انطلاقا من قوله عز وجل: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} (الحجر: 9) إن المقام لا يتسع لاستعراض جميع الألفاظ الواردة في الآية، مع أن هذه الألفاظ هي قوالب المعنى وهي التي تؤدي المعنى، ولكن أقف فقط عند قول الله تعالى: {وإنا له لحافظون} واسم الفاعل يقوم في أصله مقام الفعل المضارع، وهو دال على التجدد وعلى البقاء، ويكون هذا التجدد إما منقطعا أو مستمرا دائما، فاسم الفاعل غالبا بمثابة الفعل المضارع الذي يدل على التجدد والبقاء. وإذا كان اسم الفاعل بهذه المثابة فإن علماء النحو يعملونه ويقولون إن له عملا كعمل فعله، يقول ابن مالك: كفعله اسم فاعل في العمل إن كان عن مضيه بمعزل إذا لم يدل على الماضي، فإذا كان دالا على الحال أو دالا على الاستقبال فإنه يعمل فعله وينصب مفعوله، وهذه الآية لاشك أن اسم الفاعل فيها دال على الحال، ودال على الاستقبال. لا أقول هذا من الجانب النحوي فقط، ولكن أقوله من الجانب الدلالي كذلك، فهو ناصب لما بعده متجدد في المستقبل، وأن هذا الحفظ هو مراد الله تعالى وقدره بالنسبة لهذا الكتاب. فلن يضيع هذا الكتاب، وقد ارتفع الأداء القرآني بحيث اشتملت الآية على كثير من تعابير التوكيد: إن، والضمير بعدها نحن ونزلنا ، وله ، واللام المقوية، وتقديم الجار والمجرور، وإيراد اللام في الخبر، كل ذلك دل على أن هذه الجملة ليس في كتاب الله جملة أكثر تأكيدا منها. وما ذلك إلا ليحصل للناس الاطمئنان أن هذا القرآن باق، وأنه مستمر إلى أن تقوم الساعة، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. إن هذا القرآن لما كان مراد الله فيه أن يبقى وأن يستمر، فإن الله تعالى إذا أراد شيئا هيأ له أسبابه، وإن شواهد كثيرة تدل على أن مراد الله تعالى هو بقاء هذا القرآن، وهذه الشواهد كثيرة أحاول أن ألم ببعضها بحسب ما يتسع له المقام، فأقول: إن تنزيل الله للقرآن بهذه الطريقة التي تنزل بها، حيث نزل منجما مقسطا على ثلاث وعشرين سنة، هذه الثلاث والعشرون سنة كانت وعاء زمنيا للتنزيل، قد انحبس فيها التنزيل في بعض الفترات لكنها في عمومها كانت وعاء للتنزيل، كان التنزيل ينزل، كان القرآن ينزل نجوما، وكانت النفوس تتشربه وتلم به، ثم تنزل آيات أخرى، فتستقبلها النفوس وتتشربها وتعبد الله ، ثم تنزل الآيات إلى أن نشأ لدى المسلمين شغف وولع واستطلاع لما ينزل، فكان الصحابة يبعث بعضهم بعضا ليسأل ماذا نزل، ثم إن بعض الناس كان يلح في النزول، وقصة المرأة التي جاءت تجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم مثال صادق على النفس التي كانت تتوقع الوحي وتنتظره. فأمة تتوقع الوحي وتنتظره وتتشبعه على هذا المهل وعلى هذا المكث لا شك أنها تكون في نهاية المطاف محتفظة به، ثم إن من الشواهد على ذلك أن الله تعالى أراد بهذا الكتاب أن يكون في نفس الوقت دعوة الإسلام ومعجزة النبي صلى الله عليه وسلم، في نفس الآن، بمعنى أن معجزات الأنبياء السابقين لم تكن ملتحمة مع دعواهم، فقد كانت دعاوى الأنبياء جميعهم دعوة إلى التوحيد، وإلى إفراد الله بالعبادة، لكن المعجزات كانت شيئا آخر، فقد أوتي موسى معجزات مناسبة لعصره، وأوتي العصى وانفلاق البحر في تسع آيات كما هو مذكور في كتاب الله، وأوتي عيسى من المعجزات ما كان به يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص، وأوتي النبيئون معجزات من مثل ذلك، لكن هذه المعجزات كلها مرهونة بحياة الأنبياء، هي وقف على وجود الأنبياء، إنما كما شبهها بعض العلماء بعود الثقاب الذي إذا اشتعل مرة لا يشتعل مرة أخرى، فتبقى إذن في ذمة التاريخ، لكن دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ملتحمة كل الالتحام، هي دعوة إلى التوحيد، وحامل ذلك التوحيد هو كتاب الله، فلا فرق بين الدعوة وبين المعجزة، فتبقى معجزة القرآن هي معجزة موضوعية، وتنشأ عبر جهات الأرض مؤسسات لدراسة الإعجاز القرآني، وأخرى لدراسة البيان القرآني، فلا زال القرآن معطاء يعطي ويغدق ، ولازالت أسراره تنفتح للناس. إذن فهذا ولا شك مما يجعل التشبث بهذا الكتاب تشبثا قارا، بمعنى أن الأمة لا يمكن أن تضيع كتابا هو معجزتها، بمعنى أن الأمة ستتشبث بهذا الكتاب لأن هذا الكتاب هو دينها، هو حقيقتها، وليس معجزة على هامش الدعوة. ثم إن الله تعالى شاء أن يجعل هذا الكتاب الذي هو الدعوة والذي هو المعجزة في قمة الأداء البياني، في قمة البلاغة، وحينذاك فإن الكلمة لا يمكن أن تفقد منه ، لأن كل كلمة في كتاب الله تحتل مكانها ولا يمكن تعويضها بأي لفظة أخرى. لو حاول الناس وحاول المفسرون أن يعوضوا قول الله تعالى: {ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر} لن يجدوا أبلغ من كلمة ألهاكم ولو فسروها بشَغَلَكُم، لأن اللهو غير الشغل، وقد يكون الشغل عبثا، أما اللهو فهو شيء آخر، وقول الله تعالى: {حتى زرتم المقابر} لا يمكن أن يوضع محلها: حللتم المقابر، لأن الزيارة مؤذنة بالرحيل فكتاب الله وكلماته كلها تحتل مكانها ، وليس هناك كلام استطاع أن يصل إلى هذه الجزالة وإلى هذه القوة. إن الفصحاء استسلموا وإن امرأة قال لها الأصمعي: إنك امرأة فصيحة، فقالت أين أنا من فصاحة القرآن ألم تقرأ قوله تعالى: {وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه، فإذا خِفْتِ عليه فألقيه في اليم، ولا تخافي ولا تحزني}. إن في هذه الآية على وجازتها أمرين ونهيين وبشارتين، إن هذا لا يمكن أن يسمو إليه البشر، فمن هنا سكت بعض الشعراء ،ومن هنا اتهم لبيد بن ربيعة وبعض الشعراء بيانهم أمام بيان القرآن. إن القرآن على هذا المستوى من الجمال، إن الكلام الجميل تحتفظ به النفوس، وإن الآثار الجميلة كلها في العالم ترنو إليها النفوس وتهتم بها، فكلام القرآن في نفسه مدعاة لأن يحفظ، مدعاة لأن يتمسك به ولأن يتشبث به، ثم أن هذا القرآن في جوه حينما نقرأه، وفي عطائه، يوحي بأن هذا الكلام كلام رباني، إن كتاب الله هو الذي تقرأ فيه أن الله تعالى يخاطبك، ويخاطب نبيه، إنك حينما تقرأ: {إنا فتحنا لك فتحا مبينا} حينما تقرأ {عفا الله عنك لم أذنت لهم} حينما تقرأ {يا أيها النبيء قل لأزاجك...} يا أيها النبي .. يا أيها الرسول.. تجد دائما موقف المخاطب وموقع المخاطب، وتجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس له من هذا، في هذه المرحلة، من هذا الكتاب إلا التلقي، وليس له أن ينقص منه أو يزيد، إن كلمة واحدة، وهي قول الله تعالى: {قل هو الله أحد..} هي بحسب ما يتبادر إلى الذهن قابلة لأن تكون موضوع اجتهاد لأنك إذا بعثت إنسانا إلى آخر تقول له: يا فلان قل الآخر كذا وكذا، فحينما يذهب الذي ترسله تقول له قل فإنه يحتفظ بقل لأنها وجهت إليه، ولم توجه إلى اللآخر، ولو كان لرسول الله اجتهاد في أداء القرآن، لكان احتفظ بكلمة قل، لكن هذا النبي الذي يؤدي هذه الكلمة: {قل يا أيها الناس}، {قل يا أيها الكافرون}، {قل هو الله أحد}،... فيؤديها ليفيد ذلك أن هذا القرآن أُدِّي للأمة كما تُلُقِّيَ من الله سبحانه وتعالى، وأقول هنا: إن هذا النفس، إن هذا الجو القرآني، أمر ضروري ولازم من الوجهة الموضوعية لفهم كتاب الله، إن الذي يفهم كتاب الله، ويريد أن يتعامل مع كتاب الله، لابد أن ينطلق من مسلمة وهي أنه كلام الله، وإلا فإنه يستعجمه. فالنصوص كلها، دعنا من هذا القرآن، من كتاب الله، فلنتحدث عن النصوص كلها:" إنها تحتاج إلى معرفة القائل وإلى ظرف القائل، إن شيئا كثيرا من الشعر ومن الأدب إنما فهم بالإحاطة بصاحب النص، وبثقافته وبيئته وظروفه، نحن حينما نقرأ مثلا شعرا ينشده صاحبه ويتحدث عن صبابته ولكن من موقع قائد الجيش فيقول: أراك عصي الدمع شيمتك الصبر أم للهوى نهي عليك ولا أمر بلى أنا مشتاق وعندي لوعة ولكن مثلي لا يذاع له سر ثم بقول: إذا الليل أضواني بسطت يد الهوى وأذللت دمعا من خلائقه الكبر فإن قوله: "ولكن مثلي لا يذاع له سر" لا يمكن أن يفهمها فاهم إلا بمعرفة وضع هذا الرجل، وأنه كان في موضع القيادة التي لا تسمح له بالتنازل وبإظهار الضعف. على كل ، فإن معرفة أن هذا القرآن هو من كلام الله يفرض على جميع المتعاملين سواء كانوا مؤمنين به أو غير مؤمنين أن يأخذوه في هذا الجو، أما أخذه بالطبيعة البشرية وإجراء دراسات على أنه كلام أو أدب عادي فهذا طبعا يستعجم فيه القرآن على هؤلاء.