في ال22 من شهر نوفمبر الجاري (2018) غيّب الحِمَام عميد الدراسات الأندلسية المتخصّص في تاريخ الأدب الأندلسي، والباحث الذي نهض بالدراسات الأندلسية بالجامعات المغربية وخارجها، وعضو أكاديمية المملكة المغربية العالم الجليل، الأستاذ الدكتور محمد بنشريفة رحمه الله، الصديق الحميم الذي كانت تربطني به صداقة متينة منذ أوائل السّبعينيّات من القرن الفارط عندما كنت حديث العهد بالعودة إلى أرض الوطن من القاهرة. كنت أعمل إبّائذٍ خبيراً بمكتب تنسيق التعريب في العالم العربي التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (جامعة الدول العربية) الذي يوجد مقرّه بالرباط، والذي كان يديره في ذلك الأوان العلاّمة الراحل الأستاذ عبد العزيز بنعبد الله، وكان الدكتور بنشريفة يزورنا كثيراً في هذا المكتب، ومن ثم قيّض الله لنا أن نتعارف حيث جمعتني به صداقة متينة تعود لسنواتٍ بعيدةٍ خلت, كنت في ذلك الوقت أحضّر رسالة جامعية عن الأدب المهجري في الرباط، ولكنه بعد أن اطّلع على بعض الدراسات والمقالات التي كنت أنشرها تباعاً في الصحافة المغربية والعربية عن الأندلس كان دائماً عندما يلتقي بي يقول لي: عليك أسّي محمد أن تُعنىَ بالأدب الأندلسي، ثمّ اقترح عليّ أن أحضّر الماجستير تحت إشرافه حول الدراسات الأندلسية، فوافقت على تلك الفكرة على الفور، وبدأت أستعدّ لهذا العمل الدراسي الذي طفق يأخذ بمجامعي، وكانت لنا جلسات، ومناقشات، ومحاورات في هذا الشأن، إلاّ أن الرياح جاءت بما لا تشتهيه السّفن في هذا القبيل، إذ في الوقت الذي هممتُ بالقيام بإجراءات التسجيل الرسمي في الجامعة فوجئتُ بتعييني مُستشاراً ثقافياً بسفارة المغرب بمدريد، وكان هذا العرض مغرياً للغاية، إذ يتعلق الأمر بمنصب دبلوماسي رفيع وليس في أيّ مدينة، بل في مدريد التي كانت تأخذ بألباب كلّ شاب في مقتبل العُمر ما برح يشقّ طريقه لبناء مستقبله، فاعتذرتُ للدكتور بنشريفة عن عدم التسجيل تحت إشرافه لإعداد الماستر إيّاه حول الأدب الأندلسي نظراً لمغادرتي أرض الوطن للعمل بمدريد. ولخفة دمه، وروحه المرحة، قال لي مازحاً حينها: لقد أردتَ أن تكتبَ عن الأندلس فإذا بها تناديك إلى أحضانها..! وبعد أن تمّ تعييني في هذا المنصب التحقتُ بالعاصمة الإسبانية لمباشرة المهمّة التي أسندت لي رفقة أحد أكبر السفراء الذين أنجبهم تاريخ الدبلوماسية المغربية المعاصرة وهو الدبلوماسي المُحنّك السيد المعطي جوريو بارك الله في عمره الذي ربطتني به هو الآخر صداقة عميقة ما زالت مصدرَ فخر كبير لي إلى اليوم؛ إلاّ أن علاقاتي، واتصالاتي بالدكتور بنشريفة لم تنقطع قطّ، حيث كنتُ دائمَ الاتصال به خاصّة لدعوته فيما بعد للمشاركة في العديد من التظاهرات والندوات الثقافية التي كان يتمّ تنظيمها في مختلف المدن الإسبانية بالتعاون مع السفارة المغربية والتي لم يكن يتأخّر أبداً في الاستجابة لها والمشاركة في معظمها. مناقب الفقيد ولاستحضار واستذكار بعض مناقب الفقيد العزيز، وعِلمه الغزير، وتكوينه المتين، وسِعة اطلاعه سأقتصر على تسجيل حَدَث علميّ فريد وقع لي معه من الأهمية بمكان في تاريخ الأندلس وبشكل خاص في تاريخ مدريد والحضور الإسلامي الذي عرفته هذه المدينة على امتداد العصور، وهي العاصمة الأوروبية الوحيدة التي أسّسها المسلمون تأسيساً والتي تحمل اسماً عربياً، وبواسطة إسهامات ودراسات العالم بنشريفة عن هذه المدينة أميط اللثام عن كثير من الحقائق التاريخية المتعلقة بهذا الموضوع المثير التي أنارت طريق الباحثين، وإليكم قصّة ما حدث في هذا الشأن: في أوائل الثمانينيات من القرن المنصرم، قرّرت بلدية مدريد، التي كان عمدتها إبّانئذٍ العالِم والسياسيّ الإسباني البارز الراحل تييرنُو غالبَان (كان ينتمي إلى الحزب الاشتراكي العمّالي الإسباني)، تنظيم ملتقىً دوليّ حول تاريخ مدريد الإسلامي بمشاركة العديد من الأساتذة الجامعيّين من الإسبان وغير الإسبان، وتلقت سفارة المغرب آنذاك رسالة من البلدية لدعوة أحد العلماء المغاربة الذين لهم الباع الطويل في تاريخ الأندلس للمشاركة بمداخلة في هذا اللقاء. وما أن قرأتُ الرسالة حتى قفز إلى ذهني اسمُ عالمنا الجليل بنشريفة، فبعثتُ له بنسخة من رسالة بلدية مدريد، حيث وافق على الفور للمشاركة في هذه التظاهرة الكبرى. وبعد أيام وصلتني مداخلته حول الموضوع التي كانت باللغة العربية، فقمت بترجمتها إلى اللغة الإسبانية. وعندما حان وقت انطلاق هذا اللقاء في القاعة الكبرى لبلدية مدريد اعتذر بنشريفة عن الحضور لالتزامات له سابقة في أحد البلدان العربية، فطلب منّي أن ألقي نصّ المحاضرة الذي أعددته باللغة الإسبانية بالنيابة عنه، وكان الأمر كذلك، وقد فوجئ العديد من الحاضرين والمشاركين في هذا اللقاء بزخم المعلومات التاريخية الدقيقة التي أوردها بنشريفة في مداخلته، وإليكم ملخصاً لها: مدريد.. حضور إسلامي على مرّ العصور هذه القراءات، والجولات التي سنقوم بها معاً في تاريخ حاضرة مجريط العتيقة العامرة، أو مدينة مدريد القديمة مع الراحل محمد بنشريقة لا جَرَم أنها ستعود بنا الزّمانَ القهقرى، لنستحضرَ ونسترجعَ بها وفيها ومنها ماضياً تليداً، ومجداً ضائعاً، وتراثاً نابضاً، وتاريخاً حيّاً في زمنٍ أضحىَ فيه التنائي بديلاً عن تدانينا، وناب فيه عن طيب لقيانا تجافينا. ! الحضور العربي- والأمازيغي- الإسلامي في هذه الحاضرة العامرة التي أمست من أكبر الحواضر الأوروبية في الوقت الرّاهن، حضور قويّ نابض وزاخر، أسّسها تحت اسم "مجريط" في القرن التاسع الميلادي الأمير محمد بن عبد الرحمن، خامس الأمراء الأموييّن في الأندلس. ولتسليط الأضواء على هذا الموضوع الحيوي المثير، سيدور حديثنا عنه انطلاقاً من محوريْن اثنيْن: الأوّل عن المادّة العربية التي ظهرت حتى الآن حول مدينة مجريط الإسلامية. أمّا المحور الثاني فسينصبّ على مدريد في رحلات خمسة من السّفراء المغاربة لدى البلاط الإسباني ابتداء من القرن ال17 إلى القرن ال19 الميلادييْن. يشير الدكتور محمد بنشريفة إلى "أنّ معظم القبائل التي نزلت مدينة مجريط على إثر الفتح الإسلامي لإسبانيا كانت قبائل بربرية تنحدر من المغرب على وجه الخصوص، حيث استقرت في مجريط، ومكادة، وطلمنكة، ومدينة سالم، ووادي الحجارة وغيرها من مدن الثغر الأدنى وقراه. وقد أكّد ذلك المستشرق المعروف سيزار دبلر. والغريب هو أن هذه الأماكن والمواقع وغيرها لا تزال موجودة إلى يومنا هذا وهي تُنطق كما كانت تُنطق إبّان التواجد الإسلامي بها مع تحريف بسيط لحق بأسماء بعضها". كما يشير الدكتور بنشريفة إلى "أنّ مدريد هي إحدى المدن الإسلامية التي أنشأها المسلمون إنشاءً في شبه الجزيرة الإيبيرية، وقد أحصى منها الأستاذ ليوبولدُو طورّيس بَالبَاس اثنتين وعشرين مدينة. والأمير محمد بن عبد الرحمن هو مؤسّس مدينة مجريط كما كانت تسمّى وقتئذ". اسم مجريط ومعناه يشير الدكتور محمد بنشريفة في أصل اسم مجريط ومعناه إلى "أنه لعلّ أشهر الآراء المطروحة هي أنّ اسم مجريط يتألف من كلمة عربية هي مجرىَ أو مجري بالإمالة ألحقت بآخرها نهاية لاتينية للدّلالة على التكثير أو الكثرة لأنّها مدينة معروفة بكثرة مجاري المياه الجوفية فيها، وهذا الرّأي اجتهادي وليس بالرّأي النهائي القاطع. ويأتي بعض الباحثين برأي آخر حول اسم هذه المدينة، وهو أنه قد يكون نسبة إلى قرية بربرية تسمّى "بني مجريط" ذلك أنّ الأستاذ محمد الفاسي (محقّق مخطوط رحلة ابن عثمان المكناسي "الإكسير في فكاك الأسير") يقول في تعليق له على مدريد في هذا الكتاب: "وقد كانت مجريط قرية صغيرة تنزلها قبيلة بربرية تدعى بني مجريط. وتوجد قرب مدريد قبائل أخرى بربرية أخرى قريبة في النطق من بني مجريط، فضلا عن وجود قبيل بربري آخر يسمّى بني ماجر بالقرب منها كذلك" .وأمّا ما يقال على أنّ اسم مدريد هو من "مادريد" أي (ماءُ دريد) بعد أن رخّمت همزة الماء، فذلك لا يعدو أن يكون ضرباً من الخيال ليس إلاّ، وقد أسّست مدريد في البداية لأغراض عسكرية ودفاعية هي حماية الثغور ومراقبة طليطلة، إلاّ أنها لم تلبث أن تحوّلت إلى قرية صغيرة، ثم إلى مدينة تشتمل على جميع مقوّمات المدن الإسلامية الأندلسية كالمسجد الجامع الذي تلقى فيه خطبة الجمعة، ويجتمع فيه المدرّسون والفقهاء وطلاّب العلم. وقد عيّنت الحكومة المركزية بقرطبة في تواريخ متباينة بمجريط مجموعة من الولاة الذين تعاقبوا عليها لحين سقوطها". ويؤكّد الدكتور بنشريفة في هذا القبيل: "والغريب هو أنّ هؤلاء الولاة كان مُعظمُهم من أصل مغربي. وقد أصبحت مدريد من الثغور المقصودة من طرف العديد من المجاهدين والمتطوّعين، وكانت مفتاح العزّ الذي أدركه المنصور بن أبي عامر ومنطلق النجاح الذي حالفه". ويحكي لنا المؤرّخ المراكشي ابن عذارى قصّة اجتماع جرى في مدريد أدّى إلى إنفراد أبي عامر بالحكم واستئثاره بالسلطة". ومرّت بالمدينة خلال العصر الإسلامي العديد من الأحداث والقلاقل التي كانت في الواقع انعكاساً لتطوّر الأحداث السياسية في قرطبة، خاصّة بعد أن انتهت الحجابة العامرية فيها. ويسجّل لنا الشاعر الأندلسي ابن درّاج القسطلي في إحدى قصائده الرّائعة انتصارات المصموديّين والزناتييّن في نواحي مجريط وأرباضها، ويحكي لنا المؤرّخون قصّة أمير مزيّف ادّعى أنّه من ولد الخليفة المهدي بن عبد الجبّار. ويقول بنشريفة في هذا الخصوص: "لو نجح هذا الذي ادّعى أنّه عبيد الله بن المهدي لجعل مجريط عاصمة في العصر الإسلامي"، وانتقلت مدريد من يد المسلمين إلى يد المسيحيين باستيلاء ألفونسو السّادس عليها عام 1083 م. مدريد في كتابات السّفراء المغاربة كتابات السّفراء المغاربة في القرون السابع عشر والثامن عشر والتّاسع عشر كانت محلّ دراسة وتمحيص من طرف العديد من الباحثين المغاربة والإسبان على حدّ سواء. وتجدر الإشارة في هذا الصّدد إلى أنّه إذا كان المغاربة أوّلَ من دخل الأندلس مع طارق بن زيّاد، فإنهم أوّل من عادوا إليها بعد فترة من القطيعة بوصفهم دبلوماسيّين ومفاوضين ومبعوثين من طرف بلدانهم في مهام دبلوماسية عديدة لدى البلاط الإسباني في تواريخ متفاوتة. والسّفارات أو البعثات الدبلوماسية المغربية للديّار الإسبانية التي دوّنت ضمن مخطوطات وكتب رحلات مشهورة معروف منها حتى اليوم خمس وهي : 1 "رحلة الوزير في افتكاك الأسير" لمحمد بن عبد الوهّاب الغسّاني، سفير السلطان مولاي إسماعيل إلى الملك كارلوس الثاني عام 1690 - 1691 م؛ 2 "رحلة الزيّاني عام 1758؛ 3 "نتيجة الاجتهاد في المهادنة والجهاد" لأحمد بن المهدي الغزال، سفير سلطان المغرب محمد بن عبد الله إلى ملك إسبانيا كارلوس الثالث 1766 م؛ 4 "الإكسير في فكاك الأسير" لمحمد بن عثمان المكناسي، سفير سلطان المغرب محمد بن عبد الله إلى العاهل الإسباني كارلوس الثالث كذلك 1779؛ 5 "التحفة السنيّة" لأحمد الكردودي 1885 م. وكانت ملاحظات هؤلاء السفراء تتركّز بالخصوص على وصف ما تبقىّ من المعالم العمرانية والمآثر التاريخية الإسلامية، في مختلف المدن الأندلسية؛ بل إنهم كانوا يلتقون بكثير من الإسبان المنحدرين من أصل أبناء المسلمين. وتحفل رحلاتهم بالعديد من القصص والحكايات والأوصاف الدقيقة لكلّ ما شاهدوه خلال رحلاتهم في مختلف المدن والحواضر والقرى والضّيع والمداشر الإسبانية، وبشكل خاص العاصمة الإسبانية مدريد، فضلاً عن متابعاتهم وتسجيلاتهم لمختلف التطوّرات والأحداث التاريخية التي عاشها هؤلاء السفراء الرّحالون في هذا القبيل في عصرهم. ابن عثمان ووصفه لمجريط ونورد فيما يلي نموذجا لمشاهدات هؤلاء السفراء، وبشكل خاص وصف السفير الرحّالة ابن عثمان المكناسي لمدينة مدريد في ذلك الإبّان في كتابه الطريف "الإكسير في فكاك الأسير"، إذ ما أن وصل ابن عثمان إلى مشارف مدريد حتى بدأ في وصفها قائلاً: "هذه المدينة كبيرة، غاية في الكبر وضخامة البناء، حاضرة الحواضر ببلاد إصبانية (كذا) (يعني إسبانيا) بنيت على ربوة، وببابها "وادي مانساناريس" (هذا النّهر ما زال يمرّ بمدريد إلى اليوم) زادها حسنا وبهجة وسناء. وقد غرسوا على جانب الوادي الذي من ناحية المدينة أشجارا كثيرة مثل التمر وما أشبهه في غاية العلوّ بصفوف معتدلة يتفيّأون ظلالها عشية وقت خروجهم، حيث يتردّدون على حاشية الوادي المذكور على أكداشهم (مفردها كوتشي وهي حنطور أو عربة يجرّها حصان، ويطلق هذا الاسم اليوم في إسبانيا على السيّارة)، ولمّا دخلنا المدينة وجدنا بها من الخلائق أضعاف من تلقّانا بخارجها، فسرنا في سكك متّسعة، وديار مرتفعة، فجلّ ديارها لها ست طبقات وخمس طبقات لكلّ دار سراجيب منفتحة للأزقّة، ومغلقة بالزّاج عليها شبابيك الحديد، وأسواقها عامرة مشحونة بأهل الحرف والصنائع والتجارة والبضائع، وجلّ باعتها من النساء". كما وصف ابن عثمان: "القنطرة التي تعلو نهر منساناريس بمدريد ذات الأقواس التسعة، وهي غاية في الإتقان والإحكام والضخامة، وعرضها نحو مائة شبر يسمّونها قنطرة طليطلة، وكذا باب مدريد، وهي تسمّى بباب طليطلة لكون المسافرين إلى طليطلة يمرّون به ". وتجدر الإشارة إلى أنّ اسم هذه الباب ما زال يطلق عليها إلى يومنا هذا، وإلى مدريد أو مجريط ينسب العالم الرياضي الفلكي الكيمياوي الشهير أبو القاسم مسلمة المجريطي الذي كان يلقّب ب"إقليدس الغرب". التثاقف والمثاقفة هذه الرّحلات كان لها تأثير ملحوظ في التفاعل والتثاقف بين المغرب وإسبانيا بشكل خاص، وبين العالم العربي الإسلامي والغرب على وجه العموم. فمثلما كانت إسبانيا مصدرَ إلهام وإبداع للعديد من الكتّاب العالميين، فقد كان المغرب والعالم العربي كذلك مصدرَ إلهام للعديد من كبار الكتّاب والمبدعين من مختلف أنحاء العالم وبشكل خاص الإسبان منذ رائد المسرح الإسباني لوبي دي فيغا إلى الكاتب والروائي الراحل المعروف خوان غويتيسولو، مروراً ب: فرانسييسكو دي بييّا إسْبِيسَا، وخوسّيه كادالسُو، وبيريث غالدُوس، وفيسينطي أليكسندري، وأطونيو غالا، وسواهم وهم كثير. فالمسرحيّ الإسباني الشهير لوبي دي فيغا قد تعرّض للمغرب في مسرحيته "طائر الفينيق" أو العنقاء. وفرانسيسكو دي بيّيا إسبيسا عاش في مدينة العرائش، ومن أشهر أعماله "قصر اللؤلؤ" و"بني أمية" و"باحة الريّاحين". وفيما يتعلق بخوسّيه كادالسُو فإنّ المستشرق الرّوسي كراشوفسكي يرى أنّ رحلة أحمد ابن المهدي الغزال سفير السلطان محمد بن عبد الله لدى العاهل الإسباني كارلوس الثالث "نتيجة الاجتهاد في المهادنة والجهاد" هي التي أوحت له بكتابة رسائله الشهيرة التي تحمل عنوان "رسائل مغربية" Cartas Marruecas التي نشرها 1789، والتي يمكن مقارنتها بالرسائل الفارسية للكاتب الفرنسي ذائع الصّيت مونتيسكيّو. وأمّا بينيطو بيريث غالدوس فقد خلّد مدينة تطوان في روايته "عايطا تطّاوين" وربما منه جاء لقبها الحمامة البيضاء، إذ يصفها بهذا الاسم في هذه الرّواية قبيل دخول الجنرال الإسباني أودونيل إليها 1860. وقد عبّر فيسينطى ألكسندري عن إعجابه وانطباعاته عن المغرب في رسالته الشهيرة التي تحت عنوان "الرّسالة المغربية" وهي رسالة أدبية حميميّة مطوّلة موجّهة إلى الشاعرة الإسبانية ترينا مركادير، وقد سجّل فيها ذكرياته حول زيارته لمدينة تطوان، حيث يصف أسواقها ودورها وقصورها وأزقّتها ومحلاتها وأناسها، وصنّاعها التقليدييّن. وقد أسهم خوان غويتيسولو، الكاتب الإسباني الغنيّ عن التعريف الذي أقام سنواتٍ طويلة بمدينة مراكش والتي كتب عنها العديد من الأعمال الرّوائية، بقسط وافر في إقناع منظمة اليونسكو العالمية بالاعتراف ب"ساحة جامع الفنا" بمرّاكش كتراث شفاهي إنساني عالمي غير مادي، وكانت لهذا الكاتب صلات وثقى وعلائق متعدّدة متينة كذلك بالعالم العربي والإسلامي بشكل عام. وفي كتاب "قصص الحمراء" للكاتب الأمريكي المعروف واشنطن إرفينغ قصّة تحت عنوان "المنجّم العربي" بطلها هو الملك المغربي ابن حبوس الذي حكم مملكة غرناطة. ويؤكّد النقاد الثقات أنّ هذه القصّة نظراً لجاذبيتها وعنصر الإثارة فيها سرعان ما تسلّلت إلى التراث الرّوسي عن طريق بوشكين الذي نظمها شعرا في "حكاية الديك الذهبي". ونجد هذا التثاقف أو المثاقفة كذلك في أعمال العديد من الكتّاب والشعراء والمبدعين والفنّانين والرسّامين الإسبان الكبار، سواء هؤلاء الذين أقاموا في المغرب أو الذين لم يزوروه قطّ؛ فقد وضع هؤلاء الرسّامون لوحات رائعة حول المغرب، بل إنّ بعض هؤلاء الفنانين الإسبان رسموا جميع السفراء المغاربة الذين تمّ إيفادهم إلى إسبانيا ضمن بعثات دبلوماسية في تواريخ متفاوتة من الزمن. كما نجد هذه التأثيرات المشتركة المتبادلة بين الطرفين في العديد من المظاهر والمرافق الأخرى المتشابهة والمتقاربة للحياة الإسبانية في القرون التي زار فيها هؤلاء السّفراء إسبانيا. رحم اللهُ تعالى الفقيد العزيز بواسع رحمته، وأسكنه فسيحَ جنانه. * كاتب، وباحث، ودبلوماسي سابق، عضو الأكاديمية الإسبانية- الأمريكية للآداب والعلوم - بوغوطا- كولومبيا .