أعتقد أن لصفات الإله، الذي نقدسه، علاقة وطيدة بمجموعة القيم العليا التي نحترمها وقدرة على وصف ما نصبو إليه. تُعلِّمنا التجربة اليومية أن الكمال مجرد أمل لا نستطيع تحقيقه بعالمنا هذا. من المستحيل أن نتصف بأوصاف إلهية (مثل القدرات الخارقة للعادة والعلم بكل شيء)، كما يستحيل تحقيق كل القيم العليا التي نتوق إليها؛ لأننا لسنا ملائكة ولا دنيانا جنة. فمن السهل، إذن، أن نشير بأصابع الاتهام إلى بني جلدتنا لنَسِمَهم بنقائص ونقلل من شأنهم ونتعالي (ضمنيا) عليهم؛ لأنهم لا يرقون لصفات الكمال كما نتمثله. ويكفينا كل مرة أن نضع القصبة عالية كي لا يصلها أي قافز؛ لكن، على الرغم من محدوديتنا البشرية، أعتبر أننا جميعا قادرون على تحسين مستوى أدائنا بهاته الدنيا، لنقترب ما استطعنا من الإنسان المثالي الذي نتخيله والذي يختلف ولا شك عن تصورات أجدادنا وثقافتهم. يبقى سؤال بالنسبة إلى هاته المقدمات: هل كل تصوراتنا للمثالية جميلة ونبيلة؟ لا أعتقد ذلك، إذ لكل ثقافة ولكل زمان تصورات مختلفة للجمال وللكمال، الجسدي والروحي. أعتبر أن تصورات جيلنا أفضل من تلك التي ورثناها عن سلفنا. ليس في هذا من ترفع عن السلف بل تعبير عن رغبة وأمل في أن نكون خلفا أفضل من السلف وألا نبخس حق الأحياء لصالح الموتى من أجدادنا. بفضل التعليم العصري ووزارته اللذين ورثناهما من عهد الحماية وبفضل وسائل الاتصال السمعي البصري الحديثة، انفتحت أجيالنا منذ الاستقلال على البشرية كافة، بالكتابة والصوت والصورة، ووصلنا إلى معرفة لا يستهان بها لثقافات إخواننا من بني آدم أو أُسْتْرالوبيثِكُس؛ كل حسب قناعاته الشخصية. والأدهى من هذا كله هو أن أغلبية جيلنا أصبحت مقتنعة وتؤمن بمساواة البشر، سواء كانوا مؤمنين أم لا، يهودا أم نصارى، بوذيين أم هندوسيين، بينما كانت ثقافتنا الإسلامية قد هيأتنا للتبرؤ ممن هم غير منخرطين في عقيدتنا حيث توعَّدهم إلهنا بنار جهنم وبخزي في الدنيا... فإن وَصفتُ لك إلهي بأنه لا يحب وسيعذب (إخواننا) الذين لا يؤمنون وكذا البوذيين والأيزيديين والهندوس أجمعين لأنهم اليوم على بينة من دعوتنا إياهم إلى اعتناق الإسلام وللإقرار بوجود إله واحد جبار قهار مهيمن مسيطر ومتكبر…، إن كان هذا هو وصفي لإلهي فَهِمْتَ ولا شك أنني متأخر عن الركب وعن تفتح الثقافة المغربية في قرننا الحادي والعشرين، وأنني متشبث بتصورات سلف لا تحترم معتقدات غير المسلمين ولربما رسمتني بلحية الداعشيين.. وإن قُلتَ لي إن إلهك يهتم فقط بما يفعله البشر من خير لصالح البشرية، وأنه يساوي بين عقيدة المسلم والبوذي والمسيحي واليهودي والأيزيدي والملحد فَهِمتُ من ذلك أن لك صدرا واسعا وصَوَّرْتُك بقلب هو عبارة عن مرتع لكل المعتقدات الإنسانية وأنك رؤوف بالبشرية ومتسامح، مثلك مثل إلهك. وإن أَضَفْتَ أن إلهك لم يكتب القتال على أحد علما منه أن ذلك كُرْهٌ لبني البشر، فَهمتُ أنك إنسان وديع طيب ومسالم تدعو إلى الخير وتنهى عن المنكر وأنك لربما هندي من أتباع غاندي، تروم السلام وترفض العنف على الرغم من أن بعض الإنجليز لك ساجنون ولشعبك ظالمون ومستعمرون. سأفهم من وصفك لإلهك أنك تجنح إلى السلم في كل الأحوال لا لشيء سوى أنه خير وأنك لا تقلد أهل العنف من مستعمريك لتتباهى بأنك "العزيز المنتقم". سأفهم من ذلك أنك لا تقيم للانتقام أي قيمة أخلاقية. بعد تبيان تصوراتي الشخصية لأخلاق وقيم إنسانية من جهة ولغيابها من جهة ثانية انطلاقا من أوصاف إلهين اثنين، أود الإشارة إلى المفارقة الكبرى بالثقافة المغربية الحالية. أعتقد أن أغلبية المغاربة مسالمة وتؤمن اليوم بمساواة كل البشر، بغض النظر عن معتقداتهم الدينية أو اللادينية؛ لكن تربيتنا اليومية بالمنزل وبالمدرسة والتلفزة ما زالت تربية دينية تُلقِّننا عكس هاته القيم الطيبة. يُردِّدُ أهلنا وأقراننا من مواطنينا على أسماعنا، صباح مساء، أن الله بعث نبينا كأفضل خلقه وأن الرجال قوامون على النساء وأن المسلمين أعلى درجة من أهل الذمة وأن أهل الكتاب أفضل من البوذيين والهندوس والملحدين. نؤمن إذن بالمساواة وباللامساواة في الوقت نفسه. نعيش تناقضا وازدواجية لا يطاقان. والنتيجة هي انفصام في شخصيتنا ومنافقة لأنفسنا بأنفسنا. نعي كل الوعي بأننا جالسون على كرسيين منفصلين؛ فلا نحن بالشرق ولا نحن بالغرب. جثتنا موجودة بالمغرب في عصرنا هذا وروحنا جاثية بالجزيرة أيام النبوة. نتوق إلى التخلق بأخلاق عصرنا، أي باحترام كل البشر بغض النظر عن معتقداتهم ونود لو يتمتع كل المغاربة بحقوق الإنسان ونود، في الآن نفسه، احترام الشريعة والعمل بمقتضياتها. نعلم أن هذا مستحيل. بات من اللازم علينا، إذن، حسم الأمور لنتصالح مع أنفسنا وفيما بيننا. لم نفتح أعيننا على عيوبنا وتناقضاتنا من تلقاء أنفسنا، بل أفقنا إثر اصطدام عنيف بالثقافة الأوروبية. ثقافة غربية اعتقد أجدادنا أنها أدنى من ثقافتنا لا لشيء سوى أن الأجداد قضوا على الإمبراطورية البيزنطية (الروم) وغزوا الأندلس وصقلية وهددوا ڤيينا عدة مرات وتوسعوا شرقا إلى حدود الصين. فتقديرنا اليوم أن كل الناس سواسية، لا فرق بين المسلم والمسيحي واليهودي والذين لا يؤمنون، ثورة فكرية، غريبة عن لب فكرنا، ورثناها عن الثورة الفرنسية التي أقامت مفهوم المواطنة بعدما كان الناس مجبرين على إعلان انتمائهم إلى ملة معينة وكانت الملل تفرق بين الإخوة في الوطن نفسه. لا بد من الاعتراف بأننا لم نكن نعرف لمفهوم المواطنة من معنى قبل عهد الحماية، وما زلنا إلى حد الآن لا نريد فهمه حق فهمه بسبب عصبيتنا وحميتنا الدينية. كانت وما زالت الانتماءات إلى الدين أو الملة (اليهودية) هي التي تؤطر خضوعنا للمخزن، على الرغم من أننا تواقون إلى تأسيس دولة عصرية تحترم حقوق الإنسان كمواطن دون التدخل في معتقداته الدينية أو اللادينية.