«سيرة حمار» عنوان مثير لآخر الأعمال الأدبية التي أنتجها الكاتب حسن أوريد. باختصار شديد، إنه عمل يستحق القراءة والنقد معا. فهو يقدم رؤية أخرى إلى الإنسان المغربي، من خلال العودة إلى أصوله التاريخية، التي شكلت هويته الراهنة. إنه عمل مفتوح على كل القراءات، بما في ذلك تلك التي قد تُدخل حسن أوريد في عاصفة أخرى من ردود الأفعال. يعود الروائي والباحث حسن أوريد، الذي أثار جدالا كبيرا منذ بداية الربيع المغربي إلى اليوم، بعمل أدبي، اختار له عنوانا مثيرا هو: «سيرة حمار». وهذا العمل عبارة عن سيرة فكرية في قالب سردي، يقدم الكاتب من خلالها عصارة نظرته إلى الإنسان المغربي، إلى رصيده الإنساني دون أن يغفل عن نزوته الحيوانية، وإلى وجوده وكينونته دون أن يمسك عن الخوض في أبعادها التاريخية والكونية، التي شكلت هويته وذاته الراهنة. لابد من الاعتراف أن كتاب «سيرة حمار»، الذي صدر ضمن منشورات دار الأمان، يختلف عن الأعمال الأدبية التي أصدرها أوريد من قبل مثل: «الموريسكي»، «صبوة في خريف العمر»، أو «الحديث والشجن». ففي هذا العمل، يدشن أوريد انتقالا إلى زاوية أدبية أخرى تمتح، في الحقيقة، من الواقع الراهن، لكنها تجعل من الماضي السحيق، حيث تذهب أبعد من زمن الموريسكيين، لتغوص في زمن تشكل المغرب. إنه زمن المغرب الروماني. تروي «سيرة حمار» قصة أذربال، ابن بوكود يوليوس، الذي تربى في أحضان مدينته أليلي عاصمة موريتانيا الطنجية. وتعلم الفلسفة اليونانية، واطلع على المعارف الإغريقية، وحذق الألسنة الأمازيغية واللاتينية والإغريقية. لكنه ما اشتد عوده واكتملت معارفه، حتى مسخ حمارا بسبب صبوة في حضن ثيوزيس، زوجة أوكتافيو حاكم المدينة. لكن ستتناسل مع هذا المسخ جملة الأسئلة الوجودية الحارقة، التي تربك القارئ، وهو يحاول أن يرسم صورة شمولية عن هذا العمل. وهي تتمحور في مجملها عن السلوك الحيواني في الإنسان. تفيد القراءة الأولية لهذا القصة أن حسن أوريد يتوخى من هذه القصة أمرين اثنين: الإجابة عن جملة من الأسئلة التي تلاحقه منذ مدة غير يسيرة، من قبيل: من أنت؟ وما موقفك من مسألة السلطة؟ وكيف تنظر إلى الهوية الأمازيغية؟ ولم غيرت موقفك من الإسلاميين؟ إلى غير ذلك من الأسئلة، التي أجاب أوريد عن الكثير منها في ندوات عدة. أما الأمر الثاني، فيكمن، كما توحي بذلك القراءة الأولية دائما، في توجيه مجموعة من الرسائل السياسية إلى من يهمهم الأمر، مثلما سيتبدى من المقتطفات التالية: «داعبني في فترة شعور الانغمار في السياسة، وقصارى أمري لو فعلت أن أظفر بلقب يفرض علي الخطاب الذي ينبغي أن أتلوه فلا أخرج عنه، وهل يستطيع الساسة أن يخرجوا من خطاب مرسوم سلفا؟ هل يستطيعون أن يروا أبعد مما تتيحه مصالحهم، أو ما تفرضه تحالفاتهم من أجل منصب، أو عهدة أو لقب؟ لذلك صدفت عن كل ذلك كله لأقول لكم الحقيقة، وقد تكون مرة، وهي أن أذكركم بما أنتم» (ص. 38)، «ألا ما أظلم الإنسان وما أعماه عن الحق، فهو لا يحكم إلا بالهوى»، (ص. 63)، «السبع لا يستطيع أن يكون سبعا من دون قرد» (ص. 94)، «مأساتي هي قدرتي على التفكير» (ص. 95)، «سفري بداخل نفسي هو الذي فتح عيني على الحياة وغناها» (ص. 120)، وغير ذلك من المقتطفات، التي يمكن الاستعانة بها هنا من أجل تغذية هذه القراءة. لكن تجاوز هذه القراءة السطحية للعمل سيساعد على تشكيل رؤية نقدية أكثر كثافة مما تكشفه سيرة أوريد نفسه في مغالبته السلطة، التي كان طرفا فيها. إذ العمل مفتوح على أكثر من قراءة، أو لنقل على تعددية مداخل القراءة، حيث لن يساعد الاكتفاء بواحد منها في كشف الرموز، وفك الألغاز، التي يغتني بها هذا العمل: رموز الأسماء الأمازيغية والأمكنة الجغرافية والتاريخية، وألغاز التداخل بين الأبعاد الأمازيغية والفرعونية والرومانية/ اللاتينية والأفريقية والفنيقية في تشكل الذات. إذ نقرأ في الصفحة 37: «لقد طوفت أرجاء عدة لأقول لكم إخوتي إنا تأثرنا بحضارات عدة مثلما أثرنا فيها، وأن لا خطر يتهدد شخصيتنا العميقة من هذا التفاعل. إن الخطر كل الخطر، أن نختزل تلك الشخصية في جانب ونصدف عن التجربة الإنسانية التي أتيحت لنا من الحضارة الفرعونية فالإغريقية والرومانية وقبلها الفنيقية. إخوتي إننا لسنا طارئين على هذا الرصيد الإنساني، لسنا متسولين، هو جزء منا ونحن جزء منه.» ولعل عدم تجنيسه ضمن جنس أدبي معين يعزز هذا الطرح. ذلك أن الكاتب إنما أراد لعمله أن يكون مفتوحا على كل القراءات والتأويلات. ومن هنا، فلا ينبغي أن يحصر السيرة/ الرواية الفكرية في جانب إيديولوجي وسياسي ضيق، بل يجب أن يقرأ قراءة أدبية نقدية تروم الوقوف عن خصائصها الفنية والجمالية وبنائها الأسلوبي ومسحتها الخيالية ولغتها الشفافة الأنيقة. كما لا ينبغي أن تنتزع من سياقها الأدبي أو من زمنها التخييلي، لتوظف في إسقاطات رخيصة وتافهة. بهذا الاختيار، يمكن لهذا العمل الأدبي أن يمتع القارئ في قراءته.