديدة    إمزورن..لقاء تشاركي مع جمعيات المجتمع المدني نحو إعداد برنامج عمل جماعة    "ما قدهم الفيل زيدهوم الفيلة".. هارون الرشيد والسلطان الحسن الأول    ‬برادة يدافع عن نتائج "مدارس الريادة"    المخرج شعيب مسعودي يؤطر ورشة إعداد الممثل بالناظور    الاعلان عن الدورة الثانية لمهرجان AZEMM'ART للفنون التشكيلية والموسيقى    العلوم الاجتماعية والفن المعاصر في ندوة بمعهد الفنون الجميلة بتطوان    الدورة العاشرة لمهرجان "بويا" النسائي الدولي للموسيقى في الحسيمة    طبيب يبرز عوامل تفشي "بوحمرون" وينبه لمخاطر الإصابة به    اليوم في برنامج "مدارات" بالإذاعة الوطنية : البحاثة محمد الفاسي : مؤرخ الأدب والفنون ومحقق التراث        ما أسباب ارتفاع معدل ضربات القلب في فترات الراحة؟    الإصابة بالسرطان في أنسجة الكلى .. الأسباب والأعراض    "بيت الشعر" يقدم "أنطولوجيا الزجل"    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة القرآن اليوم


عزيزتي فاطمة الزهراء،
ما أود أن أحدثك حوله اليوم، عزيزتي فاطمة الزهراء، هو قرآننا، تلك الثروة النفيسة التي تشكل جزءا من وجودنا الأكثر حميمية، نحن المغاربة. القرآن مصدر الحياة، مصدر الطاقة والتأمل، الذي يسم طريقة وجودنا في هذا العالم، الذي شكّل و يثري ذكاءنا وحساسيتنا أيضا. القرآن الذي يتلقاه المؤمن في قلبه ككلمة مُنزلة. قد تدهشك رغبتي في تناول هذا الموضوع معك. أليس الموضوع كبيرا بالنسبة لنا؟ ألا يتطلب كفاءات أو ميزات غير متوفرة لدينا؟ ثم، أليس هناك العديد من القضايا الأخرى أكثر استعجالية وتطرح نفسها على مواطني بلادنا؟ البؤس الكبير لشريحة واسعة من مواطنينا. علاقات العنف المتواجدة في كل سلالم مجتمعنا، في الأسرة وفي دوائر السلطة السياسية كذلك. بقايا الفيودالية والميكانيزمات الجديدة للاستغلال والإقصاء . التفاوتات في مجال الصحة والتربية. العلاقة الشديدة التعقيد مع الغرب، حيث يتناوب الحب والحقد، الجاذبية والنفور. استخدام الإسلام كأداة لبلوغ غايات سياسية أو ميركانتيلية. لا يمكن، بالفعل، نسيان هذه القضايا كلها.
إلا أنه يبدو لي، بالنظر لمكانة القرآن في وجودنا الشخصي والجماعي، في تاريخنا وفي حاضرنا، أنه من الأولويات أن نرجع إلى الكتاب المقدس و إلى ما يعنيه. أن نرجع إلى القطيعة التي مثلها ولا يزال يمثلها. إلى إشراقات المعاني الجديدة التي يمكن أن نجدها فيه بالتأكيد. إضافة إلى ذلك، فإنه من المحتمل أن كل المشاكل الكبرى لبلادنا، حالة العجز التي نعاني منها والتي تحول دون تسوية هذه المشاكل، ذات صلة بعلاقتنا بالقرآن!
من أية شرعية أنطلق لكي أحدثك عن القرآن؟ ليست لدي أية شرعية تفوق شرعيتك أنتِ أو تقل عنها! تفوق شرعية أي مسلم أو تقل عنها. بل، وأكثر من ذلك: شرعية تفوق أو تقل عن شرعية أي كائن بشري قادر على الانفتاح على غنى هذا النص. أنا واثق من كون القرآن مِلك للإنسانية كلها، كما هو شأن كل الكتب العظيمة التي انبثقت في تاريخ الإنسانية و أعطته معنى، مبرزة قدرتها ( وهذا نادر!) على تغذية روح وذكاء إنسان مختلف الحقب والثقافات : نصوص الفيدا، التوراة ، الإلياذة والأوديسة...
قد يقول البعض: «لا تقرب قرآني!». لكن باسم من وباسم ماذا يمنح هؤلاء الناس لأنفسهم «حق تملك» هذا النص الذي هو، بحكم طبيعته ككتاب موجه إلى الإنسانية، ثروة نفيسة لكل الكائنات البشرية؟ إنني، وأنا أقول هذا، لا أنكر وجود أشخاص عارفين بالعلوم الدينية، وبالعلوم القرآنية بوجه الخصوص، يمتلكون شرعية خاصة لتأويل النص القرآني. أعتقد، مع ذلك، أن من بين مشاكل المعرفة القرآنية، في عهدنا، مشكلة إعادة تحديد معايير معرفة متجددة، مبتكِرة، صارمة تجاه ثقافتنا الحديثة. وعلاوة على ذلك، هناك أشخاص لا معرفة لهم، لا انشغال لديهم باكتساب أدواة البحث والفهم، ومع ذلك، فهم يدعون فرض المعنى «الصحيح» للنص القرآني، بفعل سلطة يمنحونها لأنفسهم أو بفعل العنف.
نحن في حاجة لمتخصصين عديدين في القرآن، إلا أن التوجه إلى جميع الناس من طبيعة كلامه. لا يتعلق الأمر باعتقاد كل إنسان، أو إنسانة، أنه بقدرته إيجاد المعنى «الصحيح» أو المعنى « الحقيقي الوحيد « الذي سيفرض نفسه على الجميع: يتعلق الأمر بأن يتمكن كل إنسان، أو إنسانة، من أن يحتجز لنفسه، تحتجز لنفسها، النص و أن يجد فيه، تجد فيه، الكلام المحرِر. وفيما يخصني أنا شخصيا، فقد اكتسبت، خلال الخمس عشرة سنة الأخيرة، ولعا غريبا بالنص القرآني كما هو الشأن بالنسبة لنص التوراة . و إذا كان عليّ أن أحدد موقعي، فأنا، بكل بساطة، باحث متواضع في التفسير القرآني، وأقصد التفسير باعتباره علم (أو فن) التأويل.
النزعة التيمية لأصوليي القراءة الحَرفية
يتم الحديث كثيرا، منذ قرابة ثلاثين سنة، عن « الأصوليات « الدينية، سواء كانت يهودية، مسيحية، هندوسية أو مسلمة. واعتمادا على كمية الشَّعر التي تغطي بدن أصحابها الذكور، أنقاد للسهولة كي أوضح: الأصوليات «من كل صنف»! المشترك بين هؤلاء الأصوليين (نسميهم
«متطرفين» أيضا)، مهما كان انتماؤهم الديني، هو القيام بقراءات حَرْفية لنصوص دياناتهم المقدسة. بمعنى أنهم يقرِؤون النص «حَرفيا»، دون اتخاذ أدنى مسافة تأملية مع ما هم بصدد قراءته كلمة كلمة، آية أية. إن لديهم، في نهاية المطاف، تصورا «سحريا» للتنزيل: لا يمكن تلقي أي حرف، أية كلمة، أية جملة، إلا باعتبارها «مقدسة» وغير قابلة للمراجعة، لأنها، في اعتقادهم، «كلام» الله نفسه. كل كلمة وكل آية قرآنية إذن، حسب معتنقي القراءة الحرفية المسلمين، صحيحة صحة نظرية رياضية، ويتعذر على النقد العقلاني إدراكها.
ألم يكن القرآن، «غير المخلوق»، موجودا في السماوات قرب الله حتى قبل نزوله على النبي محمد، النزول عليه كما هو اليوم بالضبط؟ ألا يكون
«نزل» (ويواصل النزول) على المسلمين كمتتالية وحي مباشر وغير قابل للنقاش، تتطلب «حرفيته» أن تُطبّق دون أدنى انشغال بالتأويل النقدي؟ ما الذي يخافه هؤلاء الأصوليون إذن؟ أن ينفلت من سيطرتهم هذا القرآن الذي رضعناه مع حليب أمهاتنا؟ إلا أنهم، بتصرفهم إزاءه على هذا النحو، «يجعلونه متحجرا»! يجففونه ! يمنعونه من مواصلة التعبير عن نفسه كتدفق للمعاني! ينكرون عليه قدرته على بعث الحياة في تعدد المعاني. إن تصورهم «المقدس» للنص القرآني يُحَول هذا الأخير، من كلمة حية ودائمة الإدهاش بالتالي، إلى وثن للعبادة. إنهم يُحولون القرآن إلى تميمة! إلى صنم مثيل بصنم «العجل الذهبي»، كما سبق أن فعل اليهود الذين كانوا في حاجة للتمكن من «لمس الله»، التمكن من إخضاعه لرغباتهم. إنهم يسعون، عبر قرآن حولوه إلى «مادة إلهية «، إلى جعل الله في خدمتهم. إنهم يعتقدون أن بإمكانهم « نهب» القرآن والله في ذات الآن.
ومع ذلك، فالذين يقرؤن النص حرفيا، أو الأصوليون، يخدعون أنفسهم. إنهم يكشفون عن عماهم فيما يخص طريقتهم الخاصة في إدراك النص القرآني. لأنه ليس ثمة «تأويل خالد» للقرآن ينبثق «جاهزا» من النص بمفرده، و لا يتغير. إنهم يِؤولون النص القرآني، بالضرورة، مثلما يفعل أي قارئ للقرآن. ليست كل قراءة، بما في ذلك القراءات الأكثر أصولية، غير قراءة وفهم ضمن قراءات وفهم آخرين. كل قارئ يختار، عن وعي أو دونه، بعضا من معايير القراءة على حساب بعضها الآخر، وهو ما يتضمن سلفا تأويلا معينا. لا وجود لقراءة «ساذجة»، إذ الافتراضات المسبقة مهيمنة بقدر ما تتعرض للإنكار، بدل تحليلها.
إن القرآن كتنزيل على الناس وكمعنى يُضفى على حياتهم، خطاب أولا، لسان إنساني موجه إلى أناس يتكلمون. لا يمكننا الإفلات من رموز اللغة، لأن شرطنا الإنساني هو المتكلم. نلتقي حتما بالإنسانية حين نتكلم. ولذلك وظف ذلك الذي نسميه «الله» اللغة للكشف عن نفسه. ولأن الرسول المختار، خلال القرن السابع عشر من التاريخ المشترك، كان رجلا يعيش في شبه الجزيرة العربية، فقد نزلت الرسالة باللغة العربية (مثلما نزلت، في السابق، بالعبرية على موسى و بالآرامية على المسيح). إلا أن ما يهم هو الخطاب في عنصر اللغة الإنسانية، وليس في عنصر اللغة العربية. إن هذه اللغة الأخيرة، وكأية لغة، مهما كانت جميلة ومهما كانت مهمة بالنسبة لتاريخ الإسلام ولتاريخ العالم العربي، تظل محتملة. لا يمكننا عبادتها، هي الأخرى، كصنم.
لا أجهل أن جماعات من المسلمين، بتلقيهم لهذه اللغة باعتبارها «لغة مقدسة»، بالمعنى الكامل لهذا التعبير، يتفحصون لغة القرآن بطريقة متزهدة ويقومون بعمل باطني كبير انطلاقا من الحروف العربية. إن هذا شرعي، بالطبع، خصب ويُولد الشغف عند قراءته، إلا أن الاختيار الحر للبعض لا يمكنه أن يفرض نفسه على الكل . والمتزهد والباطني لا يتوجهان، بالتحديد، للجميع . علاوة على أن أي تأويل، أية طريقة خاصة لقراءة نص، لا يمكن فرضهما على أي كان. ذلك مستحيل، إلا إذا تم عن طريق العنف، عن طريق ما هو «خارج اللغة». من المؤكد أن التأويلات ليست متساوية كلها، إلا أن هذا المعطى ينبغي أن يبرز في الحوار . وحده النقاش مهم بين أناس يتبادلون الحديث ويتبادلون الاحترام، ويحترمون دوافع الآخرين. قناعتي العميقة هي أن معاني الخطاب القرآني لا تنضب، وأن لغة القرآن تدعونا إلى الدراسة، تدعونا إلى الاشتغال على النص، الأمر الذي يتطلب استخدام كل المناهج المتاحة، قديمها وجديدها.
مقاربة تقوية وسلوكات مشوهة
حدثتك عن مقاربة القرآن التي يقدمها الأصوليون. هناك طرق اختزالية أخرى لإضفاء الموضوعية على القرآن من خلال جعله يفصح مسبقا عن المحتوى الكامل للأحداث التاريخية ( البيولوجية، الفيزيائية، الفلكية، التاريخية...)، كما لو أن النبوءة، التي هي طبيعة القرآن نفسها، قابلة للاختزال في «مجموعة» نبوءات صغيرة حول كل شيء. سيكون كل شيء، تبعا لهذه المقاربة، متضمنا في الستة آلاف ومائتي آية: الديمقراطية، تحرير النساء، اكتشافات العلم الحديث، الخ. كلا! إن كل ما يشكل الحياة الملموسة للناس خلال تاريخهم ليس متضمنا في النص القرآني. بإمكاننا أن نعثر دائما، ضمن كل آيات القرآن، على ما نرغب في وجوده فيها. بإمكاننا دائما تناول آية معزولة عن سياقها، وأن نجعلها تقول ما نحن في حاجة إلى أن تقوله. بإمكاننا أن نرى دائما في هذا الاستحضار أو ذاك، تلميحا لشيء ما، حتى لو لم يكن معروفا في عهد النزول. لكن القرآن لم يعلن لا عن اختراع القنبلة النووية ووباء السيدا، ولا عن وصول الإنسان إلى القمر أو تطور الإنترنيت!
بواسطة هذه الطريقة في قراءة الآيات عبر البحث فيها عن كل شيء وأي شيء، الطريقة التي نجدها بالأحرى عند أناس يعتنقون الإسلام التَّقَوي والتقليدوي، تتعرض تاريخية القرآن للإنكار. إننا ننسى أن انبثاقه حصل في رحم التاريخ، في زمن وفي مناخ ثقافي معينين. إننا نُحول القرآن إلى نص خارج الزمن وخارج التاريخ، خارج الإنسانية. إن أصحاب هذه المقاربة، بموضعتهم للقرآن «خارج التراب»، يجعلونه غير قابل لأية قراءة حديثة. إنهم يَحولون دون محاورة القرآن فعلا للعالم المعاصر. لأنه، بخلاف ما يمكنهم أن يلقوننا إياه، لا وجود لأية ملاءمة بين العالم الثقافي للقرآن وعالمنا نحن. العالم الحديث الراهن يسائل المسلمين عبر كل الابتكارات التي لا تكف عن الظهور: الابتكارات العلمية، التقنية، الثقافية، السياسية، الأخلاقية ... إننا، انطلاقا من حقيقة العالم الذي نعيش فيه، نتساءل ونسمح للخطاب القرآني بمساءلتنا. هنا يكمن أفق التأويل. وهذا ما أعتبره، شخصيا، أمرا أخاذا: إن القرآن يسأل، يعطي وجودنا معنى، إلا أنه لا يقدم بالتأكيد أية حلول جاهزة. لا يمكننا تبرير الحاضر انطلاقا من القرآن، إذا بحثنا فيه عما لا يوجد فيه!
إلى جانب مساعي القراءة الحرفية والتقوية، هناك طريق ثالثة «متذبذبة» لمقاربة النص القرآني: الطريقة التي أصفها ب «الباترة». هكذا، وبسبب المسافة القائمة بين عالم القرآن وعالمنا الراهن، يفضل البعض اعتبار العديد من الآيات متقادمة. هكذا، ونظرا لعدم ملاءمتها مع زماننا، ولاسيما في مجال الأخلاق، نختار بكل بساطة... طرحها جانبا. نقرر أن لا نأخذها بعين الاعتبار! أن ننظر إليها على أنها مجرد أطلال من ماض ولى... يسلك العديد من المسلمين هذا المنحى، يسعون إلى تحويل القرآن إلى قرآن «بسعرات حرارية أقل»! لكن، أية شرعية يمتلكها أصحاب هذا المحو؟ من يمكنه الادعاء بامتلاك حق اقتضاب أو مراقبة النص الذي نُقل إلينا؟ هل يمكن لديانة تعتبر نفسها أنها «موحى بها» أن تقرر أن ما أُوحي به في الماضي وتم الاحتفاظ به طيلة قرون ، باعتباره كلاما حيا، قد تقادم؟
الآيات الصعبة موجودة. إنها تشكل جزءا من النص، من تماسكه ومن وحدته. لا ينبغي أن تُمارَس عليها الرقابة. لأنها تشغل وظيفة أو وظائف. فهي، من جهة، تشكل جزءا من التوازن الأدبي للنص، من بنائه المعماري، ووجودها يُضفي قيمة على الآيات الأخرى التي ترتبط بها . وهي، من جهة أخرى، تثبت تاريخية النص القرآني، تجذره في ثقافة محددة. إنها تشدد على كل ما يتضمنه النص من حقيقة إنسانية. لأن الوحي القرآني انعكاس حقيقي لما يشكل الإنسانية. الأمر لا يتعلق بوحي يقوم بمجرد « ملامسة» معيش الناس . إنه وحي يحمل لحم ودم البشر، ذكاءهم وعماهم، سخاءهم وعنفهم، غرائزهم للحياة وغرائزهم للموت كذلك؛ إنه يتوجه إلى الإنسان في حدوده القصوى. ذلك ما تخبرنا به التقاليد حين تعلمنا أن القرآن أُنزل على شكل نُتَف، بناءا على الأحداث التي كانت تقع. ذلك ما يشهد عليه أيضا العلم القرآني القديم الذي يسمى «علم أسباب النزول» ( رغم الإمكانية المتاحة لنا للتساؤل إن لم يكن الكثير من هذه»الأسباب» قد شكل موضوع بناءات أدبية لا تتناسب مع ما نعنيه اليوم بالعلم التاريخي الصارم).
مواجهة النص
في وضعية الحداثة الفكرية التي نعيشها، عزيزتي فاطمة الزهراء، يتوفر لنا، مثلما لم يحدث في السابق، حظ امتلاك أدوات حديثة للتقصي، للفهم، للتأويل. بفضل هذه الأدوات، يمكننا اكتشاف وفهم النص القرآني بطريقة متجددة. علينا أن نعرف كيف نعبئ كل هذه الموارد لقراءة النص « في كل المعاني» الممكنة بالنسبة لنا، هنا والآن. لكي نستخرج منه، إذن، معانيه المتعددة، المتناقضة. ولا يتعلق الأمر ب «نزع صفة القداسة» عن النص القرآني، بالتنقيص من طابعه «السامي»: من الأجدر أن نواجه النص بكامل ذكائنا المعاصر، بكامل عقلنا، بكامل ثقافتنا، بكل العلوم المتاحة.
يتم تلقي القرآن على أنه كلام الله الموحى به في سياق التاريخ. ما يعني، كما أثرت سابقا، أنه نزل في زمن معين، في مكان معين، في ثقافة معينة، في لغة معينة، في سياق سياسي معين، سياق ديني واقتصادي. لأن إنزال النص القرآني قد حدث منذ أربعة عشر قرنا، في شبه جزيرة عربية مختلفة كل الاختلاف عما يمكننا تصوره، لذا، فعلى القارئ المعاصر أن يقطع مسافة تاريخية شاسعة لكي يلتحق بالنص ويلتحق به هذا الأخير من جهته، لكي يشعر أنه معني فعلا بهذا النص. ومع ذلك، فهذا النص المُدرَج في التاريخ بطريقة خاصة، أصبح كونيا، أو أصبح كونيا كمونا. كيف ذلك؟ ماذا عن البعد «الكوني» لهذا الخطاب؟ لمعرفة النص وفهمه، علينا أن ننكب على دراسته، علينا أن نباشر عملا.
حين ننكب على هذه المهمة المثيرة، نبتدئ باكتشاف أن القرآن يمثل نمطا معينا من الخطاب، أنه يندرج في خانة شكل أدبي معين. إننا، بشكل عام، أمام نثر موزون قريب من اللغة الشعرية، ما يجعل القرآن يوحي أكثر مما يقول فعلا. إنه يحتوي في ذاته على العديد من الأجناس الأدبية، الجنس القيامي (من القيامة)، الجنس السردي، الجنس القانوني، الجنس الأخلاقي، الجنس الروحاني، الشعر... أما الفقرات القابلة للتقادم، أي تلك التي تنص على وصايا تخص حياة الناس الملموسة، فهي قليلة، في حين أن الكثير من الأشخاص يرتبطون بها هي بوجه الخصوص، بنصها الحرفي هي. ويندرج الانطباع العام عن القرآن، بوجه خاص، ضمن الانطباع العام للنصوص الدينية العظيمة للبشرية، التي تنتمي للنوع القيامي ( كشف « القيامة «)، كما تشير إلى ذلك الآيات التي تشكل «تحذيرات» لأولئك الذين تتجه إليهم، ملزمة إياهم، وبإلحاح، بالاهتداء.
لكي أُوضح ما أرمي إليه، اسمحي لي، عزيزتي فاطمة الزهراء، أن أثير إحدى الآيات الأكثر صعوبة للتلقي راهنا كقول حي وباعث للحياة: آية
«السيف» ( الآية الخامسة من سورة التوبة ). أذكر لك الآية للتذكير: «فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُم إن اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.»
إن عدد الذين يعتقدون، في زماننا، أنه لم يعد من الممكن اعتبار الحرب قيمة، عدد كبير. لقد عانت الإنسانية كثيرا من الصراعات الدموية، من الإبادات، من حملات الاستئصال، من الحروب التي توصف ب « الدينية «. وما تتطلع إليه غالبية الناس، كيفما كانت ديانتهم، هو السلام، هو الود، سواء مع المقربين إلينا أو الذين يدخلون ضمن الأكثر اختلافا معنا. فكيف نتموقع إذن تجاه آية قرآنية يبدو أنها تُحَرض على العنف ضد «صناع الآلهة»، أي الوثنيين، المشركين ؟
ينبغي الانطلاق من أخذ الوقت الكافي لأجل قراءة النص وإدراك سياقه. بالنظر إلى الآيات التي تسبق والتي تلي الآية المذكورة، يمكننا أن نلاحظ بسهولة أن هذا المقطع يندرج في سياق للعنف. يعود النبي إلى مكة التي طُرد منها سنوات من قبل. ومن البديهي ( تشير إلى ذلك الآيات 8، 10 و 12 التي تلي) أن هناك عهدا لم يُحترَم، ما كان يُعتبَر آنذاك بالغ الخطورة لأنه يهدد توازن المجتمع.
من المرجح أن سياق العهد المفسوخ هذا غير كاف، بالنسبة لنا ( بعقليتنا التي نحملها اليوم )، ل «التماس العذر» للعنف الذي تدعو إليه الآية، لكنه يفسره. وعلينا أن نلاحظ أيضا أن النص، بخلاف هذا العنف، لا ينسى أن يذكر بأن العمل الصالح والتوبة يكفيان لإنهاء الصراع وتحويل الأعداء إلى
«إخوة في الدين « (الآيتان 7 و 11 من السورة نفسها).
لو رغبت اليوم في تطبيق معاصر لهذه الآية، لقلت: لم نعد في إطار عهد يحاول الإبقاء على توازن بين مسلمين ووثنيين ينتمون إلى عوالم ذات ثقافة حربية. لقد أصبحنا في سياق للالتقاء السلمي بين الديانات، سياق حيث نحن مدعوون لاكتشاف إيمان «الآخرين». ذلك ما عليه أن يسائل، اليوم، قراءتنا لسورة التوبة! ينبغي أن نبحث، انطلاقا من تجربتنا الإنسانية المعاصرة الملموسة، عما لا يزال له معنى في النص القرآني، ويمكنه أن يُنير طريقنا.
هناك طريقة أخرى لقراءة هذا المقطع القرآني، تكمن في قول: كل الفاعلين الذين يعنيهم النص ( ليس أتباع محمد فقط، بل الوثنيون أيضا ) بمثابة استحضارات مجازية لما نحن عليه اليوم. قد يكون « المرتبط» الذي لم يحترم العهد، هو أنا أيضا! علي أنا أيضا التمسك بانشغال قتل هذا «المرتبط» الموجود بداخلي، أي ذلك الرجل، تلك المرأة، اللذين تغريهما الأوثان... هذه القراءة هي قراءة استبطانية للخطاب القرآني، قراءة استيعاب روحاني لهذا الكلام (ألا نجد في العمق بأن الكلمة القرآنية، مثل « السيف»، حاسمة في ثقافتنا المعاصرة التي تود دائما أن تمتلك الكثير بدل أن تتقاسمه؟)
القرآن يسألنا أكثر مما يجيبنا
من خلال هذا التعليق البسيط على آية، تتكون لديك فكرة عن معايير القراءة التي أتبناها. وسأجتهد لتوضيح تلك المعايير أكثر.
إن العديد من الناس يبحثون في القرآن، وهم يقرؤونه، عن «حقائق» في نفس صحة المعادلة الرياضية: «2+2=4» . أو أنهم يرغبون في أن يجدوا فيه «حلولا» أو «وصفات» متقنة تخص أسئلتهم ومشاكلهم الملموسة والمباشرة. والحال أن القرآن لا ينزع إلى ذلك! إن القرآن، كما هو شأن التوراة، هو قبل أي شيء آخر نص يسأل أكثر مما «يجيب». إنه يسعى إلى فتح الطريق نحو حقائق لا نهائية وليس حقائق «مكتملة»، حقائق جوهرية: الحقائق المتعلقة بمعنى الوجود، معنى المعاناة، معنى الموت...
إن ل « طرق الاستعمال» وللحلول أهميتها في الحياة: معرفة كيفية التخلص من زكام، النجاح في إعداد أكلة... لكن الأساسي أكثر أهمية من ذلك: البسمة التي توجهها أم لابنها أو البسمة التي يمنحها هو إياها، الزيارة التي تقوم بها لمريض بالمستشفى، أو زيارة الناس لك و أنت تعاني من العزلة... بهذا يندرج القرآن في منطق للأساسي. إنه لا يسعى إلى أن يكون «مفيدا» بشكل مباشر: يرغب القرآن أن يكون «أساسيا»... كما هو الحب الذي يتبادله الناس، مثلا، من خلال الوردة التي يهدونها أو التي تُهدى لهم. وإجمالا،
وبما أنه هبة من الله، فالقرآن يدعو إلى إقامة مجتمع للعطاء المتبادل، بناء «اقتصاد» للعطاء .
إن الحقيقة التي يقترحها القرآن حقيقة لا نهائية. إنها، بصيغة أخرى، حقيقة يتعذر بلوغها! إلا أنها حقيقة يود أن يجعلنا نرغب فيها. وتكون تلك الحقيقة حاضرة بقوة منذ لحظة شروعنا في البحث عنها. توجد تلك الحقيقة في الدرب الذي نتبعه لبلوغها. والرغبة التي تكون لدينا لبلوغ تلك الحقيقة، لا يمكن أن يكون مآلها الفشل، لا يمكن أن يكون مصيرها الكبت. إنها مدعوة للتعبير عن نفسها عبر سلوك إيجابي للانفتاح على الكتاب المقدس والحياة التي يمتلكها، ويكون هذا الانفتاح مغامرة وتغذية رائعة سلفا.
يتضمن القرآن حقائق غالبا ما تعبر عن نفسها بلغة رمزية. إنه يستخدم
صورا تدعونا إلى تجاوز الدلالة المحددة والمباشرة للكلمات التي نستعملها.
كلمة « رمز»،
symbolon
باليونانية، تحيل على ما يربط، ما يجمع. ذلك هو القرآن: إنه يُعيد توحيد الحياة، الكائن، التجربة الإنسانية... كما أنه يريد أن يمنح الوجود الإنساني سعة أكبر.
بخصوص هذه اللغة الرمزية، أعتقد أن بإمكاني استعارة أمثلة الجنة والجحيم في النص القرآني. غالبا ما نسمع أن الحياة الدينية، حسب الإسلام، تقوم على الاختيار بين «دربين «: الدرب الذي يفضي إلى جنة الله، والدرب الذي يفضي إلى الجحيم. والجنة والجحيم، بالنسبة لغالبية المسلمين، فضاءان جغرافيان واقعيان يوجدان في جهة ما من شساعة الكون. علاوة على أن هذين « العالمين» يشكلان، في القرآن، موضوع أوصاف مفصلة أكثر مما هو متضمن في التوراة كلها . إلا أن النص القرآني يستعير معهما مفاهيم وصورا كانت حاضرة سابقا في الثقافة الفارسية وفي الديانتين الزرادشتية والمانوية العتيقتين، خصوصا خلال القرنين الخامس والثاني قبل التاريخ المشترك. هل يتعلق الأمر بحقائق أم بصور» فقط «؟ هل ينبغي أن نتعامل معها كحقائق ملموسة أم كأوصاف رمزية؟
يبدو لي أن القرآن يريد أن يعلن لنا، بوجه الخصوص، أن هناك «نعم» إلهية حول وجود الإنسان، و»لا» حول ذات الوجود. تبدو لي الجنة والجحيم صورا للتعبير عن حكم حول معنى وغاية الوجود الإنساني، معنى وغاية لم يتمكنا من التعبير عن نفسيهما بكثرة من خلال المفاهيم الفلسفية التي كانت متوفرة وقت نزول القرآن. اُلاحظ أن تلك الصور ترد دائما في نهاية مقطع يدعو إلى اختيار الحياة، إلى اختيار الخير، إلى اختيار الطاعة، إلى اختيار الإيمان. إنها تشكل بيداغوجيا بشكل واضح: بيداغوجيا تنزيل تحذيرات ليست أحكاما. لأن هذه الصور الأُخروية تشير إلى حكم نهائي لا يندرج في سياق
«الآن». إنها تمنع إصدار حكم نهائي على الإنسان في حدود وجوده الحاضر فقط...
لقد ساهم توظيف هذه الصور من طرف السلطات الدينية، بوجه الخصوص، في جعل المؤمنين يعيشون الخوف بدل الامتنان. وتحول ذلك الاستخدام بسرعة إلى أداة قوة، أداة سلطة. فكلما كانوا ضعافا كمبشرين، كلما لجؤوا إلى هذه الصور بكثرة. كلما كانوا عاجزين على جعل الناس يختارون أخلاقا متشددة، كلما هددوهم بجحيمهم وبجنتهم... إنهم يكررون النص بدل تأويله.
والحال أن هذين المفهومين للجنة والجحيم ينزعان أكثر إلى منحنا
«مشهدين ذهنيين»، نبني بينهما وجودنا. من المرجح أن وظيفتهما تكمن في تنصيبنا كرعايا قادرين على موقعة أنفسهم بين «نعم» و»لا» الإلهيتين، أي ما يقول له الله «نعم» أو «لا» بداخلنا، وهما ينصباننا بالتالي كمسؤولين في اختياراتنا الأخلاقية.
* من مواليد القنيطرة سنة 1971. كاتب و أستاذ جامعي. من أبرز مؤلفاته
« Les Nouveaux Penseurs de l'Islam»
( ألبان ميشيل، 2004).
من كتاب «رسائل إلى شاب مغربي» الصادر ضمن منشورات
مرسم


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.