لا شك أن التفكير في قضايا نكبة الموريسكيين تحتل مكانة مركزية في جهود باحثي المغرب المعاصر المهتمين بإعادة تجميع شتات العناصر الناظمة لنسق الهوية المغربية المركبة. ولا شك أن تفكيك هذه العناصر ورصد سياقاتها التاريخية يظل أمرا محوريا لفهم ميكانزمات التلاقح أو التأثير والتأثر المتبادلين بين مكونات البنية المحلية غير المتجانسة للمجتمع المغربي وبين الحمولات الطارئة التي حملتها مختلف تيارات الهجرة التي قصدت بلادنا على امتداد القرون الطويلة الماضية. ورغم أن موضوع القضية الموريسكية قد نال الكثير من الاهتمام في الإسطوغرافيات الأوربية الكلاسيكية والمجددة، وخاصة بالدولتين الإيبيريتين المجاورتين، فإن المجال مازال بكرا داخل حقل التراكم المعرفي والعلمي والإبداعي الوطني المعاصر. فباستثناء الدراسات التصنيفية والتجميعية المركزية التي أنجزتها ثلة من الباحثين المغاربة المعاصرين الذين انفتحوا على عطاء العمق الأندلسي للهوية المغربية، من أمثال المؤرخ البحاثة محمد بن عزوز حكيم والدكتور امحمد بن عبود والأستاذ محمد رزوق والباحث حسن أميلي، فإننا لا نجد إلا شذرات موزعة على دراسات قطاعية يحضر فيها المكون الأندلسي أو الموريسكي كعنصر مؤثث للفضاء العام أو كفاعل طارئ على سكون الذات المغربية وعلى أنماطها السلوكية والذهنية المتوارثة. ولعل من العناصر الدالة في هذا الباب، بروز حالات التنافر داخل خطابات الهوية المتصاعدة المنتشية بخصوصياتها والمحتفية بأصالتها، وهي الخطابات التي أضحت تجد امتدادات واسعة لها داخل مجال تلقي نزوعات « الشحن « الهوياتي المنتصر ليقينياته ولطوباويته المفرطة في بعدها النزوعي الوظيفي الموجه. ومع ذلك، فقد بدأت تتبلور رؤى رصينة، أكاديمية في الغالب، بدأت تعيد الأمور إلى نصابها من منطلقات علمية سمحت بتوسيع دوائر البحث في تركيبة مختلف السياقات التاريخية والحيثيات السوسيولوجية التي تتحكم في ضبط أوجه التساكن الحضاري الذي يميز بنية الهوية الثقافية والاجتماعية المغربية الراهنة، البنية الواحدة / المتعددة، المختزلة لعطاء قرون طويلة من التلاقح المتواصل بين عطاء حضارات مختلف الشعوب والأقوام المتساكنة على ضفاف البحر الأبيض المتوسط بعمقيها الإفريقي والأسيوي الواسعين. في إطار هذا التوجه العام، كان لابد أن يثير موضوع القضية الموريسكية اهتمام نخب المغرب الراهن، ليس بهدف استحضار الكليشيهات النوسطالجية النمطية، ولا من أجل التباكي على ماضي لن يعود صنعته « الجنة المفقودة « ببلاد الأندلس، ولا بقصد تأجيج خطابات التنافر مع جيراننا الإيبيريين، ولكن - أساسا - من أجل إعادة الإنصات للنبض العميق للتراث الموريسكي، المادي والرمزي، الذي مازال يرخي بسلطته الثقافية على الكثير من نظمنا المعيشية المادية المباشرة وكذلك على الكثير من الحمولات الثقافية والتمثلات الفكرية والدلالات الرمزية التي تشكل عناصر تراثنا الرمزي والذهني الحضاري المميز. ومن هذه الزاوية، أضحى البحث في خبايا هذه الحمولات، موضوعا متجددا بامتياز، لا شك وأنه يستحق أن يكون مجالا للدرس وللتداول العلمي والفكري وللاستثمار الإبداعي والتخييلي قصد تحقيق التصالح التاريخي والحقيقي مع « ذاكرتنا الجماعية «، وقصد توفير العناصر الارتكازية والأدوات الإجرائية الكفيلة بالتأصيل لمنطلقات تفكيك العناصر التركيبية لمكونات « الذاكرة التاريخية « لمغاربة الأمس واليوم. ويمكن القول إن نص رواية « الموريسكي «، لمؤلفها حسن أوريد، والصادرة سنة 2011، في ما مجموعه 219 من الصفحات ذات الحجم المتوسط، تستجيب لهذا الأفق العام في البحث وفي التنقيب وفي التصنيف وفي الاستثمار. فالعمل يستقي مادته الأساسية من سيرة أحمد بن قاسم الحجري الغرناطي الأندلسي الملقب بشهاب الدين أفوقاي، وهي السيرة التي استطاع صاحبها اختزال أهم محطاتها في كتاب « ناصر الدين على القوم الكافرين «، وذلك عقب فراره من الأندلس بعد ازدياد وقع مخاطر متابعات محاكم التفتيش. فالتحق بالمغرب وانتظم داخل بلاط السلطان السعدي أحمد المنصور الذهبي، واضطلع بمهام رسمية سامية واعتبارية بالنظر لوضعه كعالم وكمثقف متشبع بالمكونات الإسلامية والمسيحية التي صنعت شخصية المثقف الموريسكي لمرحلة عقود القرنين 16 و17 الميلاديين. لذلك، فالعمل يشكل استحضارا دقيقا للسيرة الشخصية والذهنية لأفوقاي، ولمستويات حضور النكبة الموريسكية في مختلف تقلبات حياته باعتبارها ظلما كبيرا تعرضت له فئات عريضة من السكان الأندلسيين في سياق تصاعد خطاب التعصب الديني المسيحي ونزوعات « تطهير « إسبانيا من آثار « الكفار «، حسب ما بلورته الوصية الشهيرة للملكة إيسابيلا الكاثوليكية. فعبر مختلف المهام التي اضطلع بها أفوقاي، سواء داخل البلاط أو في إطار مهامه الديبلوماسية بكل من فرنسا وهولندا، ظلت الشخصية المركزية في الرواية تحمل تبعات ذلك الجرح الدامي الذي لم يلتئم ولم يستطع أن يتكيف مع تغير الأحوال ومع تبدل واقع الحال في مختلف محطات حياة أفوقاي، بدءا باستقراره بمدن مراكشوسلا، ومرورا بكل من باريس وأمستردام وتلمسان وبلاد الحجاز، وانتهاء بواحة توزر الواقعة بالجنوب التونسي حيث اختار الاستقرار النهائي إلى أن فارق الحياة. لم يستطع أفوقاي أن يتخلص من « لعنة الطرد « ولا أن يؤسس لمشروع وطن بديل، على الأقل في ذهنه وكما كان يتخيله. فقد جاء غريبا وعاش غريبا ومات غريبا، وارتبطت هويته وشخصيته بمعالم الغربة والتنافر مع وسطه الإسباني / المسيحي أولا ثم المغربي / المسلم ثانيا. ولقد عبر المؤلف، على لسان أفوقاي، عن حصيلة هذا المسار بلغة دقيقة، قال فيها : « تعرضنا للثلب من كلا الطرفين. كنا بالنسبة للقشتاليين مسيحيين سيئين ونحن مسلمون سيئون بالنسبة لبعض المورو، ولم يتح لنا، في الحالتين أن نعبر عن أنفسنا « ( ص. 218 ). ولتوضيح السياق العام الذي انتظمت في إطار بنية النص السردي لرواية « الموريسكي «، يقول حسن أوريد في مقدمة عمله : « من المادة المتاحة في كتاب أفوقاي، صغت شخصية روائية أملأ منها فراغات نص صاحبها .. صغت رواية تقف عند المأساة التي تختلط في أذهان الكثيرين ممن رحلوا بعد سقوط غرناطة مباشرة أو قبلها .. لا يعرف كبير أمر عن مأساة الموريسكيين وإن يشهد الواقع في الآونة الأخيرة اهتماما بهذه المأساة ... لقد كان الموريسكيون ضحايا ما يمكن أن نعبر عنه بالتطهير العرقي ... كانوا أول تعابير التطهير العرقي الناتج عن قراءة « صافية « للمسيحية. كانوا إرهاصا لما سوف تعيشه شعوب مسلمة أخرى في سياق جزر الحضارة الإسلامية. كانوا فلسطينيي ذلك العصر، مثلما يجوز أن نقول إن المأساة الفلسطينية هي نسخة من مأساة الموريسكيين. ولذلك تسائلنا المأساة الموريسكية، وبخاصة أنها مجهولة أو تكاد إلا من معلومات عامة ... نعم، تصرفت في حياة أفوقاي، ووظفت المادة التاريخية، مع احترامي لسداها، لأني أكتب رواية. فالجانب الذاتي حاضر قوي في هذا العمل. فعملي هذا ليس حكيا لسيرة أفوقاي، ولا هو تأريخ للموريسكيين بالمعنى الدقيق للتأريخ .. هو رواية استقيت مادتها من التاريخ، ومن مأساة إنسانية، لأعبر عن قضايا راهنة .. فالموريسكي، في نحو من الأنحاء هو « نحن « المرحلون من ثقافتنا الأصلية، ومن دفعنا إلى ثقافة « المهجر «، وتوزعنا بين الإثنين ... « ( ص ص. 7 - 9 ). إنها كتابة « أخرى «، تحسن الإنصات لنبض التحولات التاريخية، قصد تطويعها مع مستجدات المرحلة لتحقيق الفهم الأمثل لإبدالات مأساة الموريسكيين ببلاد المغرب. ويمكن القول إن النص العربي لرواية « الموريسكي « الذي قام بتعريبه عبد الكريم الجويطي، قد استطاع الاستجابة لهذا الأفق العام في التحليل وفي التجميع وفي التركيب. فأثمر متنا سرديا فريدا من نوعه، نجح في الجمع بين ثلاثة مكونات محورية صنعت ريادته السردية، ارتبط أولها بالنهل من معين الذاكرة التاريخية الجماعية المشتركة لفئة الموريسكيين المغاربة، واهتم ثانيها بتطويع ملكة فعل التخييل بأبعاده الإبداعية الواسعة، وارتبط ثالثها بتوظيف ممكنات لغة سردية راقية ساهمت في إضفاء بعد جمالي واسع على مضامين النص وارتقت به من مستوى المعالجة التقريرية المباشرة إلى مستوى السمو الإبداعي الذي يتيح للذات الكاتبة فرص الخلق والابتكار والتجديد. هي - باختصار - محاولة لملء بياضات سيرة أحمد أفوقاي عبر قيم مرجعية، نجحت في القبض بتلابيب الخيط الرفيع الناظم للعلاقة المؤطرة لصنعة كتابة الرواية ولحدود توظيف عطاء الكتابة التاريخية المتخصصة. وللاقتراب من سقف هذا المنحى المجدد في توظيف العلاقات القائمة / والمفترضة بين الكتابة الروائية / التخييلية والتاريخية / العلمية، يمكن الاستشهاد بمجموعة من المرتكزات المؤطرة لمتن نص « الموريسكي «، ففي ذلك اختزال لآفاق هذا البعد حسب ما طوره حسن أوريد، على غرار ما أنجزه من سبقه من رواد هذا المجال، من أمثال المؤرخ عبد الله العروي والدكتور أحمد التوفيق في نصوصهما الروائية التي تنهض على خلفية تاريخية تحكمت في بنية السرد وفي سقف الإبداع داخل منجزهم الإبداعي، مثلما عكسته نصوص مؤسسة مثل « الغربة « و « اليتيم « و» جارات أبي موسى « و «السيل « ... تتوزع هذه الملاحظات على الشكل التالي : أولا - استطاع المؤلف إعادة تقييم مجمل مسار السيرة الذاتية الخطية التي تقلب عبرها أحمد أفوقاي، من خلال إعادة تجميع تفاصيل أوجه محنة الموريسكيين عقب طردهم الجماعي من بلاد الأندلس. ولم يكتف المؤلف بترديد الروايات المتداولة عن ظروف هذا الطرد وعن حيثياته المتداخلة والمرتبطة بتنامي المواقف العدائية الإسبانية تجاه « الآخر « الإسباني، وهي المواقف التي جعلت إسبانيا تفرط في جزء من ساكنتها وفي مكون من مكوناتها الحضارية وفي رافد من روافد تناسقها المجتمعي لمرحلة نهاية العصور الوسطى ومطلع العصور الحديثة. ويلخص حسن أوريد ثقل المعاناة النفسية التي تكبدتها الساكنة الموريسكية، بامتدادات ذلك على مصيرها المتراوح بين واقع المسيحية وظلال الإسلام، عندما يقول : « كم كانت ستكون إسبانيا عظيمة لو أنها احتضنت يهوديها ومسلميها. ألم يكن من بين اليهود أطباء كبار وبنكيون كبار ؟ ألا يتميز الموريسكيون بكدهم وتفانيهم في العمل ؟ ألم يكونوا صناعا حاذقين لمهنهم ؟ فمحاكم التفتيش بتر وتشويه، وبالتالي تفقير ... كان القشتاليون يريدون استئصال «جرثومة» الموريسكيين وإلى الأبد ... كيف يمكن لملك أن يضحي بجزء من شعبه ؟ هل بإمكان أم أن تتخلى عن أولاها ؟ حتى لو كان هؤلاء الأولاد نتيجة اغتصاب ؟ كانت محاكم التفتيش، رغم مظالمها، تسمح لنا بحيز يمكننا من الحركة والانفلات من العقاب الجماعي. لقد أتاحت لنا عبقريتنا، ومصالح الأسياد، والتناقضات داخل الكنيسة، وبين الكنيسة واللائكيين أن نخلق فضاء للبقاء. كان بإمكاننا أن نداهن، وبإمكاننا، في حدود معينة، أن نقوم بتراجعات على أمل انفراج ما، وفي يوم ما سنمارس معتقداتنا بحرية، وسيتقبلنا المسيحيون القدامى كما نحن، ولن يكون علينا أن نحمر خجلا من إسلامنا ولا من أولئك الذين تحولوا للمسيحية .. لكن وعوض الانفراج وقعت العاصفة التي ذهبت بكل شيء ... « ( ص ص. 124 - 126 ). لقد ذهبت العاصفة الكاثوليكية المتطرفة المنتشية بنتائج « حروب الاسترداد « بكل المكتسبات الإنسانية لمسلمي إسبانيا، لترسم معالم التمثلات المتبادلة التي وسمت مجمل مسارات تاريخ الضفتين الشمالية والجنوبية للبحر الأبيض المتوسط، بأحقادها وبصورها النمطية وبتوجساتها اللامتناهية التي مازالت ترخي بظلالها على العلاقات المغربية الإسبانية إلى يومنا هذا. ثانيا - لم يكتف المؤلف باستنطاق سيرة أحمد أفوقاي، ولكنه كثيرا ما كان يستفيض في الانفتاح على الوقائع المحددة للمرحلة التاريخية التي يغطيها الزمن التاريخي للرواية، والذي يشمل - بشكل خاص - فترة حكم كل من السلطان السعدي أحمد المنصور وولده زيدان. من ذلك، على سبيل المثال لا الحصر، اهتمامه بإبراز نظم الدولة السعدية خلال عهد أحمد المنصور، سواء على المستوى الإداري أو العمراني أو العسكري ( ص. 82 ). ويمكن أن نذكر كذلك، اهتمامه باستخلاص العبر من كارثة وباء الطاعون الذي كان السلطان أحمد المنصور - نفسه - أحد أبرز ضحاياه سنة 1603 م. ولم يكتف بتوظيف حيثيات هذا الحدث وتأثيراته على الوضع الديمغرافي بمغرب القرن 17 م، بل تعداه إلى طرح رؤاه التأملية العميقة في نزوات الملك، وفي حدود سلطة النفس البشرية المتمكنة من رقاب الناس، وفي ضعف الإنسان - أي إنسان - أمام ملكوت الموت الذي يسائل ضميرنا باستمرار. يقول حسن أوريد : « فالطاعون الذي هرب منه، هو الذي وضع خططا لتجنبه : تحركاته، أطبائه، ترياقه وأدويته ... ومات بما كان يهرب منه. من شأن حشرجاته وقيئه وبصقه الدم أن تذكره بما كان قد نسي : وضعيته ككائن بشري، له مهمة نبيلة وجسيمة لكنها ليست ملكية ولا إقطاعية. مات بابا أحمد ( المنصور ) لكنه ترك نمطا من الحكم سيبقينا رهائن، نمط سنقتتل فيه، ونعمد على شل بعضنا البعض. ولن نقوم بشيء عظيم منذ انقطعت الصلة مع الشمال، منذ أن تم وأد روح هذه الأرض بالأكاذيب والأراجيف ... انس الفتح العسكري شهاب الدين، فالفتح الحقيقي الذي علينا أن ننجزه هو ضد الشر الساكن بدواخلنا، الشر الجماعي الذي ينخرنا ... « ( ص. 113). وعلى نفس المنوال، ظل المؤلف يعيد طرح الكثير من الوقائع التاريخية للمرحلة المعنية، مركزا على تجميع التفاصيل وعلى تحليل سياقاتها وعلى توظيف أبعادها ودلالاتها في سياق مناظراتي متشعب، يعيد تركيب الأحداث وفق منطق القارئ الفاحص للدلالات وللأبعاد الوجودية المنفلتة من بين متون مظان الكتابات التأريخية الحدثية الكلاسيكية المتوارثة. من بين هذه القضايا التي أثارت اهتمامه الواضح، يمكن أن نستشهد بتفاصيل نهب القراصنة الإسبان لمكتبة السلطان زيدان ونقل محتوياتها إلى قصر الإيسكوريال بعد أن قدمت كهدية للرهبان الإسبان ( ص. 169 ). وهناك كذلك، قضية القرصنة، أو الجهاد البحري، التي اشتهرت بها مدينة سلا خلال القرنين 16 و17 م، أو ثورة الفقيه ابن أبي محلي التي هزت مجموع بلاد المغرب خلال مطلع القرن 17 م، وصراع أبناء المنصور الثلاثة على السلطة بعد وفاة والدهم، وهو الصراع الذي لخص السارد أبعاده بشكل تركيبي دقيق جاء فيه : « المستقبل مظلم، ثلاثة أبناء يتطلعون للحكم، سيتكالب بعضهم على بعضهم ويمزقون البلد إربا إربا. والمأساة هي أن لا أحد منهم هيء للأمانة العظمى، ويتصورون السلطة إرثا وليس عهدا. فالمامون يشبه والده، فهو ماكر، وحازم، ويميل إلى الشهوات مثله. أما زيدان فرغم أنه مثقف لكنه مليء بالحقد. وأبو فارس يعيش داخل قوقعته، يأكل وينام، وينام ويأكل وحين يصحو لنفسه يقول بأن الجن تسكنه. لا أحد منهم بإمكانه قيادة البلد. سيلجؤون للمرتزقة الذين سيتحكمون فيهم كدابة ذلول، ولن يترددوا، من أجل السلطة، أن يستنجدوا بالترك أو الإسبان متناسين كل دعاوى الإسلام في أمر الجهاد أو اعتبارات الاستقلال ... « ( ص. 105 ). وإلى جانب ذلك، ظلت المحنة الموريسكية تجد تعبيرات مختلفة عنها داخل نظيمة الحكي، وتتجدد بانسياب السرد، وتتلون بتلون إبدالات واقع المغرب الذي لم يحقق المراد لهذه الفئة من المضطهدين. فكان التعبير عن الخيبة قاسيا، واجترار الألم تعبيرا عن واقع الغربة وعن الانكسار وعن اليأس من واقع لن يعيد للموريسكيين كرامتهم ولن ينتقم لهم من ظالميهم. يقول المؤلف في هذا الإطار : « لدي إحساس بأننا، نحن الموريسكيين، اللعنة التي أصابت الأمة الإسلامية ... مع كل هذا الوهن الذي يرين على دار الإسلام، سيضطهد أقوام آخرون ويقتلون ويطردون من ديارهم، ظلما مثلنا. ولن يكون لديهم من يعولون عليه ... « ( ص. 114 ). ثالثا - كثيرا ما نحى السارد نحو قضايا فلسفية أو وجودية في ارتباط مع تحولات واقع المغرب خلال القرنين 16 و17 الميلاديين، في علاقة ذلك بعطاء نخب المرحلة أولا، وبطبيعة التغيرات التي كان يحبل بها واقع الدولة والمجتمع ثانيا، ثم في علاقة كل ذلك بمجمل التغيرات الشاملة في الرؤى وفي المواقف وفي موازين القوى بين المغرب وأوربا، بين « الأنا « المتقوقع حول يقينياته و « الآخر « المتطلع إلى اختراق المرحلة في سياق تحولات النظام المركنتيلي لفجر العصور الحديثة بأوربا. من بين هذه القضايا التي طفت بين ثنايا السرد في سياقات حكواتية ناظمة، يمكن أن نستشهد بقضايا التيار اللوثري الذي أحدث الانشقاق الكبير داخل بنية الكنيسة الكاثوليكية ( ص. 131 )، وعلاقة الدين بالعلم ( ص. 131 )، وعلاقة الدين بالسياسة ( ص. 175 )، إلى جانب مناقشات السارد ومناظراته المفتوحة مع أصحاب العقائد اليهودية والمسيحية من موقعه كفقيه وكعالم مسلم، كانت له فرصة الاطلاع على النصوص الدينية المسيحية في لغاتها الأصلية ( ص. 133 ). وفي نفس السياق، كان السارد يقدم مقاربات مقارناتية غنية بين نصوص دينية إسلامية وتفسيراتها العميقة، بالارتكاز إلى معرفة دقيقة بالديانتين اليهودية والمسيحية، بل ويوظف هذه المعرفة لتفسير بعض مضامين نصوص قرآنية محددة، مثل التفسير الذي قدمه لدلالات مضامين سورة الفاتحة بالقرآن الكريم ( ص. 143 ). ويمكن أن نستشهد كذلك بقراءاته الاستدلالية أو النقدية لمضامين الكتابات التاريخية، سواء منها التحليلية / التركيبية مثلما هو الحال مع إحالته على بعض مضامين مقدمة ابن خلدون ( ص. 91 )، أو النقدية / التحفظية من مضامين الكتابات التأريخية الحدثية الرسمية حسب ما كان يجسدها عبد العزيز الفشتالي الذي كان يعتبر مؤرخا رسميا للدولة السعدية خلال عهد حكم أحمد المنصور ( ص. 96 ). رابعا - لم يتردد المؤلف في استغلال كم هائل من الإحالات الارتكازية في الكتابة التاريخية المنهجية، مثلما هو الحال مع تشريحات علم الطوبونيميا التي تعتبر أداة لاستنطاق معالم المكان وربطها بمجمل التطورات المجالية واللسانية للجهات وللأقاصي، نستشهد في هذا الباب بألفاظ هنتاتة وهشتوكة وزرهون وتالات ... كما كان حريصا على توظيف رصيد هائل من الألفاظ والدلالات المستقاة من قاموس اللغة المخزنية المتوارثة عن القرون الماضية، مثلما هو الحال مع ألفاظ أفراك، والبنيقة، والحركة، والرقاص. وسواء فيما يتعلق بالمعطيات الطوبونيمية أو بالألفاظ المخزنية، ظل المؤلف حريصا على تدقيق النظر في الدلالات، وعلى الكشف عن الأصول اللسانية والتداولية وعن مستويات تراوحها بين اللسان العربي واللسان الأمازيغي من جهة، وبين التأثيرات التركية والإيبيرية الطارئة من جهة ثانية. وإضافة إلى كل ذلك، يزخر المتن بإحالات عديدة إلى نصوص داعمة، ساهمت في تعزيز ضرورات السرد، مثلما هو الحال مع الآيات القرآنية الكريمة والأبيات الشعرية والنصوص الإنجيلية وسير أعلام المرحلة سواء من نخب مغرب القرن 16 م، أو من الشخصيات الدينية والسياسية والفكرية لأوربا خلال نفس المرحلة. خامسا - استطاع السارد أن ينزوي بالمتن بعيدا عن ضرورات التتبع الخطي للوقائع وللأحداث، لكي يفتح نافذة أرادها أن تكون مشرعة على حميمياته، مواقفه، رؤاه الشخصية تجاه شريط الأحداث التي كانت تمر أمام عينيه. بمعنى أن النص يتيح إعادة استنطاق « الوجه الآخر « لشخصية أحمد أفوقاي، وفق كشف باطني عن أسرار المعاناة الدفينة التي ظل يحملها معه حيثما حل وارتحل. إنها معاناة شخص انتزع من وسطه الحميمي ومن تربة بيئته الفطرية ، وجد نفسه موزعا بين ارتباطه العاطفي بمكانه الأصلي وبين ضرورات التكيف مع واقعه المغربي الجديد. وفي سعيه الحثيث نحو إنجاح هذا المسعى، وجد أفوقاي نفسه يراوح مكانه كحلقة وصل بين المسيحية والإسلام، باحثا عن نقاط التلاقي الممكنة وراصدا للقطائع التي رسختها شروط التدافع التاريخي بين العالمين الإسلامي والمسيحي خلال المرحلة المعنية. وارتباطا بنفس الموضوع، اهتم السارد بالكتابة عن تجربته الغرامية المثيرة التي ربطته بامرأة فرنسية اسمها أوجيني، التقى بها خلال زيارته لباريس، وجعلته يعيد النظر في الكثير من مواقفه المسبقة تجاه العقيدة المسيحية. في هذا الإطار، يقول راصدا هذا التأثير : « لقد تبينت بأن القرب الجغرافي، بالنسبة لجماعات دينية تكره بعضها البعض ليس ضمانة للمعرفة المتبادلة، وبالأحرى الاحترام. كنا، مسلمين ومسيحيين، جيران في أرض الأندلس، ولكن العداوة التي كانت تطبع علاقتنا، جعلت كل معرفة متبادلة مستحيلة. إن حبي لأوجيني هو الذي حطم الأفكار المسبقة التي تغشي نظرتي ... « ( ص. 156 ). وعلى غرار ذلك، أصبح السارد ينحو نحو « تمرير « مواقفه عبر قنوات وسطه الحميمي، مثل الموقف من الخمر الذي ورد على لسان أوجيني عندما قالت : « يقول لك الأخ بولس، الإثم هو ما يخرج من الفم لا ما يدخل فيه « ( ص. 155 ).وفي إحالة تركيبية دقيقة، استطاع السارد اختزال معالم المؤثرات التي أثرت / وصنعت شخصية أحمد أفوقاي عبر علاقته الحميمية بشخصيتين مركزيتين في الرواية، هما صديقه الحميم أنتاتي ومعشوقته أوجيني. يقول بهذا الخصوص : « إن الشخصين اللذين غيرا نظرتي للأشياء اختفيا وإلى الأبد، أنتاتي وأوجيني، أدين للأول بإعمال العقل الذي سحب عن العالم كل ما يتمسح به من أساطير وأوهام وأراني حقيقة ما يجري أمامي، وأدين للثانية بالحب الذي رتق عالما خلا من الأساطير ومنحه معنى .... « ( ص. 215). وعلى أساس ذلك، استطاع السارد أن يعيد تلقيح رؤاه لواقعه ولتفاعلات هذا الواقع سواء داخل سيرورة تكون الدولة والمجتمع المغربيين أو في علاقة هذه السيرورة بمضامين الموروثات الدينية المقدسة ولتمثلاتها للأنا وللآخر، للواقع وللمآل، للنبل ولليوطوبيات. يقول موضحا هذا المآل : « إن المسار الذي قطعته ليس سوى طريق من بين طرق عدة. وبإمكان اليهودي والمسيحي والبوذي والماأدري أن يسلكوا مسارات مختلفة لنلتقي، كلنا، مهما كانت سبلنا، في حضرة حب سام. فالدين بالنسبة للذي يبحث عن كنهه سبيل للارتقاء. ويكون فظيعا حين يصير سندا للهوية لأنه، إذاك ينحصر في رفض الآخر وثلبه، وهكذا، وباسمه يتم القتل والإبادة والإحراق والنهب ... لقد عشت مثالب محاكم التفتيش ومساوئ الجهاد، الجهاد الأصغر. فباسم محاكم التفتيش أخرجنا من ديارنا، وباسم الجهاد أراد المرابط العياشي إبادة سكان سلاالجديدة ... « ( ص. 215 ). ... وبعد، فهذا هو شهاب الدين أفوقاي « الآخر «، وهذه معالم سيرته الذهنية، نجح حسن أوريد في تطويع مظانها وفي استنطاق خباياها وفي تجديد قراءات عطائها، سواء في مستوياتها المرتبطة بالتجربة الشخصية لصاحبها أو بأشكال تفاعله مع محيطه المغربي والإيبيري الواسع. إنها استثمار راق لمواد تاريخية قصد تفعيل ملكة التخييل، بشكل أمكن من خلاله استكمال الجوانب المعتمة في سيرة أحمد أفوقاي. وفي الحقيقة، فالأمر يتعلق - في نهاية المطاف - بسيرة جيل كامل اكتوى بنار التطرف الديني الكاثوليكي ودفع ثمنا باهظا عن ذنب لم يرتكبه، ربما أخطأ الموعد مع التاريخ وكان قدره أن يشهد تداعيات الانقلاب العميق في موازين القوى بين العالمين المسيحي والإسلامي عند مطلع العصور الحديثة. لذلك أمكن القول إن الأمر يتجاوز سيرة أفوقاي في سياقاتها الخطية الحصرية الضيقة، ليقدم قراءات جريئة في مجمل القضايا الهيكلية التي تفسر الأزمات البنيوية للدولة المغربية خلال العصور الحديثة، بلغة تخلص لمنطق التتبع والرصد التحليليين لمظاهر هذه الأزمات ولجذورها البعيدة، وكذا لضرورات تشغيل فعل التخييل باعتباره أساس الكتابة الروائية التي يحتفي فيها المؤلف بأبطاله وبشخوصه وبمواقفه وبقراءاته لإبدالات الزمن الماضي وبإسقاطات ذلك على الواقع الراهن. هي - إذن - كتابة تفكيكية تسمح لصاحبها بفتح مساحات واسعة من الحرية ومن الجرأة، قصد التعبير عن ما لا يمكن التعبير عنه في سياق الكتابة التاريخية في معناها العلمي التخصصي الضيق. باختصار، هي كتابة نجحت في الاحتفاء بالسيرة الذهنية لأحمد أفوقاي، وفي إثارة الانتباه لعمق المواقف والتمثلات التي ظلت تنتظم في إطارها مجمل رؤى المغاربة تجاه الجار الإسباني وتجاه عناصر التنافر التي ظلت تطبع علاقتنا بهذا « الجار المقلق «، بالأمس واليوم.