مشروع قانون الإضراب يروم حماية الشغيلة والمقاولة وتوسيع الحريات النقابية (يونس السكوري)    الصناعة التقليدية تجسد بمختلف تعبيراتها تعددية المملكة (أزولاي)    هذه أبرز التعديلات المقترحة لمراجعة مدونة الأسرة    حركة النقل الجوي عبر مطارات المغرب ارتفعت ب30 في المائة هذا العام بحسب الوزير قيوح    الدورة العاشرة لمهرجان "بويا" النسائي الدولي للموسيقى في الحسيمة    المغرب فكك 123 شبكة إجرامية تنشط في الهجرة السرية خلال سنة 2024    أزمة عميقة في شباب بلوزداد بعد "سداسية" الأهلي: اشتباك بين نجم الفريق ومدربه    اليوم في برنامج "مدارات" بالإذاعة الوطنية : البحاثة محمد الفاسي : مؤرخ الأدب والفنون ومحقق التراث        تفاصيل الاجتماع الأول لفدرالية الصحافة الرياضية بالمغرب    النسخة الرابعة للألعاب الوطنية للمجندين بالفوج 39 للقوات المسلحة الملكية بجرسيف        الفصائل السورية تتفق مع أحمد الشرع على حل نفسها والاندماج مع وزارة الدفاع    التوفيق يقدم رؤية عميقة حول العلاقة التي تجمع إمارة المؤمنين بالعلماء ويُبرز آليات إصدار الفتوى في حالة مدونة الأسرة    توقيع اتفاقية بين المجلس الأعلى للتربية والتكوين ووزارة الانتقال الرقمي    يوسف النصيري يرفض عرض النصر السعودي            الشبكة الدفاع عن الحق في الصحة تدعو إلى التصدي للإعلانات المضللة        الملك يشيد بالعلاقات الأخوية مع ليبيا    إلغاء التعصيب ونسب الولد خارج الزواج.. التوفيق يكشف عن بدائل العلماء في مسائل تخالف الشرع ضمن تعديلات مدونة الأسرة    أول دواء مستخلص من «الكيف» سيسوق في النصف الأول من 2025    مجلس الحكومة يتدارس أربعة مشاريع مراسيم    "أفريقيا" تطلق منصة لحملة المشاريع    أ. الدشيرة يفوت على ا. يعقوب المنصور فرصة الارتقاء للصدارة    ما أسباب ارتفاع معدل ضربات القلب في فترات الراحة؟    الإصابة بالسرطان في أنسجة الكلى .. الأسباب والأعراض    نظرية جديدة تفسر آلية تخزين الذكريات في أدمغة البشر            مستشار الأمن القومي بجمهورية العراق يجدد موقف بلاده الداعم للوحدة الترابية للمغرب    الإعلان عن تشكيلة الحكومة الفرنسية الجديدة        عودة نحو 25 ألف سوري إلى بلدهم منذ سقوط نظام الأسد    العصبة تكشف عن مواعيد مباريات الجولة ال17 من البطولة الاحترافية    "فيفبرو" يعارض تعديلات "فيفا" المؤقتة في لوائح الانتقالات    الصين تكشف عن مخطط جديد لتطوير اقتصاد الارتفاعات المنخفضة    تركيا: مقتل 12 شخصا على الأقل في انفجار في مصنع ذخيرة    برقية تعزية من الملك محمد السادس إلى أفراد أسرة المرحوم الفنان محمد الخلفي    مختص في النظم الصحية يوضح أسباب انتشار مرض الحصبة بالمغرب    وعكة تدخل بيل كلينتون إلى المستشفى    "بيت الشعر" يقدم "أنطولوجيا الزجل"    المغرب يشارك في أشغال الدورة الأولى لمجلس وزراء الأمن السيبراني العرب بالرياض    موانئ الواجهة المتوسطية: انخفاض بنسبة 17 بالمائة في كمية مفرغات الصيد البحري عند متم نونبر الماضي    اختطاف المخيم وشعارات المقاومة    تقديم «أنطولوجيا الزجل المغربي المعاصر» بالرباط    "سونيك ذي هيدجهوغ 3" يتصدر ترتيب شباك التذاكر    إعلامية فرنسية تتعرض لتنمر الجزائريين بسبب ارتدائها القفطان المغربي    إدريس الروخ يكتب: الممثل والوضع الاعتباري    الأخضر يفتتح تداولات بورصة الدار البيضاء    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سمة "اغتراب" في "سيرة حمار"
نشر في هسبريس يوم 11 - 10 - 2018

«واهم من يعتقد أن "سيرة حمار" رواية تاريخية، وواهم كذلك من يزعم أنها ترتبط بجانب من التجربة الذاتية للكاتب ويقصرها على هذا الجانب»
«أقمنا بليكسوس، وقد أعجبت المدينة صاحب السيرك الذي تسرّى بفتاة قوطية تملك حانة، وكانت مناسبة لنستجم. أرجاء المدينة مليئة بالعشب وجمال الطبيعة. لم أشعر بالجوع، ولكن الملل تسلل إليّ، ثم كانت هناك قضايا وجودية تؤرقني وتقض مضجعي. تفكرت الأتان التي تعرفت عليها في قنة الجبل وخفق لها قلبي، وتذكرت محنة الحكيم ووصاياه التي حمَّلني.. مأساتي هي قدرتي على التفكير. مأساتي هي مشاعري، ولذلك لن أكون حمارا كامل الأهلية.. لم أعد أتلظَّى بماضي الإنساني وحده، بل كذلك بما اقترن بحياتي الحيوانية، فالأتان أضحت جزءا مني، وحِكم الشيخ وصايا حُمِّلتُها في حياتي الحيوانية».(1)
تتعدد صور الاغتراب وأبعاده في كتاب «سيرة حمار»، حتى ليكاد القارئ يجزم بأنه كتاب اغتراب بامتياز، بدءا من الحكاية إلى التاريخ إلى الإنسان إلى القيم الضرورية للوجود الإنساني المتوازن. وهو اغتراب يبدو كأثر لتصدعات وانهيارات في العلاقة العضوية بين الإنسان وتجربته الوجودية في كل أبعادها.
وبالنظر إلى الصورة السردية أعلاه، نجدها تتحرك على إيقاع الهدوء والجفاف السردي والرتابة في الزمن، حيث يسود زمن نفسي يتم اجتراره، بدل استهلاك الزمن الواقعي المعيش بالنسبة إلى الحمار، فالزمن هنا زمن انتظار أملته نزوة صاحب السيرك. ولنا أن نتخيل حجم العبث واللاجدوى حين تتحكم نزوةٌ في الزمن والمصير والحياة.
ولقد جسدت الصورة لحظة مُفارِقة، فيها استجمام وملل في الآن نفسه. وهي تنفتح على مغزى وجودي عبثي، يتعمق أكثر بمنغصات أخرى تتمثل في هموم الحمار الوجودية المتعلقة بالحب والحكيم ووصاياه. وبذلك تبوح الصورة بوضعية اغتراب، هو ليس اغترابا في المكان، بل في النفس والزمن، يتكبده البطل الراوي ويتلظى بجحيمه بسبب قدرته على التفكير الذي تجلى كأنه لعنة واحتراق.
وتتفاقم وضعية الاغتراب أكثر من خلال عبارة «لن أكون حمارا كامل الأهلية»، وهي عبارة لا تعني، في هذا السياق، أن البطل يرفض هذه الوضعية، إنما تعني الأسف على عدم القدرة على أن يكون حمارا تام الحمارية. بذلك تعلن العبارة استسلاما جرّاء العبث والتواجد في منطقة المابين؛ بين الإنسانية والحيوانية، مما يوحي باغتراب فكري إزاء واقع سلبي يشوِّه هوية الإنسان وجوهره، ويقِيم تناقضا بين الماهية والوجود. ولعل هروب البطل السارد إلى الماضي والاحتماء بالذاكرة والتفكير في قضاياه الوجودية، يكشف عن مغزى رومانسي ووجودي موغل في المأساة والإحساس بالاغتراب والعجز أمام وضعية مختلة تتداخل فيها دلالات الإنسان والحيوان، والماضي والحاضر، والاستلاب والعجز. كما أن عبارة «محنة الحكيم» فيها كثير من المفارقة ودلالات الاغتراب، بما تشير إليه من أن الحكمة تعيش محنة ومعاناة. فإذا كانت الحكمة تعاني وتعيش محنة، فتلك إشارة إلى واقع فظيع يفتقد التوازن.
لقد بدا البطل في هذه الصورة وكأنه يعيش شكلا من أشكال السخرة، يجد فيها الكائن نفسه غريبا عن نفسه ومحيطه، تحت تسلط صاحب السيرك الذي ظهر في ثوب إقطاعي، يستغل كائناته لأجل مصلحته، ويجردهم من كينونتهم وزمنهم.
إن وضعية السخرة التي يعيشها البطل، لا تظهر في هذه الصورة فحسب، بل هي ممتدة في النص عبر صور أخرى تبدو منفصلة، لكنها تلتقي عند مغزى الاستغلال البشع للإنسان والكائنات، منها صورة تصف التاجر الذي اشترى أسنوس ليحمل عليه السلع إلى الأسواق البعيدة، إذ نقرأ في سياق وصف هذا التاجر:
«كان مالكي هذا الذي اشتراني شحيحا مقترا، وكان إلى هذا فظا غليظ القلب ولو هو يبدي خلاف ذلك. فهو دائم الابتسامة ولكن عيناه تحدث عن سريرته يتراءى منهما الخبث. كان يرى أنه لكي يضاعف ثروته أن يأخذ أرزاق مستخدميه، ويغش المتعاملين معه، ولم يكن صاحب ذهن ثاقب يصرفه لتغيير سبل التدبير، أو لاقتحام آفاق جديدة، أو التفكير في أنجع السبل للإنتاج. كان يستخدم بعض الحمالين الذين يحملون البضائع للأسواق ويتفق معهم على سعر، فإذا جاء الأداء بخسهم أجورهم...».(2)
تبدو الصورة غير سياقية لأنها تحمل صفات شخصية ليست وظيفية بالنسبة إلى حكاية مركزها مغامرات حمار متحول عن إنسان. لكنها، بالنظر إلى رهانات النص وهدفه الأعلى، في الصميم، لأنها تؤثث للاغتراب الذي ملأ أطوار الحكاية وتعلله بعلله الموضوعية.
وإذا تأملنا الصورة جيدا، نرى فيها حديثا عن مضاعفة الثروة، وعن سبل الإنتاج والمستخدمين والأسواق والأجور، وكلها تشير إلى نمط إنتاجي شرس يقهر الإنسان ويسلبه جوهره الإنساني. ومن هذه الوضعية تنشأ نغمة الإحساس بالعبث، ويتولد اغتراب اجتماعي واقتصادي أشبه بذاك الذي تحدث عنه ماركس في مخطوطاته. وقد أسند الراوي إلى التاجر في هذه الصورة صفات وسمات النظام الرأسمالي.
نفس صور الاستغلال تظهر في الرواية في سياق مغامرات الراوي في قبيلة بني سنوس، حين اقترح على سادن معبدهم أن يدخل بعض الجدة على لغة الحمير يتيح لها أن تفكر بعض الشيء، نقرأ:
«وأنبأني شيئا لم أُقدِّره، وهو أن شيخ الجماعة لا يؤمن بما تؤمن به جماعة بني سنوس، ولا هو يعتبرني صاحب كرامة أو بركة، ولكنه يُظهِر الإيمان بما تؤمن به الجماعة، والجماعة درجت على ذلك منذ سالف الأحقاب، وهو محتاج لذلك لأنه يتحكم في رقاب الجماعة، فهي التي تشتغل لصالحه وهو المستفرد بخيراتها وأموالها وبنيها ونسوتها».(3)
واضح في هذه الصورة والسياق الذي وردت فيه، اقتران دلالات الإنسان والحمير، ويمكن تفسير ذلك بأن ما يميز الإنسان عن الحيوان هو أن الحيوان يتكيف مع بيئته، وكذلك ظهر بنو سنوس في النص متكيفين مع بيئتهم منذ سالف الأحقاب. أما الإنسان فيفترض أنه يسيطر على بيئته بوعي. وتحت وطأة الاستغلال والإقطاع وملامح الرأسمالية التي يعكسها شيخ الجماعة، يصبح الإنسان في مرتبة الحيوان، إذ تتهاوى المرجعية الإنسانية وتحل محلها مركزية حيوانية حمارية، قائمة على أحكام قطعية وردود أفعال. وهذا في حد ذاته شكل من أشكال الاغتراب؛ اغتراب الإنسان عن ذاته وهويته الإنسانية بسبب بنيات اجتماعية مختلة تقهره وتصادر جوهره الإنساني.
لقد استعرض الكاتب في سياقات سردية عديدة الأساس الموضوعي الذي ولَّد أجواء ومشاعر الاغتراب في النص، وهو أساس بدا مرتبطا بالجانب الاقتصادي ونمط الإنتاج السائد، وكذا بالعلاقات الاجتماعية غير المتوازنة، وتجلت وضعيات الغربة عبر ومن خلال البطل السارد، في شكل عجْز عن التأثير أو تغيير أشكال السيطرة والاستغلال ونظام السخرة في صور عديدة، منها فشله في تغيير نمط إنتاج بني سنوس، وعجزه عن ربط علاقات مع زملائه في السيرك، إذ ظلت حيوانات لا تخرج عن الدور الذي رُوِّضت عليه، ومنها كذلك عجزه عن الانخراط في سلك الحيوانية أو التحرر من شرك الحمارية، وغير ذلك من أشكال العجز التي عاشها، وانخرط على إثرها في غربة شاملة.
ومن أشكال الاغتراب التي اتسم بها البطل الراوي الاغتراب عن الأهل بعد أن مسخ حمارا، إذ نقرأ في هذا السياق:
«ونظرت إلى والدي، فرأيته ذاهلا شاردا يخشى أن يكون حاق بي أذى من اختطاف. وكيف لي أن أقول له إن ابنك مُسخ حمارا، وحتى لو أردت، كيف لي أن أفعل، وهل سيُدرك نهيقي؟».(4)
غير خفي ما تحمله هذه الصورة من مشاعر الاغتراب عن المحيط الصغير للإنسان؛ محيط الأسرة والأهل، وهو محيط سيتسع بعد ذلك حين يجد البطل نفسه غريبا عن عالمين؛ عالم الإنسان وعالم الحيوان، حيث نقرأ:
«هل أنا حمار يأتي ما تأتي الحمير أم أنا إنسان؟ أُوطِّن نفسي أن أصير حمارا فيأبى شعور عَلَيَّ ذلك، وآية ذلك أني لا أزال أفكر، وأعي، وأسمع، وأفهم، وأُقرر قرارا أن أظل إنسانا، فأتبين أني لا أستطيع، فلم يعد لي منطق الإنسان ولا مظهره، ولست أستطيع هذه الأشياء البسيطة التي أوُتيَ الإنسان وحُرِمتُها منذ أن مُسخت، لست أستطيع النطق، ولست أستطيع الحب، ولست أستطيع الغضب.. وهب أني أردت الحب، فهل أحب امرأة؟ وكيف لي ذلك، فكيف أعانقها. وكيف أُقبلها، ناهيك عن أشياء أخرى...».(5)
تَرشَحُ الصورة بدلالات المفارقة والتداخل والعجز، فالبطل حائر بين وضعين وهويتين؛ هوية إنسانية وهوية حمارية، فهو حمار يفكر وإنسان لا يستطيع النطق. وفي ذلك أقسى درجات الاغتراب؛ اغتراب الإنسان عن ذاته وجوهره وعن الآخرين، وإذ يجد البطل الراوي صعوبة في تصنيف وضعه، يكون الاغتراب مضاعفا ويتخذ شكل عقاب على حالة خروجه عن الإيديولوجيات السائدة. كما تبوح الصورة باغتراب آخر؛ هو اغتراب عن الليبيدو، أي دوافع الإنسان الجنسية، حين يتساءل الراوي عن كيف يحب وكيف يعانق ويُقبِّل. وهذا النوع من الاغتراب مرتبط بالحضارة ومتطلباتها وكذا بالمجتمع، كما ذهب إلى ذلك فرويد.(6)
وتعددت كذلك صور اغتراب البطل الراوي في عالم الحيوان، منها ما حصل له مع حمار كارما الذي أخذ منه أتانا وركله، وكذلك مع الحمار الذي تزايد عليه بالأكل والنزو وسخر منه هو وجماعته من الحمير، وغير ذلك. وبالمقابل كانت صور غربته عن الإنسان عديدة أيضا، وصلت حدّ الحنق عليه لأنه كان حمارا مختلفا عن بقية الحمير، بل إن الأمر وصل إلى تفكير مالكه في خصيه. كما أن صاحب السيرك ضحى به في مبارزة مع أسد وأراد التخلص منه بشكل مُجزٍ، ثم إن الجمهور استهجنه في البداية في حلبة المبارزة قبل أن يعود ويتعاطف معه بدافع ميله إلى الغلبة، إلى غير ذلك من صور الاغتراب.
ويتبين، إجمالا، أن الاغتراب في النص إنما هو اغتراب عن الذات بالمعنى الوجودي للاغتراب، بما هو نقص وتشويه وانزياح عن الوضع الصحيح، وانعدام التوافق بين الماهية والوجود.
ولقد بدا الوجود مظلما وفارغا من المحتوى الإنساني والمغزى الرومانسي للعيش، في واقع اغترب فيه الإنسان جراء اغتراب القيم الأساسية للوجود المتوازن، منها اغتراب الإنسانية، ، حيث انقطع الإنسان عن طبيعته الأصلية وخصائصه الجوهرية الثابتة، فصار يقوم على أحكام قطعية ومعتقدات أسطورية وشعائر خرافية على أساس أنها حقائق، مثلما هي حال بني سنوس وبني ييس. كما صار عدوانيا يميل إلى القوة والغلبة وإلى الانتشاء بحس اللعبة حتى وإن كانت دموية، مثلما هو شأن جمهور السيرك. وصار الإنسان كذلك ميالا إلى الظلم والتزييف والاستغلال من أجل مصالح خاصة مثلما هي حال الإقطاعيين والسياسيين.
ومن مظاهر الاغتراب الوجودي أيضا اغتراب الهوية، الذي اتخذ بعدا فرديا في قول الراوي: «أكان عليَّ أن أعود إلى وطني لأصبح حمارا»(7)، كما اتخذ بعدا جماعيا، حيث نقرأ في سياق خطبة البطل الراوي التي تخيل نفسه يلقيها: «إخوتي، إننا لسنا طارئين على هذا الرصيد الإنساني، لسنا متسولين، هو جزء منا ونحن جزء منه».(8)
إن الكلام في الخطبة موجه إلى الأمازيغ، وهو يحمل في ثناياه إحساسا بالإقصاء واغتراب العرق في التاريخ والحضارة الإنسانية، وهو اغتراب سيتعزز أكثر خلال محاورات الحكيم للحمار يتحدث فيها عن أقوام سيحلّون، إذ نقرأ:
«قال لي العراف إن أقواما سوف يحُلُّون هنا، وسيمسكون روحنا فنصبح أجسادا بلا روح(...). لقد فهمت من قول العراف، أنهم يريدون أن يوحوا أن لم نكن شيئا مذكورا قبل أن يحلوا، وهذا افتئات كبير وبهتان عظيم. يقال بأن التاريخ يكتبه المنتصرون».(9)
يشير الكلام بوضوح إلى اغتراب الهوية، من خلال بوح الراوي باغتراب العرق في ظروف تاريخية معينة، رغم أن الصورة فيها اختلال سردي، بالنظر إلى السياق العام للنص، سنقف عليه في مقام آخر. وهي صورة تتأرجح بين الماضي والمستقبل وتُحْدث تداخلا بين زمنين متباعدين.
كما تشير الصورة إلى لون آخر من ألوان الاغتراب، هو اغتراب التاريخ إذ يكتبه المنتصرون، في إشارة إلى غياب التاريخ الحقيقي. وقد تجلى اغتراب التاريخ في مواضع أخرى من النص، من خلال زيف السير الرسمية التي نهق عليها أسنوس في حفل تأبينه، وكذا من خلال فضح الحوافز والبواعث المصلحية الذاتية في تفسير الأشياء والوقائع. وتجلى كذلك من خلال زمن الحكاية، حيث هرب الكاتب إلى تاريخ بعيد ليسرد حكايته، بذلك اغتربت الحكاية في الزمن، ولبست لبوس تاريخ آخر، في سياق حجاجي يرمي صاحبه إلى نفض الغبار عن التاريخ الأمازيغي.
وقد شكل اغتراب المثقف أحد أبرز تجليات الاغتراب في النص، وهو اغتراب غطى مساحات مهمة من الحكاية وامتد خلالها، وظهر منذ البداية حين استعرض البطل الراوي أذربال سيرته قبل أن يتحول إلى حمار، إذ نقرأ في سياق سرده لأحوال روما:
«والناس لا تأتم فيها إلا بالمال، حتى ليكاد يكون لكل شخص من رجال السياسة ثمن يشترى به، وأزرى ذلك بعظماء روما من المفكرين والفلاسفة الذين ضاقت بهم سبل العيش واشتدت عليهم منافذ الحياة، فرضوا بضيق الحال، وتحول بعضهم مستشارا لرجال السياسة يمحضونهم النصيحة، ويُدبِّجون لهم
الخطب وفق ما يريد هؤلاء الساسة وما تفرضه ظروف السياسة، لا ما تفرضه الحكمة وما تقتضيه المصلحة العامة».(10)
إن تقريرية الصورة وجفافها يوضحان الحالة التي صار عليها المثقف، كقطعة تُلقَى في دواليب السياسة، في واقع إنساني واجتماعي لا يأتم فيه الناس إلا بالمال والمصلحة الخاصة، وتُهمَل فيه منابع الفكر التي جنحت إلى مجافاة الحكمة تحت قساوة الحياة وضيق سبل العيش، حيث تحول الفلاسفة إلى تعزيز منابع الزيف وخدمة المصالح الشخصية للسياسيين. وفي الصورة إشارة مبطنة إلى وحشية الرأسمالية التي غيرت معالم الأشياء وأحدثت فوضى القيم.
على أن اغتراب المثقف عن الحياة العامة ونبضها يبدو جليا في الصورة الآتية التي وردت كاعتراف، بعد أن استرجع البطل سيرته الإنسانية، حيث نقرأ:
«كانت نفسي في حالة غريبة تريد أن تمسك بتلابيب الحياة كلها، تريد أن توقف كل لحظة من الزمن.. لم أكن أحفل بهذا الذي تموج به الحياة. كنت أنظر إليه بازدراء. كنت أحسبها أخذا لمعارف، وسعيا لمُتع، وجريا وراء حظوة، ولم أُقدِّر أن تكون سفرا في الذات».(11)
طافحة جدا هي مشاعر اغتراب المثقف في هذه الصورة، إذ يبدو الراوي وكأن غشاوة سقطت عن عينيه، كانت تحجب عنه الحياة ونبضها. ولعل عبارة «سفر في الذات» توحي بكثير من دلالات الاغتراب في أشد وطأتها.
إن اغتراب المثقف أدى، جدليا وسياقيا، إلى اغتراب الحكمة، حيث لم تعد مطلبا في الحياة العامة بعد أن طوقتها السياسة بطوق التبعية أو الإقصاء. ويتجلى اغتراب الحكمة في النص من خلال شخصية الحكيم الذي زهد في حياة المدينة واعتزل في الطبيعة واتخذ لنفسه كهفا في قنة الحبل، يحاور الطيور والرياح والأشجار والثمار، ويكشف للحمار عن أمله في أن تشهد عليه العين التي يغتسل فيها، ويناقش الناس والحياة والتاريخ والحقيقة...
ويشير علم النفس والأنثروبولوجيا إلى وجود حالة من الانسجام بين الإنسان والطبيعة، وهو انسجام أبانت عنه علاقة الحكيم بالعالم الموضوعي المحيط به في الجبل. غير أن الاغتراب الذي نقصده هنا ليس في الجبل، بل في المدينة التي كان يعيش فيها الحكيم قبل أن يغادرها ويعتزل الناس بدافع الإحساس بالاغتراب في مكان تغير فيه نشاط الإنسان وقيمه، هروبا من واقع تَسِمه منظومة عمياء لا مجال فيه للحكمة، اضطر معه الحكيم إلى الاحتماء بالنموذج البدئي، في الطبيعة والجبل والكهف.
ومن أشكال الاغتراب التي يكشف عنها النص كذلك، اغتراب الدِّين، فبقليل من الفطنة القرائية ندرك أن الغائب في النص هو الدين، بحيث لم يتم ذكره إطلاقا على امتداد الحكاية، وفي مقابل ذلك، تنامت الطوطمية بكثافة وكذا الطقوس والشعائر. ولن نذهب بعيدا في تأويل ذلك، بحيث يمكن النظر إلى الأمر من زاوية غياب الدين كمحتوى وجودي وحلوله كمحتوى أسطوري شعائري اغترابي، من خلال تصوير الإنسان في الحكاية وهو يعبد آلهة من صنعه، حيث نقرأ قول الراوي:
«وأذهبَ عني دفء المياه المنبجسة في جوف الأرض التعب والوهن أنساني رحلتي عند قوم يعبدون ما اختلقوا».(12)
إن اغتراب الدين بهذا الشكل يعمق اغتراب الإنسان في النص، وكأن الراوي يوحي بأن الإنسان يوجِد فوق ذاته كائنا يتمثله أعلى منه ويتخذه معبودا يدين به، وهذا في الحقيقة أبلغ مظاهر الاغتراب، وقد ظهر في الرواية لدى بني سنوس وبني ييس، وكذلك لدى المثقفين وحيوانات السيرك وغيرهم، واتخذ مع كل فئة مظهرا معينا، بحيث لكلٍّ طوطمُه، فاختلفت المعبودات لكن واقع العبودية ظلَّ واحدا، مع تمايزات عَرَضيّة لا قيمة لها. وفي كل ذلك إشارة شفيفة إلى الطبقية التي أثمرها تمثال المادة الرأسمالي.
في خضم ذلك ينبثق مظهر آخر من مظاهر الاغتراب، يتمثل في اغتراب الحقيقة، وقد أفاض الكاتب في التركيز على الحقيبة وغيابها، بل واغترابها، يقول الراوي:
«ولو قلت لساكنة أليلي إني أذربال، وإني ما أزال على قيد الحياة وأن ليس هناك من عصابة، لنفروا مني لأنهم أنسوا بحقيقة زائفة وضعوها، وأكاذيب تواضعوا عليها ووجدوا فيها مصلحتهم».(13)
وردت هذه الصورة بعد جنازة أذربال وزيف كلمتي النعي، وهي تلخص الحالة التي صار عليها الناس في واقع يغلفه الزيف وتغترب فيه الحقيقة. على أن اغترابها يبدو بصورة عبثية في قول الراوي:
«والحال أن شخصا، عفوا، حمارا يدرك الحقيقة كلها، ولو كلفت المدينة نفسها عناء الاستماع إليه لأبلغها الحقيقة، ولكن من ذا يستمع للحمير».(14)
مرة أخرى تظهر الحقيقة مغتربة، في صورة تدين الإنسان وتجعله أقل من الحمار، لأنه يعرف الحقيقة وهم يصدقون الزيف حول حكاية اختطاف ثيوزيس ومقتل أذربال، التي استغلها المسؤولون لتحقيق أهداف أخرى. وتحمل الصورة دلالات السخرية والتهكم والانتقاد للإنسان الذي تجاهل الحقيقة ومصادرها.
وإلى جانب هذه المظاهر من الاغتراب نجد مظهرا آخر يمكن وسمه بالاغتراب في اللغة، حين نقرأ قول الراوي في سياق رحلته إلى سوق كارما، بعد أن تحرشت به أتان وركله حمار:
«كان شيء ما يعوزني في سيرتي الحيوانية، ذلك أني لم أكن أستطيع التواصل مع الحمير».(15)
لعل كلمة «الحمير» تحمل كثيرا من الرمزية والإسقاط، على سبيل بلاغة التورية. غير أن أهم ما نلتقطه فيها، في هذا السياق، هو الاغتراب في اللغة، حيث يفتقد البطل أسنوس وسيلة التواصل الضرورية للكينونة والوجود. وهو اغتراب ستتسع دلالته مع قول الحكيم في سياق محاوراته للحمار:
«يمكن أن نحافظ على روحنا حتى ولو نسينا لساننا».(16)
إن دائرة الاغتراب في اللغة هنا تلامس الجانب العرقي على اعتبار أن اللسان المقصود في هذا السياق هو اللسان الأمازيغي. غير أن الاغتراب في اللغة يتبلور أكثر بالنظر إلى لغة الكتابة، حيث كُتب النص بالعربية، وهو أمر مفارق بالنظر إلى منطق الأشياء؛ فالحكاية أمازيغية، والتاريخ روماني وكذلك أرقام الفصول، والبناء الدرامي المأساوي إغريقي، ولغة الكتابة عربية. هذا ما يضفي على الحكاية اغترابا على مستوى اللغة، ويطرح أسئلة حول مغزى هذا الاغتراب وأهدافه التخاطبية.
وجاءت اللغة مفرغة من المجاز، إلا في جمل قليلة حملت مجازا عقليا، انسجاما مع النزعة العقلانية التي اتسمت بها الحكاية، مما يوحي بأن اللغة لم تُستثمَر كأداة للإبداع، بل كوسيلةٍ للتبليغ ليس أكثر، وهذا في حد ذاته مظهر آخر من مظاهر اغتراب اللغة الروائية، إلى جانب مظاهر أخرى تجلت في استثمار أشكال عدة من الخطاب، جعلت اللغة الروائية تبدو غريبة بفعل قوة التناص الذي غلفها. ولنا عودة إلى ذلك في محور مستقل لأنه أمر حاسم في تحديد هوية هذه الرواية، واستشراف أبعادها.
وتبعا لاغتراب اللغة، فقد اغتربت الحكاية أيضا وانكسرت سرديتها، على إيقاع اغتراب الذات وانكسارها. حيث إن سردية الحكاية تمردت على زمنها ومكانها، حملت نفسها واغتربت، فجاءت في صورة حمار خاض رحلة في الذات، في تشاكل زمكاني بعيد هو موريتانيا الطنجية إبان الحكم الروماني، غير أنها انفلتت وامتدت إلى تشاكل زمني لاحق لتلك الفترة، بدليل كثرة الاقتباس من القرآن، وكذا استعمال جمل على إيقاع المقامة، واستثمار السيرة، وغير ذلك مما يعطي للحكاية امتدادا في الزمن. ولعل لهذا الامتداد وظيفة نصية إذ يوحي بالتداخل بين زمنين وواقعين، كما سنرى في محور لاحق، إلى جانب أنه يعزز اغتراب الحكاية.
ثم إن السفر في الذات يجسد اغترابا كذلك، هو اغتراب عن المكان الأصلي، بما يعبر عن انسداد المعابر المؤدية إليه، كما أنه اغتراب في الزمن، من خلال الهروب إلى التاريخ لتجديد الحميمية مع الأصل.
ومن المظاهر البارزة للاغتراب في النص، اغتراب الولادة، حيث نقرأ في صورة وردت في سياق عودة البطل إلى سيرته الإنسانية:
«نظرت إلى جسدي فإذا هو يحمل ندوب مرحلتي الحمارية حيث مبارزتي للأسد. إنسان أنا يولد من جديد. إنسان أنا يولد ذاته من ذاته، من دون قابلة لأنه قابلة نفسه».(17)
تبوح الصورة بمشاعر الانتشاء والتطهير جراء استرجاع البطل سيرته الإنسانية، استرجاع ليس بمنزلة بعث، وإنما بمنزلة ولادة جديدة، في صورة توليد ذاتي. وهي بذلك، ولادة غريبة ومغتربة تعاكس الديالكتيك، لأنها ولادة من غير أب ولا أم ولا قابلة. ولقد أدرك هيجل أن التوليد الذاتي للإنسان هو عملية اغتراب وتحرر من الاغتراب في آن واحد(18). إذ يعبر عن اغتراب الذات عن الوعي وعن استرجاع الوعي بالذات، من خلال تَبيُّن موارد الزيف وسقوط الغشاوة.
إن الانتشاء بالتوليد الذاتي ينطوي على دلالة الانتشاء بالتحرر والاستقلال والبناء والوعي بالذات، هو ذات الوعي الذي قاد البطل الراوي في رحلة الأَوْبة بعد تحرره، حيث صادف ذئابا وكلابا وطيورا وضباعا، وتعامل معها بوعي. وهي صور فيها كثير من الرمزية والإسقاط والذاتية، مما يجعلها مستعصية على الاختراق النقدي.
الواقع أن الاغتراب في «سيرة حمار» يمكن أن يكون موضوعا لبحث مستقل، نظرا لشساعته وغنى مرجعياته الفكرية، حيث تتعدد صنوف وأشكال وتجليات الاغتراب في النص، وقفنا على بعضها وضاق المقام عن إيراد البعض الآخر، من قبيل اغتراب العلم والوعي والحرية والحب والعدل، وغير ذلك من القيم التي التقطها الراوي في وضعية اغتراب داكن.
وقد صور الكاتب اغتراب الإنسان في حُلّة اغتراب تاريخي مرتبط بعلاقته بالوجود، فالاغتراب كما بدا في النص، ما هو إلا صراع الإنسان مع أبعاد وجوده؛ الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، من أجل تحديد موقف من التاريخ. غير أن الاغتراب ظل ملازما للبطل ومحيطه حتى بعد استرجاعه صورته الإنسانية. وذلك أمر طبيعي، فقد قال البعض بأن تاريخ اغتراب الإنسانية هو تاريخ بحثها عن الحرية والحقيقة...
شفشاون- شتنبر 2017
هوامش:
(1)_ حسن أوريد، سيرة حمار، منشورات دار الأمان، الرباط، ط3- 2015، ص 96-97.
(2)_ نفسه، ص: 41.
(3)_ نفسه، ص: 55.
(4)_ نفسه، ص: 25.
(5)_ نفسه، ص: 28-29.
(6)_ عن: فؤاد كجي، الاغتراب، موقع الحوار المتمدن (http://m.ahewar.org)
(7)_ سيرة حمار، ص:29.
(8)_ نفسه، ص:37.
(9)_ نفسه، ص:75-76.
(10)_ نفسه، ص10.
(11)_ نفسه، ص:121.
(12)_ نفسه، ص:70.
(13)_ نفسه، ص:40.
(14)_ نفسه، ص:26.
(15)_ نفسه، ص:45.
(16)_ نفسه، ص:83.
(17)_ نفسه، ص:119.
(18)_ عن: حيدر حاج إسماعيل، معلومات حول مفهوم الاغتراب: نشأته، وأبرز من تناولوه بالبحث (maktaba.amma.com)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.