تعزز المشروع الفكري والثقافي للأستاذ حسن أوريد بصدور عمل سردي جديد عند مطلع السنة الجارية ( 2014 ) تحت عنوان " سيرة حمار "، وذلك في ما مجموعه 126 من الصفحات ذات الحجم المتوسط. ويمكن القول إن هذا العمل النثري يشكل حلقة منسجمة مع سياقات تبلور الرؤى الثقافية في مقاربة قضايا الهوية الجماعية لمغاربة الزمن الراهن، حسب ما عكسته الأعمال السابقة للمؤلف، وعلى رأسها كتاب " الإسلام والغرب والعولمة " ( 1999 )، ورواية "الموريسكي" ( 2011 )، ثم ديوان " يوميات مصطاف " ( 2012 ). هي حلقة تقدم قراءة تركيبية لمعالم مشروع ثقافي، انشغل به صاحبه واهتم بتأثيث معالم تميزه بالكثير من عناصر الدقة والعمق، لتشريح المضامين واستثمار التراث الجماعي المادي والرمزي وإعادة قراءة حمولات التاريخ، الواحد / المتعدد، واستلهام معالم الخصب والتجدد في مكونات الهوية المشتركة التي صنعت المغرب الثقافي والاجتماعي والذهني، ثم السياسي لمغاربة القرون الطويلة الماضية. وبهذه القوة التفكيكية في مقاربة الموضوع، استطاع حسن أوريد الانتقال إلى التفاصيل، حيث تنهض عوالم، وتنتصب سياقات، وتتفاعل حمولات حضارية، لتصنع كل هذا الخصب في الذاكرة الجماعية وفي التراث الرمزي لمغاربة المرحلة. لا يتعلق الأمر بكتابة استقرائية أو تأريخية لوقائع محددة في زمانها وفي مكانها وفي سياقاتها، بقدر ما أنها استلهام إبداعي لمضامين ثقافية أفرزها التلاقح الحضاري الذي عرفه " المغرب التاريخي " بين مكتسبات إنسانية شتى، اغتنت داخلها القيم المشتركة للعوالم المتوسطية، بضفافها المتعددة وبأصولها المختلفة، الأمازيغية والعربية الإسلامية والإفريقية والأندلسية واليهودية ... أضف إلى ذلك، فقد استندت الكتابات الإبداعية لحسن أوريد ذات الصلة بهذا الأفق، إلى رؤى فلسفية ومعرفية رصينة، نجحت في الجمع بين مكتسبات علوم إنسانية عدة، مما وفر للمؤلف الزاد المنهجي الضروري لتفكيك الخطابات والموروثات والوقائع، ثم إعادة تركيبها في إطار نسقي علمي أصيل أكسب صاحبه عناصر الاحترام، وجعل أعماله الإبداعية، نثرا وشعر وتنظيرا، تلقى ترحيبا استثنائيا داخل مجال تلقي المعرفة والإبداع بمشهدنا الثقافي الراهن. ولعل هذا ما جعل مجمل أفكار الأستاذ أوريد تنجح في توسيع دوائر الصدى لدى الرأي العام وتثير الكثير من أشكال المتابعة والقراءة والتأويل، وأقصد ? في هذا المقام ? مجمل مقالاته التحليلية المنشورة في المنابر الإعلامية الوطنية حول قضايا الزمن المغربي الآني، والتي ظلت تثير الاهتمام بجرأتها الكبيرة على اختراق الطابوهات، وبعمقها النظري المتماسك، وبأرضيتها المعرفية الصلبة المؤطرة لمجمل الأفكار والاجتهادات التي دافع عنها الأستاذ أوريد في قضايا متشابكة داخل اهتمامات مغاربة المرحلة، مثل قضايا الهوية والعلاقة بالآخر والتجربة الكولونيالية والعلاقة مع إسرائيل ... باختصار، فالأمر يتعلق ? في نهاية المطاف ? برؤى عميقة، تنتج الأفكار وتصنع البناء النظري لتفكيك قيم التاريخ. وعلى أساس ذلك، أمكن القول إن استيعاب عمق البناء النظري لحسن أوريد لا يستقيم إلا باستحضار كل الحلقات الموصولة في رصيد المنجز الفكري لهذا المفكر الذي أضحى علامة بارزة على توهج الزمن الثقافي المغربي الراهن. لكل ذلك، يبدو أن رواية " سيرة حمار " تشكل استمرارا لمعالم النبش في أرصدة العطاء الحضاري التي تصنع تعدد عناصر الهوية الثقافية للمغرب، دولة ومجتمعا. إنها تعزيز للجهد التنقيبي الكبير الذي أفرز رواية " الموريسكي "، وللاستلهام الجمالي الذي أنتج ديوان " يوميات مصطاف "، ثم للرؤى النسقية التي نضجت مع " مرآة الغرب المنكسرة ". وإذا كان حسن أوريد قد اختار، في رواية " الموريسكي "، النبش في حضور المكون الأندلسي داخل نظيمة الهوية الثقافية المغربية التاريخية، فقد اختار في نص " سيرة حمار " العودة للاحتفاء بالأصول الأمازيغية للدولة المغربية وللمجتمع المغربي المزيج، حسب التعبير الأثير للسوسيولوجي المغربي الراحل بول باسكون. فالرواية، بهذا البعد، تشكل توظيفا راقيا لخصوبة عطاء مسار تشكل العناصر الناظمة للعمق الأمازيغي الواسع داخل سيرورة تكون الدولة والمجتمع المغربيين عبر الزمن الطويل المدى بمحدداته العلمية التي بلورها المؤرخ فرنان بروديل، رائد مدرسة الحوليات الفرنسية. لا يتعلق الأمر بتقوقع شوفيني حول يقينيات مطلقة، ولا بنكوص هوياتي مطمئن لمسلماته، ولا بانخراط في استثمار مظاهر التدافع الهوياتي القاتل الذي يطغى على الساحة الثقافية والسياسية الوطنية الراهنة، بقدر ما أن الأمر يظل مرتبطا برؤى تخييلية تحسن الإنصات لنبض التحولات الحضارية الكبرى للدولة وللمجتمع المغربيين، قديما وحديثا. هي عين المفكر التي تحسن التقاط التفاصيل، تفاصيل الهامش لتعيد تأثيث معالم البناء النظري الذي حددنا منطلقاته أعلاه. لذلك، أمكن القول إن نص " سيرة حمار " يشكل اختزالا لمعالم التميز داخل عالم حسن أوريد الثقافي والفكري والإبداعي حسب ما توضحه المنطلقات التأصيلية التالية : أولا ? ينهل متن " سيرة حمار " مضامينه المؤطرة لملكة فعل التخييل من معطيات تاريخية وجغرافية مرتبطة بعوالم منطقة شمال إفريقيا القديمة، شمال إفريقيا الموغلة في التاريخ والمتفاعلة مع العوالم المتوسطية، وعلى رأسها العوالم الإغريقية والرومانية والقبطية والوندالية ... وداخل هذه السياقات، تنهض قصة البطل أذربال الذي دفعه عشقه لثيوزيس إلى السعي للتحول إلى طائر، لكن الخادمة حاتبوت، العشيقة الحقيقية، وقعت في خطأ كبير، دفعت ثمنه باهضا بأن تحول أذربال إلى حمار، في حالة من المسخ شكلت أرضية لكل تضاريس السرد. وقد لخص حسن أوريد طبيعة هذا التحول من عالم الإنسان إلى عالم الحيوان في كلمة استهلالية جاء فيها : " نظرت في مرآة، فإذا أنا حمار كامل الأوصاف لا أختلف عن الحمير إلا في شيء أضحى مصدر معاناتي هو قدرتي على التفكير، إذ كان الأمر سيهون لو حرمت التفكير وعشت حياة الحمير لا أختلف عنها في شيء، والحال أني سوف أعيش وسط الحمير حمارا يأتي ما تأتي ويحمل من الأثقال ما تحمل، ويختلف عنها في شيء، قدرته على التفكير، ويؤلمه أن لا يحسن التعبير عما يجيش به صدره من أحاسيس ويمتلئ به من رؤى. وها هنا تبدأ مغامراتي ... " ( ص ص. 21 ? 22 ). ثانيا: ارتباطا بالملاحظة الأولى، ظل نص " سيرة حمار " يستلهم مقومات الهوية الثقافية الناظمة للانتماء الحضاري المشترك لمغاربة القرون المتعاقبة، في ما يمكن قراءة من خلاله رؤى المؤلف لتفاعل النقاش الهوياتي وانزياحاته التي يحفل بها مشهدنا الثقافي وواقعنا السياسي للفترة الراهنة. في هذا الإطار يقول حسن أوريد : " لقد طوفت أرجاء عدة لأقول لكم إخوتي إنا تأثرنا بحضارات عدة مثلما أثرنا فيها، وأن لا خطر يتهدد شخصيتنا العميقة من هذا التفاعل. إن الخطر كل الخطر، أن نختزل تلك الشخصية في جانب ونصدف عن التجربة الإنسانية التي أتيحت لنا من الحضارة الفرعونية فالإغريقية والرومانية وقبلها الفنيقية. إخوتي إننا لسنا طارئين على هذا الرصيد الإنساني، لسنا متسولين، هو جزء منا ونحن جزء منه. إن الأمم العريقة هي التي لا تخشى الانفتاح ولا تتأذى من التلاقح، أما تلك التي تروم ما تزعم من صفاء فيتهددها الذبول، بله الفناء ... هناك شيء يجمعنا، إخوتي، هناك سدى حضاري نشترك فيه، تتحول بؤرته من مكان إلى آخر من بحر الرومان، كما ينتقل القمر في دورته، ... " ( ص. 39 ). ثالثا ? استنادا إلى هذا النزوع الهوياتي في الاحتفاء بالفضاءات الأمازيغية القديمة لبلاد المغرب، حرص المؤلف على استلهام هذا البعد من خلال العديد من الإشارات الدالة من التراث الرمزي الأمازيغي ومن نظم الحياة المحلية ومن الوقائع التاريخية المحددة. في هذا الإطار، يمكن الاستدلال بالتوظيفات الطوبونيمية الدقيقة للكثير من المواقع الجغرافية التي يحفل بها النص، مثل بناصا وليكسوس وتنجيس وسبتوم وتمودا ...، بل وكان يقدم شرحا دقيقا لدلالة أسماء الأماكن في ما يمكن أن يعتبر عطاء راقيا لحقل علم الطوبونيميا المرتبط بالطفرات الهائلة التي تعرفها مناهج البحث التاريخي المعاصر. ولعل في الشرح الدقيق الذي قدمه لمصطلح تطاون ( ص. 108 ) والمرتبط بالعيون الكثيرة المتفجرة، أو بمصطلح الليمس ( ص. 19 ) المرتبط بجهود الرومان لإنشاء الجدار العازل للمناطق الخارجة عن السلطة الرومانية بشمال إفريقيا، خير دليل على هذا المنحى. رابعا ? ارتباطا بهذه التوظيفات الخاصة بأعلام الأماكن وبذاكرة الفضاء العام، نحى المؤلف نحو توظيف وقائع تاريخية، من خلال استلهام أسماء وأعلام وتجارب، وإدراجها داخل سياقات السرد. ويمكن أن نستشهد ? في هذا المقام ? بالتوظيف المسترسل لوقائع تطور أوضاع منطقة " تامزغا " انطلاقا مما كتبه المؤرخ اللاتاني سالوست من تدوين تأريخي لوقائع " حرب يوغرطة " (ص.75)، أو من خلال استحضار أعلام دالة وسير تجارب مميزة في تاريخ منطقة شمال إفريقيا القديم، مثلما هو الحال مع تجارب تكفاريناس الذي قاد المقاومة المحلية ضد الاحتلال الروماني ابتداء من سنة 17 م ( ص. 72 )، أو مع تجربة سبارتاكوس التي تبلورت في شكل ثورات عارمة للعبيد ضد نظام حكم روما خلال فترات زمنية محددة من القرن الأول قبل الميلاد ( ص. 72 )، أو مع استحضار اسم الملك يوبا الذي قتل سنة 46 قبل الميلاد وتوظيف هذا الاستحضار في سياقات المتن التخييلي ( ص. 122 ). إنه توظيف لعطاء "درس التاريخ " لتشييد صرح متن تخييلي متماسك، بمضامين إنسانية عميقة تعيد الاحتفاء بالتاريخ الأمازيغي وبإسهاماته الإنسانية الواسعة والمتشعبة. خامسا ? استلهاما للملاحظة السابقة، كان المؤلف حريصا على ربط المضامين التاريخية المنبثقة من التراث الحضاري الأمازيغي بقيم إنسانية عميقة وبمواقف فلسفية حاضنة. في هذا الإطار، ينهض نص " سيرة حمار " على أسئلة وجودية دالة، مثل القضايا الفكرية والعقائدية المرتبطة بالوجود وبالذات. يقول حسن أوريد : " الناس تمر على الأشياء دون أن تلاحظ شيئا. الناس تحسب الحقيقة جامدة، تلقن أو تحفظ .. الحقيقة اكتشاف دائم، هي مدى مطابقة فكرة للواقع .. في مساجلات سقراط، يحسب الناس الحقيقة ما سمعوا أو لقنوا، فإذا أعملوا عقلهم ألفوا أن ما يعتقدون ليس الحقيقة. والمعتقدات هي الأفكار العامة التي يرتبط بها مجتمع، ولكنها ليست بالضرورة الأفكار التي يمكن أن يتقدم بها، بل قد تصبح وزرا تصده عن الحركة. المعتقدات تملكنا، والأفكار ملك لنا ... " (ص. 73 ). سادسا ? تأسيسا على هذا البعد، حرص المؤلف على وضع التقابلات الضرورية بين عوالم الإنسان من جهة وعوالم الحيوان ممثلة في ما سماه "بالمنظومة الحمارية " ( ص. 92 ) من جهة ثانية. وفي الكثير من حالات هذا التقابل، أعاد أوريد قراءة خصائص الذات البشرية في نكوصها، في تقابل مع سمو الظاهرة الحيوانية. يقول في الصفحة رقم 85 : " فأي قيمة للحيوان أو الإنسان ألا يبقى منهما سوى صورتهما، ولم يحملا مادة الحياة، ولم يخصبا. والتخصيب أنواع، وأرقى التخصيب هو ذلك الذي يقيمه الإنسان بعقله ليغير واقعا، والعنة أشكال عدة كذلك، وهي كل شكل من أشكال العجز والخنوع والاستسلام ". ويضيف موضحا تمظهرات حالة التنافر بين الواقع البشري و"السمو " الحيواني، قائلا : " وقد تبينت أن كثيرا من بني الإنسان أنفسهم لا يختلفون عن هذا الحمار ... وأنهم يقيسون الحياة فيما يملكون، ويجعلون غايتهم النيل من متعها والظفر بمتاعها. ومن العسير الحديث مع هؤلاء أو السعي في إقناعهم. ومن العسير كذلك الحديث إلى من يحملون معتقدات، فإما أن تحمل ذات المعتقدات، فتعزز رأي مخاطبك، وإما تخالفه، فيعرض عنك ويرميك بكل شائن ويؤلب عليك صحبه، ولا هو يستطيع أن يرى في الأمر اختلافا، لأن الاختلاف لا يكون إلا في الفكر ... " ( ص ص. 92 ? 93 ). إنها رحلة بين عوالم المتناقضات لدى الإنسان والحيوان، رحلة أو " سفر في الذات "، حسب تعبير المؤلف ( ص. 120 )، لفتح الأعين على الحياة وغناها .. على بؤسها وشقائها .. على نبلها وجمالها .. باختصار، هي رحلة لإعادة اكتشاف الحياة، عبر إثارة الأسئلة المقلقة في جهود تفكيك إشكالات الهوية والانتماء .. الأصل والآخر .. الماضي والمصير ثم المستقبل. " سيرة حمار " بعمقها الهوياتي التاريخي وبعبقها الفلسفي الوجودي، تكتسب كل شروط تفكيك عناصر الخصب المشتركة بين مغاربة الزمن الراهن، عبر مرآة الزمن الماضي.