لم يرد لفظ الجمال في القرآن الكريم كثيرا، فقد ورد ثماني مرات فحسب، ولكن ما يدل على الجمال في كتاب الله تعالى فوق العد والحصر، فعلى مستوى اللفظ وردت في القرآن الكريم ألفاظ عدة فيها ما فيها من الدلالة على الجمال، كلفظ الحسن والزينة، والحب...وغيرها. أما على مستوى المعنى فإن الجمال حاضر مبثوث في كل خطاب الوحي، وفي كل تفاصيل الشريعة، وفي كل مظاهر الربوبية وتجليات الرحمانية... فلا يكفي لفظ الجمال ولا الألفاظ القريبة منه معنى للدلالة على جمال الإسلام، وتجليات الجمالية في هذا الدين الجميل..، بل ''الجمالية (مفهوم) مبثوث في أصول الدين وفروعه، إنها تؤخذ من كل معاني الخير، والتخلق، والتجمل، والتزين، والإحسان، ونحو هذا من معاني الجمال، المبثوثة في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، مما من شأنه أن ينتج شعورا بالجمال عند ممارسة الدين، ولدى الانخراط في الإبداع تحت ظلاله الوارفة''! - كما يقول د.فريد الأنصاري في كتابه: جمالية الدين- - لم يترك القرآن فرصة للتنبيه على الجمال وتجلياته إلا وفعل، فنبه على جمال الإنسان، وجمال الحيوان، وجمال الطبيعة، وجمال الكون ككل... فقال تعالى في الإنسان: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) سورة التغابن: الآية ,3 وقال في سورة غافر: (وصوركم فأحسن صوركم).. وقال سبحانه في الحيوان: (والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزنية) سورة النحل: الآية,8 وقال في نفس السورة أيضا: (ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون).وقال في الأرض: (إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا) سورة الكهف: الآية .7 وقال في السماء: (ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين) سورة الحجر: الآية ,16 وقال في سورة الصافات أيضا: (إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب). وقال عز وجل بخطاب العموم وباللفظ الذي يفيد الاستغراق والشمول في سورة النحل: (صنع الله الذي أتقن كل شيء)، وقال في سورة السجدة: (الذي أحسن كل شيء خلقه). بما يدل على جمال الخالق سبحانه، الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم، وكسا الأرض أحسن حلة، وجعل ما عليها في أجمل زينة، ورسم كل شيء على أبدع رسم وأتقن صنع. يقول الأستاذ النورسي في كتابه الشعاعات: ''تعال تأمل في هذا الجمال الزاهي والحسن الباهر ضمن هذا الانتظام والنظافة والميزان، بحيث جعل هذا الكون العظيم على صورة مهرجان في منتهى الجمال والبهجة، وعلى صورة معرض بديع في منتهى الزينة والروعة، وعلى صورة ربيع زاه تفتحت أزاهيره توا...''. ويقول في موضع آخر: ''.. فإن شئت أن تشاهد جلوة من أنواع حسن أسماء الجليل ذي الجلال المتجلية على مرايا الموجودات، فانظر بعين خيالية واسعة إلى سطح الأرض لتراها كحديقة صغيرة أمامك''. وإذا كانت الآيات التي تحدثت عن الجمال بلفظه أو بألفاظ دالة عليه كثيرة، فإن الآيات التي تحدثت عن الجمال بالإيحاء أو بالمعنى عموما أكثر، بل إن حديث القرآن كله جميل ينبه على الجمال، ويبث معاني الجمال، ويدعو إلى القيم الجميلة، وينفخ روح الجمال في الناس.. ومن هنا كان التأمل في جمال خلق الله تعالى عبادة وطريقا إلى عبادة الله تعالى... وكانت عبادة التفكر من أعظم العبادات التي ترفع صاحبها إلى أعلى مقامات العبادة ومنازل الإيمان: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ..!) سورة آل عمران: الآية .191190 إن من أعظم الآفات التي أصيب بها الإنسان اليوم فقدان الإحساس ومن ثم فقدان المعنى... وإن آفة تبلد الإحساس أو الاعتياد بما تسببه من مرض ''الملل'' و''السآمة'' من أخطر الآفات النفسية التي قد تأتي على النظام النفسي الإنساني فتدمره تدميرا..، فيفقد الإنسان حينها المعنى.. معنى الوجود، ومعنى الحياة، ومعنى الجمال.. ولهذا كان التأمل عبادة رفيعة، وكان التفكر مقاما عباديا سامقا لا يملك معه صاحبه إلا أن يقول- وهو في مقام التفكر- سبحانك! فيعيش لحظات السبح في ملكوت الله، بكل معاني السبح والتسبيح.. يعيش لذة التنزيه للخالق سبحانه عندما يبصر معنى قوله في سورة الملك: (مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ...) ، وكذا قوله في سورة ق: (أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ (6) وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ (10)) ... ويعيش حلاوة التجدد الإيماني، والارتقاء والسمو الروحي فيحس حقيقة السبْح بما هو - لغة- طفو فوق الماء ضد قانون الجاذبية، إذ هو الآن سبْح في سماء الروح ضد قانون الترابية الذي يشد الإنسان إلى الأرض.. إلى أصله الترابي.. إلى شهواته ونزواته.. إلى لحظة اللاوعي، فيدخل عندها في معركة روحية ضد ترابيته وهو يسبح في فضاء الروح يتلمس الطريق إلى حالة الوعي، فينتقل من التأمل في جمال الكون إلى التعبد بجمال الكون.. ومن جمال الخَلق إلى جمال الخُلق والتخلق.. ومن التفكر في جمال الصنع الإلهي إلى تأسيس ودعم الجمال الإيماني. وإن أقل ما يعيشه المؤمن المتفكر المتأمل لجمال خلق الله تعالى هو حرج أداء المقابل مع قصر اليد، وحرج أداء الشكر مع ضيق الصدر وعدم انطلاق اللسان والجوارح، ذلك أن ''الجمال في المخلوقات يستدعي مقابلته بجمال مثله هو جمال العبادة والشكر، وإلا كان في ذلك سوء أدب..'' كما قال النورسي في كتابه اللمعات. لأنه من كان له قلب حي قطعا سيحب من يحسن إليه، وسيحرص على مقابلة الإحسان بإحسان مثله أو أحسن منه، وإلا كان لئيما، كما قال الشاعر أبو الفتح البستي: أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم***فطالما استعبد الإنسان إحسان وكما قال أبو الطيب المتنبي: إذا أنت أكرمت الكريم ملكته وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا ثم إن الشكر مفتاح الاستزادة كما قال الله تعالى في سورة إبراهيم: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ..) مهرجان الجمال القرآني: لم يقتصر القرآن الكريم على وصف مظاهر الجمال بهذا الكون الجميل، وعلى بيان جمال هذا الإنسان الذي خلق في أحسن تقويم، وعلى رصد تجليات الجمال بهذه الحياة الدنيا، أو التحسيس وإرهاف المشاعر بجمال الجنان في الحياة الآخرة..، بل دعا الإنسان إلى مواكبة هذا الجمال، فعلا وسلوكا، ظاهرا وباطنا، فوجدنا لفظ الجمال يأتي في القرآن صفة للفعال الحميدة المختلفة، فالصفح جميل في ذاته، والمطلوب أن نأتي به على أجمل وجه (فاصفح الصفح الجميل) سورة الحجر: الآية ,85 والأمر نفسه في الصبر (فصبر جميل) سورة يوسف: الآية ,18 وفي القول: (قل لعبادي يقولوا التي هي أحسن) سورة الإسراء: الآية ,53 هكذا بصيغة التفضيل عند الاختيار بين حسن وحسن وليس فقط بين حسن وقبيح.. وهكذا في نصوص القرآن المختلفة.. والأعجب من ذلك أنه حتى عندما يجد المؤمن نفسه مضطرا لمخاصمة أو هجران، فمطلوب منه أن يكون بالحسنى وبالمعروف بما يجعله سلوكا جميلا كذلك، كما قال تعالى: (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان)، بل حتى مع الخصوم والكفار نجد القرآن الكريم يوجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما ينبغي أن يكون عليه من الهجر كما في سورة المزمل: (واهجرهم هجرا جميلا)، وكذا كان سلوكه عليه السلام مع خصومه كما جاء في قوله لعائشة: ''يَا عَائِشَةُ مَتَى عَهِدْتِنِي فَحَّاشًا؟ إِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ شَرِّهِ'' رواه البخاري. وبذا وصفه القرآن الكريم في سورة القلم: (وإنك لعلى خلق وعظيم)، وهو نفسه عليه السلام دعا إلى الإحسان في كل شيء: ''إن الله كتب الإحسان على كل شيء'' رواه مسلم. ومن هنا كان ''الإحسان'' أعلى مستويات الفعل العبادي، سواء تعلق بالظاهر أم بالباطن، بالقول أم بالفعل، وسواء كان ماديا أو معنويا، لأن الإحسان كما عرفه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل المشهور: ''أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك''. فهو العبادة على أفضل صور الأداء وأعلى درجات الإتقان. ثم إن لفظ ''الإحسان'' بما يتضمنه من معنى الحسن فيه إضفاء مسحة من الجمال على الأعمال المقبولة عند الله تعالى. إن في الصلاة جمالا قطعا ، ولكن القرآن الكريم حرص على أدائها في أحسن صورة وأجمل مظهر، فدعا إلى التجمل والتزين عند الذهاب إلى المساجد في سياق الحديث عن جمال التشريع الإسلامي كله، قال تعالى في سورة الأعراف: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ(31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ(33)). إن التزين للقاء الله تعالى خمس مرات في اليوم فعل عبادي في حد ذاته، وإن تكراره خمس مرات يوميا يجعل المؤمن دائما وأبدا في مظهر من الجمال، فضلا عن المجملات الأخرى التي دعت إليها شريعة الإسلام كما في حديث خصال الفطرة الخمسة الصحيح، وفي هديه عليه السلام الذي كان يغتسل كل جمعة بمعدل مرة في الأسبوع على الأقل، وكان يكتحل، ويرجّل شعره، ويقلم أظافره، وكان كثيرا ما يلبس البياض، ومع سرعة تعرض اللون الأبيض للأوساخ كان عليه السلام حريصا على نظافة ثوبه وظهوره في أجمل صورة وأبهى حلة... وكان صلى الله عليه وسلم يستاك -أي يستعمل السواك لتنظيف أسنانه- ويدعو إلى السواك كما في الحديث الصحيح: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة)... وأعود لآيات التزين عند الذهاب إلى المسجد، لأنبه على أن المؤمن في سيره العبادي إلى الله تعالى إنما يسير في موكب جمالي كبير، يتجلى فيه على مستوى الذات اتحاد جمال القلب والروح مع جمال السلوك والمظهر... وجمال الباطن مع جمال الظاهر.. ويتجلى فيه على مستوى العلاقة مع الآخر اتحاد جمال الدين والدنيا... لينسج جمال إنساني إيماني عبادي ينسجم مع جمال الدين، ومع جمال الكون، وتتوحد فيه الوجهة إلى الله سبحانه وتعالى، بما يناسب جمال العبادة، ويليق بجمال المعبود عز وجل ومقامه.. لأنه سبحانه الجميل ويحب الجمال، كما في الحديث الصحيح: (إن الله جميل يحب الجمال). فصوَّرَ وأحسن التصوير، وصنع وأتقن الصنع، وجعل كل شيء في هذا الكون جميلا.. ولكن جمال الصنعة لا يضاف إليها بل إلى صانعها.. ومن هنا يصير الجمال طريقا إلى الجلال، ويصير التأمل في جمال الخلق سبيلا إلى حب الخالق، وبقدر ما يرتقي ذوق الإنسان ليرى جمال الكون ويرى من خلاله جمال الله تعالى، بقدر ما ينزع إلى جمال مقابل في عقيدته، وفي عباداته، وفي أخلاقه وسلوكه، وفي معاملاته...وفي حياته كلها، واختياراته جميعها، فيحرص على الإحسان في الأعمال، ويتوخى الكريم من العادات.. وبقدر ما يحسن الإنسان في حياته، بقدر ما يكافأ بالإحسان عند الله تعالى: (وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان) سورة الرحمن: الآية,60 (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) سورة يونس: الآية,26 (والله يحب المحسنين) سورة آل عمران: الآية.134