«وكان من الأشياء الطريفة التي عشتها في بني سنوس أنهم كانوا يحجون كل سنة لمكان يتواعدون للالتقاء حوله، ويهيئون لذلك ويوفرون الأموال من أجله، شريفهم ووضيعهم، وكان عليَّ أن أتقدم موكب حجيجهم وسط الطبول والمزامير مسافة نصف يوم، حتى إذا بلغ الجمع موضعهم ضربوا الخيام ثم أخذوا في الأكل والشراب، وأكثروا من الذبائح وزاروا هناك قبر جد يتفقون جميعهم على أنه لم يتزوج ولم يخلف، ومنهم من يزعم الانتساب إليه رغم ذلك ويُفاخر به، ومنهم من يُتبرَّك به من أجل ذلك، وقد وجدتُ العنت الشديد في فهم الانحدار من أرومة لم يخلف صاحبها. وكان علي أن أتقدم الطائفين، وأن أحضر أعطياتهم وأبارك صلواتهم، وقد ابتهج بنو سنوس لِمَا وجدوا فيَّ من انصياع، إكراما لجدهم ومحبةً لذويهم. وكيف لي أن أفعل غير ذلك؟ وكيف لحمار أن يدرك؟ وهم لا يميزون بين الحمير. حتى إذا كان المساء شاهدت شيئا عجبا، فقد تحللوا من وقارهم وأخذوا يضربون الدفوف وهم يطوفون بمرقد جدهم، ثم شربوا الخمرة حتى عبثت برؤوسهم، وتحللوا من كل الضوابط، واختلط الرجال بالنساء، واختلط الرجال بالرجال، واختلطت النساء بالنساء.. وبلغ من النساء من أردن التبرك بعضوي، وأردن لمسه ومسحه بالزيت، وقد عرض علي خادمي ذلك فأبيت...».(1) * * * قبل الخوض في هذه الصورة ومساءلتها، أشير إلى أنني لا أتقصد من خلال لفظة «أسطورية» أن «سيرة حمار» رواية أسطورية الطابع، إنما أقصد أن ننظر إلى النص من منظور الأسطورة فنتلمس أسطوريته، أي ما ينطوي عليه من أبعاد أسطورية، انطلاقا من قناعتنا بأن الأسطورة ليست مجرد قصص غرائبية لتصريف معنى، بل هي خطاب يمكن أن يُبنى لتوليد معانٍ أو تصورات أو مفاهيم، وتحطيم أخرى. يقال إن الأسطورة مقبرة الرواية، غير أن «سيرة حمار» عكست المعادلة وكانت هي مقبرة الأساطير، لأنها استعملتها كأداة وليس كغاية، وحاورت الأسطورة بالأسطورة في صور تفاعلية فيها كثير من الإيهام والإزاحة والمُداوَرة والتوجيه المُغالِط للقارئ. وقد قدمتْ تفسيرا معَلَّلا عن وضعية الإنسان، لكن بغلاف أسطوري شفيف، قد يبدو للقارئ سميكا في أول وهلة، فيصنف النص في الأدب العجائبي أو الأسطوري بشكل مجازف وجائر، بالاستناد فقط إلى سطح الحكاية وتحول إنسان إلى حمار. يقول روجيه غارودي إن الأسطورة في صورتها الأولية الحية لم تكن قصة خيالية، بل كانت واقعا معيشا (2). وفي «سيرة حمار» نجد أن المضمون الأسطوري يمثل كذلك واقعا إنسانيا معيشا وليس مجرد خيال. صحيح أن حكاية الحمار تَتّسم بالعجائبية، إلا أنها تدخل في لعبة تناصية سنقف عليها في محور آخر. أما أسطوريتها فتتجلى في أنها تبني مفهومات وتصورات واقعية، رغم وهم العجائبية فيها. وبالعودة إلى الصورة أعلاه، نجد أنها تمد أفقا أسطوريا هائلا، حيث كل شيء فيها يوحي بالعجائبي والغرائبي واللامنطق، يؤثثها فضاء إنساني موغل في الشعائرية والطوطمية والكرنفالية البدائية، من خلال وصف الطقوس والمعتقدات والشعائر وكثير من مظاهر الثقافة، ويتجاور فيها المقدس والمدنس، في شكل يبعث على السخرية والتهكم، من الإنسان طبعا، وليس من البطل أسنوس. وقد جاء السرد عجائبيا كذلك، تُجلِّله عبارات «وكان عليَّ أن- حتى إذا بلغ الجمع مقصدهم- حتى إذا كان المساء... »، لدرجة نشعر كأننا إزاء حكايات ألف ليلة وليلة، توهم بأن الحدث غائر في الزمن، وهو في الحقيقة راهن وممتد. ثم إن الصورة تعطي الانطباع بأن البؤرة فيها هو الحمار، غير أن الأسطورية هنا لا تتعلق به، وإنما بالإنسان؛ إنسان يعبد حمارا، ويقوده معبوده إلى قبر جد يتفق الكل على أنه لم يُخلِّف، ومع ذلك يزعمون الانتساب إليه، مما يضعنا أمام وضعية مفارقة للإنسان، يغذيها عنت الحمار في أن يَفهم ما لا يُفهَم. هكذا يصير الإنسان هو الأسطورة الحقيقية في النص؛ إذ يعاكس الطبيعة ويجافي المنطق ويتمثل الوهم يقينا، وينساق بشكل أسطوري. وتتفاقم أسطورية النص أكثر، حين تلتقط الصورة سمات انحطاط الإنسان، من خلال مظاهر المجون والاختلاط والنزوة التي لا تفرق بين الإناث والذكران، وكأننا أمام إنسان أدنى من مرتبة الحيوانية. وفي مقابل انحطاط الإنسان، تتعاظم صورة الحمار، إذ يتبرم من طلب النساء التبرك بعضوه، في طقس غريب ينضح بالشعائرية الأسطورية. وقد تنامت الصورة الأسطورية السلبية للإنسان من خلال صور ترصد الطوطمية لدى بني ييس كذلك، وهي صور تعمل على مد الدراما وتوتير الوضعية اللاإنسانية للإنسان، حيث نزل من برجه وتخلى عن قيمه وتحلل من العقلانية وانغمس في مجاهل الوهم والمعتقد والجمود والزيف. ولامس الراوي سمة الأسطورية حتى في أبناء المدن، من خلال رحلة السيرك، إذ نقرأ: «ولكن عرضا استأثر باهتمام المدينة أزرى بعرضنا، هو مبارزة رجل لسبع، شاهدت عرضا منها في أليلي ملأني فرَقا حيث مزق سبع أشلاء رجل أعزل، ثم أمسك جثته بين فكيه، واعتلى صياح الجمهور بهجة لهذه المبارزة الفريدة...».(3) واضح ما تكتنفه الصورة من عبث واختلال في الإنسان والمنطق، حيث يصيح الناس بهجة بتمزيق أسد أشلاء بشر. إنها صورة أسطورية عن إنسان لا يمكن أن يكون إلا أسطورة، إذ يتقمص سمات هي على الضد تماما من جوهره وحقيقته الوجودية وقيمه المفترضة. وتتوتر إطلاقية هذه الصورة، سرديا، في قول الراوي متحدثا عن صاحب السيرك: «أدرك أن ما يروق الجمهور ليس الألعاب البهلوانية التي يقدمها الفيل أو القرد أو الأسد، ولا تلك الرقصات التي كنت أرقصها والألعاب التي أقوم بها مع الجمهور، وإنما تلك المشاعر المنبعثة من خطر الموت».(4) تنبض الصورة بالحس الإنساني، فالأمر ليس مجرد مشاهدة، بل هو إحساس ومشاعر تتلذذ بآلام الإنسان، وتستمتع بمظاهر الموت لمجرد فرجة. وحين تكون المشاعر الإنسانية عدوانية في لذتها إلى هذا الحد، ندرك كم هي أسطورية صورة الإنسان في هذا النص، إذ تتمظهر العدوانية لديه في شكل طقس وشعيرة تسمو بها الروح، وهي أسطورية يتشاركها البدائيون والمتمدنون، كما يؤكد الراوي أسنوس في سياق انتقاده لسلوك الإنسان، بعد أن قبض عليه بنو ييس وسجنوه وأرادوا رجمه، معتبرين أنه سبب بلواهم: «ثم إنه أصبح لدي متسع من الوقت للتفكير، وقد أدركت أن كثيرا من تصرفات بني الإنسان تغلب عليها الطبائع الحيوانية، فهم يحبون الغلب، ويميلون إلى المتع، وينفرون من التفكير، وهم يغلفون نزواتهم بغلاف إنساني نبيل، ورأيت أن لا فرق بين البداوة والتمدن في حقيقة الأمر إلا من حيث الدرجة، فمصدر التمدن هم البدو حين تتاح لهم ظروف تاريخية معينة، وهم بتعبير آخر، بمثابة المادة الخام للنتاج الصقيل».(5) في هذه الصورة يكشف الراوي طبائع الناس، ويضعهم أمام مرآة الحقيقة، فهم كالحيوان، لا يُعمِلون الفكر ولا المشاعر، وسيلتهم النزوات، وأخلاقهم الزيف. بذلك تكتمل معالم الصورة الأسطورية للإنسان، مقرونةً بعللها ومظاهر عجائبيتها، وهي أسطورة تم بناؤها من واقع الإنسان، وبدت خطابا مولِّدا للمعنى والتصورات والمفاهيم. وموازاة مع أسطورة الإنسان، بنى الكاتب أسطورة الحمار، بقيم مغايرة حد التناقض، فهو عاقل، مفكر، مجادل، متبرم من تدني الإنسان، مستمع جيد للحكمة، عاشق مثالي، متعفف في النّزو، متسائل عن المستقبل، مندد بظلم الإنسان، باحث عن إنسانيته، رافض للسكون والقدرية، مناهض للزيف، متعطش للحقيقة...، بما يجعل صورته أسطورية بكل المقاييس، يُعززها السرد الإطلاقي والعوالم القريبة من الخرافة والسحر واللامنطق. وارتبطت الأسطورتان برباط أرجوحي ثابت الحركة والاتجاه، حيث تتدنى صورة الإنسان عبر مراحل السرد، وتتسامى في المقابل صورة الحمار، بما يجسده من سمات يفترض أنها أسطورية ومثالية بالنسبة إلى الإنسان. وهكذا كان النص معتركا لصراع أسطورتين؛ أسطورة الخرافة والشعائرية والوعي القطعي، وأسطورة الحكمة والحب والتفكير. وكان الفيصل بينهما هو العقل، فالحمار يتخذ العقل كأداة، بينما الإنسان يتجلى لديه العقل كوسيلة فقط. لقد أسبغ الكاتبُ على أسنوس الصورة المثالية للإنسان، وكسر الصورة النمطية عن الحمار في المخيال الشعبي، بوصفه رمزا محملا بمعاني البلادة والغباء، وجعلنا ننظر إلى الحقيقة من خلال عدسة هذا الحمار، وفي ذلك إشارات نقدية مضاعفة موجهة إلى الإنسان. هكذا تنفتح الأسطورية في النص على وظيفة نقدية وتوجيهية، شكل فيها الحمار أسنوس الملاحظ والمفسر والفاضح للزيف عبر ظلال الواقع، وبلورَ الحقيقة الإنسانية المرة. إن حسن أوريد أغرق إنسان النص في غياهب الطوطمية وسراديب الأوثان والزيف والسطحية، ورَكَنه في زاوية الخرافة والجهل وانعدام فاعلية العقل، وصَوَّره وهو يحتكم إلى ردود أفعاله وإلى الأحكام القطعية مثل الحيوان، وأحرجه بأن جعل الحمار يعلق ويسخر ويمتعض من تصرفاته، فجاءت الصورة شديدة الأسطورية، ليس لأنها تحكي عن إنسان بدائي، بل لأنها تعكس حالة إنسانية بعيدة كل البعد عن الإنسانية، التقطها الكاتب بانتقائية، في صور سردية كثيرة أقنعت بأن الإنسان صار بيئة نموذجية لنمو الأساطير والخضوع للآلهة التي يصنعها بنفسه. وهكذا فإن النص لم يقف عند حدود كونه معتركا لتحاور الأسطورتين، بل عمل أيضا على محاورة أساطير أخرى نمت وترعرعت في ظل سلبية الإنسان، وهي أساطير تنضوي ضمن ما يُعرف بالأسطورة السياسية، وهي عبارة عن أكذوبة تقوم فئة معينة بترويجها وإقناع الناس بها من أجل تحقيق مصالح سياسية. يقول كاسيرر: «لقد وُصفت الأسطورة دائما بأنها نتيجة لفعل لاشعوري، وبأنها نتيجة لانطلاق الخيال، ولكننا في الأساطير السياسية الجديدة نرى الأسطورة تتبع مخططا، فهي لا تظهر عشوائيا، إنها ليست ثمرة شيطانية من صنع خيال خصيب، إنها أشياء مصنوعة صنعها مهرة ماكرون إلى أبعد حد».(6) وفي ثنايا الحكاية أماط الكاتب القناع عن العديد من الأساطير السياسية، منها أسطورة التاريخ، وقد وردت في سياق تناسل الحكايات حول مقتل أذربال، حيث ذهب الناس مذاهب شتى، إلى أن جاء الخبر اليقين من حاكم المدينة، فتوقف تناسل الحكايات، واقتنع الناس بقطعية الخبر، والحقيقة أنه خبر زائف، والصورة برمتها تشير إلى تنازع الدولة السرد مع الأفراد واستفرادها بكتابة التاريخ كما تشاء، مقابل تسليم الناس بالمورد الرسمي. يقول الراوي أسنوس في سياق جنازة أذربال: «واجتمع المشيعون حول حاكم المدينة، وقد ألقى خطابا مسهبا في نعيي، وأطرق الناس جميعهم لخطبته العصماء وللخسارة الكبرى التي منيت بها أليلي في فقدان واحد من أبنائها البررة. ولم تكن خطبته تخرج عن سياق التعابير المعتادة ولا المصطلحات المتداولة».(7) واضح أن الصورة تَرشَح بالرسمية من خلال حديث الراوي عن حاكم المدينة وخطبته، كما أن إطراق الناس يوحي ببعض الخشوع والامتثال والإصغاء، ليس بالأذن فحسب، وإنما بحواس النفس والروح كذلك، إذ يَبدون متأثرين مستسلمين كأنهم أمام شعيرة من الشعائر. هذا ما أضفى سمة الأسطورية على السير الرسمية والخطاب الرسمي، بالنظر إلى هالة التصديق التي أحاطت بخطبة حاكم المدينة. ولعل الصورة تستبطن نبرة تهكم واضحة من خلال وصف الراوي الخطبة بِ«العصماء»، وكذا من خلال إشارته إلى نمطية الخطبة؛ فالتعابير معتادة، والمصطلحات متداولة، مما يدعو القارئ إلى إتمام المشهد من عنده. ورغم ذلك فالأمر لا يتعلق بمجرد السخرية من الخطاب الرسمي، بل يتعداه إلى مغزى آخر، هو أن طريقة صياغة السير الرسمية تتخذ شكل طقس يُتَّبع، وإذا ما تذكرنا أن الطقس يتسم بقوة الاستحواذ على الإنسان، أدركنا البعد الأسطوري الذي يغلف خطبة حاكم المدينة بوصفها خطابا رسميا. ويتعزز افتراض هذا البعد الأسطوري أكثر حين نعود إلى صورة وردت في نفس سياق حديث الراوي عن تناسل حكايات مقتله، إذ يقول: «والحال أن شخصا، عفوا، حمارا يدرك الحقيقة كلها، ولو كلفت المدينة نفسها عناء الاستماع إليه لأبلغها الحقيقة. ولكن من ذا يستمع للحمير؟».(8) فهل صحيح يتحسر الراوي على عدم الاستماع إلى الحمير؟ وهل من المنطق أن يستمع الناس إلى الحمير؟ إن سؤال الراوي ميتافيزيقي لا يمكن أن يُفهم إلا على أنه خطاب ساخر مقصود لإبراز الطابع الأسطوري للسير الرسمية واستحواذها وعلوها بلا منازع، طالما أن الحقيقة غابرة في سلك الحمارية. على أن تهكم البطل السارد سيتحول إلى رفض واحتجاج بالنهيق، بعد أن تقدم شخص آخر أسهب في سرد مناقب الفقيد وحمَّله من الأوصاف ما ليس أهلا لها، ومن السجايا ما هو غير صحيح. والغريب أن هذا الشخص لا يعرفه أسنوس/ أذربال، فنهق الحمار احتجاجا على الزيف، بما يعني الاحتجاج على السير الرسمية، وبالتالي أسطورة التاريخ الرسمي. وإلى جانب أسطورة التاريخ، يناوش النص أسطورة أخرى يمكن أن نسمها «أسطورة الاستقرار الروحي»، حيث نقرأ على لسان البطل الراوي في سياق تواجده في قبيلة بني سنوس: «... ولكن خادمي صدني عن ذلك، وحذرني مغبته، وأنبأني شيئا لم أقدره، وهو أن شيخ الجماعة لا يؤمن بشيء مما تؤمن به جماعة بني سنوس ولا هو يعتبرني صاحب كرامة أو بركة، ولكنه يُظهِر الإيمان بما تؤمن به الجماعة، والجماعة درجت على ذلك منذ سالف الأحقاب، وهو محتاج لذلك لأنه يتحكم في رقاب الجماعة، فهي التي تشتغل لصالحه وهو المستفرد بخيراتها وأموالها وبنيها ونسوتها».(9) إن الصورة تعكس سرا وتواطؤا بين الحمار وخادمه حول حقيقة الأمر؛ أن شيخ القبيلة يمارس التضليل بنشر معتقدات وتزكيتها، والحرص على استمرارها ليتمكن من قيادة القطيع والاستفراد بالخيرات. هكذا ترتقي المعتقدات إلى مستوى الأسطورة، بالنظر إلى هالة التصديق التي تحيط بها، وكذا بالنظر إلى أنها حالة مزمنة موروثة منذ سالف الأحقاب، مما يدخلها في خانة المقدس. بذلك تؤدي الصورة وظيفة فضح أسطورة سياسية؛ أسطورة يصفها الوهم والزيف الإنساني ويحولها إلى طواطم، تحفظ للوعي تعلقه بقيم يعتقدها حقيقية، لكنها في الواقع زيف مدسوس، وهو زيف ممتد، مصنوع ومحاط بعناية الاستمرار، بغية ضبط السلوك الاجتماعي، من خلال الإيهام بمعتقد الاستقرار الروحي وبلورته في شكل أسطورة. على أن قول الراوي عن شيخ القبيلة: «وهو محتاج لذلك لأنه يتحكم في رقاب الجماعة»، يربط هذه الأسطورة بأسطورة الزعيم، ويتأكد ذلك حين نقرأ في نفس سياق الصورة السابقة: "وكان شأن تلك الجماعة غريبا حقا لم أر له ضريبا فيما شاهدت من أسفاري. كانت جماعة قليلة تستأثر بالأمر، ومن أجل ذلك تفسر الأمور بظواهر غير طبيعية، فتزعم أن توليتها للأمر أمر أرادته السماء، وأن من لم يرضخ لذلك تعرض لغضبها، وأن ما بينها وبين السماء وسيط، هو من جنس الحمير تعبده وتتخذه زلفى...".(10) بادية بوضوح ملامح الأسطورية في هذه الصورة، إذ تكشف أن أسياد القبيلة يوهمون الناس بأن توليهم للأمور أمر أرادته السماء، ومن لا يسلم بذلك يصيبه غضبها. وفي ذلك مغزى أسطوري لا يمكن تجاهله، حيث يبدو الامتثال للزعماء والشيوخ بمنزلة شعيرة مقدسة يرضخ لها الناس على أساس أنها حقيقة، وهي في العمق زيف وأسطورة مصنوعة تحفظ الزعامة وتكرس أسطورة الزعيم. يقول دوتيه في كتابه «السحر والدين»: «مع الأسطورة السياسية تصبح جميع الروابط الاجتماعية كالقانون والعدالة والدساتير بلا قيمة، وما يستحق البقاء فقط هو التأثير الأسطوري للزعيم»(11). وهو نفس التأثير الذي يمارسه شيخ قبيلة بني سنوس في الصورة أعلاه. ولعل تعبير الراوي عن الغرابة في بداية هذه الصورة، يكشف أنه يتخذ موقفا من الوجود، ومن هذه الأسطورة السياسية. ومن الأساطير السياسية التي يناوشها النص أسطورة «الآخر عدو متربص»، حين يصف الراوي أسنوس أحوال بني ييس أثناء مكوثه أسيراً لديهم: «وانتهى إلي من أمور بني ييس أشياء لا تختلف عما قدرت لأول وهلة، فلسانهم لسان بني سنوس، وأغلب الظن أنهم ينحدرون من أرومة واحدة، وطبائعهم متماثلة، ولهم احتفالات متشابهة، وهم يحجون إلى نفس المعبد مرة في السنة، شهرا بعد أن يفرغ منه بنو سنوس. وتحكمهم أقلية لا تريد لهم خيرا وتستأثر بالخيرات، كما لدى بني سنوس، ولا تؤمن بشيء اسمه بركات الفرس، وإنما هي محتاجة لذلك لأن الطغام تؤمن به. والفئة الحاكمة من بني ييس محتاجة أن تنصب بني سنوس عدوا، مثلما أن العلية من قوم بني سنوس محتاجون أن يجعلوا بني ييس مصدر كل شر، وهم لو وضعوا خلافاتهم جانبا لصفا لهم الأمر وتحسنت أحوالهم».(12) تعزز هذه الصورة أسطورة الاستقرار الروحي التي تبثها أقلية لدى بني ييس كما هو الحال عند بني سنوس. كما تعمل على توتير الطوطمية والخرافة، وإلى جانب ذلك فهي تعكس تحاور أكذوبة بين أسياد القبيلتين. هكذا تتحرك الصورة بين التشابه والتضاد؛ تشابه الحالة والوضعية الإنسانية واللغة والأصل، في مقابل الصراع المفتعل، حيث إن كل طرف يوهم جماعته بفكرة العدو المتربص. وقد بلورت الرواية مظاهر صراع عظيم بين القبيلتين، مما جعل الأكذوبة ترقى إلى مستوى الأسطورة نظرا إلى هالة التصديق القطعي التي أحاطتها، ونظرا كذلك إلى إطلاقية الامتثال لها والاعتقاد بها وتغلغلها في عقل الجماعتين ووجدانهما. غير أن الصوت الإيديولوجي للراوي يكشف زيفها بقصد، إمعانا في كشف أسطورة «الآخر عدو متربص». إلى جانب ذلك، نبش الراوي في أسطورة سياسية أخرى يمكن أن نطلق عليها «أسطورة الترفيه العمومي»، إذ يقول الراوي متحدثا عن ألعاب السيرك بعد أن صار منشطا فيها: «وكانت هذه الألعاب تحظى باهتمام السلطات وتوفر لها الرعاية، لأنها تصرف الناس عن شؤونهم، وكانت جزءا من تدبير الشأن العام».(13) لعل تقريرية الصورة تكشف كيف أن السلطة تستثمر مظاهر الفرجة ومكوناتها، وتتخذها جزءا من تدبير الشأن العام. بذلك يبدو الناس كالقطيع، والسلطة ترعى مظاهر الفرح والترفيه لغاية سياسية ضبطية تشغل الناس عن همومهم الوجودية، وترتقي باللعبة والترفيه والفرجة إلى مستوى شعيرة تسمو بها النفوس. هذا ما يجعل الترفيه العمومي أسطورة من الأساطير السياسية. وقد سبق أن رأينا، في هذا المحور، كيف أن صاحب السيرك أدرك أن ما يروق الناس هو المبارزات الدموية، لذلك جنح إلى الرضوخ لذوقهم. وهو بذلك يمثل أداة تنفيذ هذه الأسطورة. ثمة أسطورة أخرى يحاورها النص بشكل رمزي دال، هي «أسطورة القوة والغلبة»، وقد وردت في صورة ساخرة، من خلال سرد مبارزة البطل الراوي أسنوس لأسد، حيث انتصر الحمار ضد كل التوقعات، وسخر من غريمه مستخدما أداته الجنسية للتخويف، ومستخدما عقله كذلك، حين فكر في شرب ماء كثير وأكل بقايا بطيخ عفن، وكان قد تعلم درسا من المصارع الإنسان الذي سبق أن انتصر بدهاء على أسد في عرض سابق، نقرأ: «انتصر على سبع أهوج بالذكاء ورباطة الجأش. أدركت حينها أن القوة ليست هي كل شيء».(14) وقد تمكن الحمار، بفضل إعمال عقله وحسن استخدام أدواته، أن ينتصر بدوره على السبع، إذ تبول عليه وأطلق إسهالا على وجهه، وأهانه في صورة شديدة الكثافة الدلالية والرمزية، استعار خلالها الحمارُ حركات الإنسان ووقفته ليخيف بها الأسد ويشتت انتباهه واندفاعه. وفي ذلك تلميح إلى قوة الإنسان وطاقاته، وإلى أنه كمٌّ غير محدود إذا وثق في قدراته وعقله، إلا إذا ركن إلى السكون والسلبية. بذلك حطم الراوي أسطورة القوة والغلبة والسلطة، معززا صورة سابقة لصراع الأسد والقرد في صورة رمزية كثيفة أيضا، يظهر فيها الأسد، بسبب أو بدونه، يعتدي على القرد الذي يستكين، قبل أن يتمرد ويقفز إلى شجرة فيغضب الأسد ويجد القرد لذة في تعذيب غروره، ويختم الراوي الصورة بقوله: «ولكني أيقنت بعدها أن القرد هو الذي يتحكم في السبع، وأن القرد يرضى ببعض نزوات السبع فيجاريها، ولكنه يعرف تأثيره عليه، لأن السبع لا يستطيع أن يكون سبعا من دون قرد».(15) تتقلب هذه الصورة على إيقاع القوة والغلبة والسلطة، قد تكون القوة بجانب الأسد على حساب القرد، لكن السلطة متداوَلة بينهما بالتناوب، يستكين لها القرد في البداية، ثم يمارس سلطته على الأسد، إذ يمنع عنه متعة الإحساس بالقوة ويحرمه نزوة التسلط. وقد أضفى الراوي بذلك سمة الانفتاح على السلطة، كأنه يقول إنها ليست حكرا على طرف، بل لكلٍّ سلطته على الآخر. وهكذا عمل الراوي، في هذه الصورة وغيرها، على تمييع السلطة وجعلها مشاعة بين الكائنات مهما كانت القوة أو فارق القوة، وهي صورة تدفع في اتجاه أن السلطة منفتحة، أما السلطة المطلقة فمجرد أسطورة نمت وكبرت في ظل أسطورية الإنسان الذي خضع للوهم وصدق الزيف وصنع آلهته. نأتي لنقول إن حسن أوريد أنجز، من خلال حكاية الحمار، رحلة في الوعي واللاوعي، رحلة غابت فيها القيمة المطلقة للإنسان، في ظل استقالة العقلانية والركون إلى الطوطمية والقطعية والاستسلام للقدرية ولأساطير الواقع. لقد قدم الكاتب حدثا استعراضيا في صيغة سرد ملحوظ فكريا، وأعطى من خلاله صورة عن مجموعة من الوقائع والتصورات، ولم يكتف بإسناد مجرد دور الملاحظة والوصف إلى الراوي، بل تعداها إلى وظيفة المناقشة والنقد العقلاني الذي بدا أقرب إلى تنويرية كانط، وأبعد من قدرية سبنغلر وهايدغر. إننا إذا استعرنا لغة المسرح، يمكننا القول إن الكاتب استعرض أمامنا الخشبة والكواليس في آن واحد، فجاءت الصورة درامية ومعلَّلة بعللها ودسائسها. وقد اعتمد الكاتب مبدأ «وداوِني بالتي كانت هي الداء»، حيث واجه الأسطورة بالأسطورة، مما أكسب النص أسطورية مضاعَفة، لكن بغلاف شفيف. طنجة أبريل 2017 هوامش: (1)- "سيرة حمار"، ص: 58- 59. (2)- يوسف محمد بن حسين، "تطور الفكر السياسي عند روجيه غارودي"، المكتب العربي للمعارف، ص: 97. (3)- "سيرة حمار"، ص: 98. (4)- "سيرة حمار"، ص: 100. (5)- "سيرة حمار"، ص: 68. (6)- إرنست كاسيرر، "الدولة والأسطورة"، ترجمة أحمد حمدي محمود، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1975، ص: 372. (7)- "سيرة حمار"، ص: 35. (8)- "سيرة حمار"، ص: 26. (9)- "سيرة حمار"، ص: 56. (10)- "سيرة حمار"، ص: 56. (11)- إرنست كاسيرر، "الدولة والأسطورة"، سابق، ص: 370. (12)- "سيرة حمار"، ص: 66- 67. (13)- "سيرة حمار"، ص: 87. (14)- "سيرة حمار"، ص: 99. (15)- "سيرة حمار"، ص: 95.