دول كبرى تتاجر في "الاستقرار".. وهذا ما لا تراه جهاتنا المسؤولة، حتى والاستقرار موجود، ومتجذر، ولا يتطلب إلا أرضية طبيعية اسمها: "عدالة اجتماعية".. "عقدة الاستقرار والحماية" تحولت إلى مبرر لتعقيدنا بالنموذج الغربي.. وتحولت إلى عقدة أكبر، هي "عقدة الغرب" التي أصبحت طاغية على حياتنا اليومية.. إنها نتاج تفاعلات نخبتنا السياسية والاقتصادية التي تمارس القفز من "حقوق الداخل" إلى أحضان الخارج.. ومبرر حكومتنا هو التهرب من المسؤولية: الآخر هو السبب.. العدو الخارجي هو يحبك ضدنا مؤامرات.. يحاربنا في الخفاء.. ويعرقل مسارنا.. ولا يريدنا أن نتطور.. هذه من مبررات "منظومتنا التدبيرية".. وهذه نفسها يطبعها اختلال: لا أحزاب، لا نقابات، لا برلمان، لا حكومة، لا ديمقراطية، لا عدالة اجتماعية، لا تعليم، لا صحة، لا شغل، لا احترام للوقت... أضف إلى هذه كل أنماط "الفساد الإداري".. وهذا الواقع يهدد توازناتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويبعدنا عن حلمنا العمومي في بناء "دولة مؤسسات".. بيد أن منظومتنا العلاقاتية، لا يهمها إلا إشباع مصالحها الغربية، مقابل حصولها على مساندة وحماية.. وهذه من الحالات التي وقعت لدول أخرى، في أزمنة الهشاشة.. وأية دولة تعاني الاختلال، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، هي معرضة لاهتزازات، وبالتالي قد تكون لها "نخب" لا تهمها إلا حماية خارجية، لمساعدتها على فرض استقرار داخلي.. والدول الكبرى لها "أسواق" تبيع فيها الحماية للدول الضعيفة.. وأصبح "الاستقرار" نفسه مادة قابلة للاتجار.. والدول المحتاجة تشتري استقرارها من هذه الأسواق.. - هو أساس التنمية! ومن أجل الاستقرار، تجد حكومات على استعداد لإبداء كل تنازلات، وقبول أكبر "ابتزازات".. هذه دول كبرى قد حولت استقرار دول صغرى إلى "مادة استهلاكية".. الاستقرار أصبح هو نفسه مادة قابلة للبيع والشراء.. والابتزاز لم يعد خفيا.. دول كبرى تبتز صغار العالم جهرا، وفي واضحة النهار.. وهذا يحصل لمجمل الدول التي تعاني الفساد والاستبداد، والمعرضة لاهتزازات اجتماعية.. وفي غياب عدالة، ونزاهة، مع تغول الفساد الإداري، وحكومة لامسؤولة، يستمر الوضع الاجتماعي في حالته من التردي، وتكون النتيجة: تهديدات بتغييب الاستقرار.. وهذه من التعقيدات القائمة في العلاقات بين دول الشمال والجنوب.. ونحن أيضا، مثل كثيرين، يريدون لنا هذه "الصنارة".. وتتمثل في أن نستهلك "مادة" الحماية التي تعرضها دول كبرى، في أسواق المزايدات، وفق اتفاقيات مشروطة.. الكبرى تنتج "الحماية"، والصغرى تستهلكها.. وحكومتنا لا تفهم أن أنجع حماية لا تأتي من الخارج.. الوضع الداخلي العادل هو الحامي الحقيقي.. هو صمام الأمان.. سياج يحمي من أية مخاطر.. لكن حكومتنا لا تفهم هذا.. والأحزاب، والبرلمان، والحكومة، والنخب السياسية والمالية، ليست في مستوى التواصل الإيجابي مع الداخل.. تفضل أن تحافظ على المصالح الغربية، لاختصار المسافات.. - تختار أسهل الطرق.. تختار أسلوب "القراصنة".. وهذا ما يجعل الإقطاعية عندنا تقوم، وبرداءة، بتدبير وتسيير الشأن العمومي.. حكومتنا تدرك فقط أن الخارج وحده قادر على حماية الاستقرار من اهتزازات الداخل.. تعتقد أن الخارج وحده يحمي الاستقرار! وفي "النخبة" مقتنعون بهذا.. مقتنعون بأن "الخارج صمام الأمان".. والحقيقة هي أن الداخل هو الحامي، وليس الخارج.. والدول الكبرى أدركت نقطة الضعف لدينا، والخلل في حساباتنا، وفي قراءاتنا للأحداث.. وتلعب على الوتر الحساس.. وتسوق لبقية الدول الصغيرة أوهام الحماية.. وهي وهمية.. غير قادرة على فرض حماية حقيقية، بدليل ما شهدته كثير من الدول الإفريقية، والأمريكية اللاتينية، ودول أخرى، من اهتزازات ضاربة في صميم استقرارها.. ونحن مثل كثيرين ما زلنا نستهلك أوهام "الاستقرار" التي يسوقونها.. وحكومتنا نفسها تسوق لنا في التلفزيون "مادة" الخطر الآتي من الخارج.. وتعمل على جعلنا بشكل دائم في توتر من احتمال عدوان خارجي.. وينتج عن هذا أن لا نجد دولتين متجاورتين، من الدول الهشة، ديمقراطيا ومدنيا، ليست بينهما نزاعات حدودية أو مذهبية أو غيرها... وهذا التدهور العلاقاتي تقف خلفه دول كبرى، وجهات عميلة، قد اكتشفت إمكانية بيع أوهام الاستقرار للدول الصغرى.. - وعلى الخط تقاطعات سمسارية! ونحن أيضا، مثل غيرنا، لنا مسؤولون على استعداد لابتلاع صنارة "الاستقرار"! ويجعلوننا نستهلك أي شيء، وأية أفكار، وخزعبلات، من مؤسسات إنتاجية لدول كبرى.. - ما زلنا مستهلكين لكل منتجاتهم.. هم ينتجون، ونحن نستهلك.. نقتني ما يعرضون علينا في أسواقهم.. وهذه "المواد" ليست كلها سليمة.. صحية.. فيها ما يضر أكثر مما ينفع.. ومن هذه الأسواق، ما هو موجه لمجتمعنا، وما هو معروض على الدولة.. الدولة، يبيعونها الأسلحة، ومواد أخرى.. والشعب قد أعدوا له سوق الأغذية.. وسوق الأدوية.. وأسواقا أخرى... في سوق التغذية، نكتشف متأخرين أن الخضر والفواكه والحبوب وغيرها ليست خضرا وفواكه طبيعية.. وهم قد أوهمونا أن هذا نتاج زراعة متقدمة، وأن لا أفضل من هذه الزراعة، فإذا هي تعطينا أغذية "كيماوية".. ويوهموننا أن أدويتهم متطورة، وتعالج المرضى علاجا فعالا، فإذا بها لا تداوي، بل فيها ما هو مضر أيما إضرار.. ويوهموننا أننا معرضون لخطر الحدود، وأن حدودنا غير آمنة.. وأن علينا أن نشتري منهم أسلحة للوقاية والحماية.. ثم نكتشف أننا لا نحتاجها، وأنهم يلعبون على المتناقضات، ويعرفون كيف يصطنعون الأزمات، وكيف يديرونها، وكيف يتخذونها مطية للضغط علينا، وتسويق منتجات صناعتهم العسكرية.. أسواق لإضعافنا، وتكريس الاستبداد في صفوفنا، وتمكين عملائهم من أراضينا، وثروات بلدنا، وتعطيل حياتنا.. هذا تفعله أسواق كبرى، ومعها نخب منا، في سلوكاتها اليومية.. يسوقون لنا نماذج "تنموية" مبنية على تحويلنا إلى شعوب لا تفكر، وفاقدة للذاكرة.. شعوب منقسمة.. بينها تنافر.. على رأسها حكومات استبدادية، تستقي قوانينها من الآخرة.. وأوهام "الديمقراطية" لا تنتهي.. أولاء ليسوا متشبعين بالديمقراطية.. وعلى أساس هذه العقلية السلبية، ما كانت لنا إلا أحزاب انتهازية.. وانتخابات صورية.. - أقاموا حياتنا اليومية على أوهام مستقاة من غيبيات! ومن فينا متنور، يجد نفسه أمام جدار مسدود، مكتوب عليه: "تكميم الأفواه"! وليس بهذه الطريقة نتقدم.. لن نتطور بهذه الطريقة الانتهازية الفاسدة.. ونحن لا نحتاج من يبيعنا الاستقرار، ولا من يحمينا.. الاستقرار والحماية منا وإلينا.. فهذا وطننا.. ولا تفريط في الوطن.. أما الاستقرار والحماية من دول كبرى، فهذا ما هو إلا وهم من الأوهام.. نحتاج، هنا في الداخل، لفريق عمل مسؤول فاعل نزيه.. وهذا الفريق الجاد موجود.. تحفل به بلادنا، من الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب.. فريق وطني.. لا يعرض نفسه للنخاسة.. يشتغل بجد وحزم.. لبناء دولة مؤسسات.. ومجتمع سليم.. - وفي سلامة المجتمع، يكمن الاستقرار.. وكل الحماية والكرامة والوقار..