برواية " الموريبسكي " يطرق مفكر من الجيل الحاضر، باب تاريخ المغرب ليستقرئه، مثل ما فعل من الجيل الأول للرواية المغربية، عبد العزير بن عبد الله في "هضاب الريف"، وعبد المجيد بن جلون في " وادي الدماء"، وعبد الرحمان الفاسي في زيارته العابرة "للكاهنة". انتقل بنا حسن أوريد عبر " الموريسكي " إلى ما بعد وادي المخازن، ليقوم بإطلالة على المغرب وهو ينتقل من السادس عشر إلى السابع عشر، و يتوسع جنوبا في اتجاه السودان الغربي، ويستقبل فوجا آخر من مسلمي الأندلس، ويعيش - رغم اضطراباته التي لا تهدأ قط، إلا لفترات قصيرة - تجربة فريدة أسسها أحمد المنصور الذهبي لإقامة دولة سبقت إلى فصل الدين عن السياسة الخارجية، وبدلا من الاقتصار على التحرك في المتوسط، أصبحت بعد غزو المغرب للسودان ذات بعد إفريقي، حيث اكتسبت ورقة لملاعبة كبار العالم وقتئذ. ومن خلال التوازن بين العثمانيين وإسبانيا، ابتدع المنصور مفهوم " الواقعية السياسية "، الذي جعل منه صديقا لجيرانه الشماليين، ومتحالفا مع أعدائهم الإنكليز، دون أن يغفل عن مراودة الفرنج والهولنديين، ودون أن يكون عدوا لواحد منهم. يدعونا حسن أوريد إذن إلى أن نشهد كيف تم زرع " الشجرة " الشهيرة. هذا هو المسرح الذي يأخذنا إليه المؤلف، أما المسرحية فهي فن الحكم كما مارسه داهية هو المنصور الذهبي، مؤسس المخزن المغربي المعاصر. ونرى كيف تعامل الرجل بقساوة احترافية مع من كان وضعهم القدر في منطقة رؤيته. إلا أن هناك بطلا حاضرا في متن الرواية من البداية إلى النهاية، هو مهاجر أندلسي حل بمراكش في 1598. وقد قام هذا البطل بدورين في الرواية. الأول هو أن يذكرنا بمأساة الموريسكيين الذين اضطروا إلى أن يتركوا وراءهم ذكرياتهم في أرض أجبروا على تركها. والثاني هو أن يقودنا إلى مغرب القرن السابع عشر، بتخبطاته، وبأحلامه التي علمت المغاربة فيما بعد، أن يتعاملوا مع أوضاعهم ومع العالم بواقعية. أي ذلك المغرب الذي كان مصنعا أطلق منتوجا هو الذي نعيشه حتى اليوم. لقد تراءت للموريسكي ذي العين المفتوحة، مشاهد كان عليه أن يذعن لها، وهو القادم من العدوة الشمالية بمعنويات من فر بدينه، وشعر بنشوة عارمة حين وجد نفسه وهو عند روابي أزمور يتلو الشهادة جهرا وبحرية، أمام أشقاء في الملة. وحتى مغادرته لأرضه، و أثناء مقامه في البريجة البرتغالية، التي كانت منطلقه للقفز إلى بر المسلمين، كان يعيش بهويتين، هو في المظهر مسيحي اسمه بيدرو، وفي السر مسلم اسمه أحمد. يتعلق الأمر بأفوقاي نفسه، ذاك الذي سبق أن قرأنا مخطوطه الذي حققه محمد رزوق في 1987، ورأينا فيه أن الرجل مشغول فقط بأن يبين رجاحة أن الإسلام هو المتفوق على الدين كله. وكان المخطوط وهو " ناصر الدين على القوم الكافرين " محررا بعربية سليمة هي التي تلقاها أحمد (بيدرو ) بن القاسم أفوقاي، عن والده بمسقط رأسه، (الحجر الأحمر) في حصص كان لابد أن تتم خفية عند انبلاج الفجر. ولكنها لغة مشوبة بدارجة مغربية أندلسية، تفضح نفسها حينما يقول أفوقاي: نمشوا، وآخور، وولينا، وقوله " مانفتش إلا هم". ومن خلال أفوقاي الذي أصبح اسمه في المغرب هو شهاب الدين، ندخل بلاط المنصور، حيث اشتغل الرجل ترجمانا. وترك أفوقاي بياضات في كتابه، صرح أوريد بأنه ملأها بالتخييل، ليصنع منه شخصية تؤمن الاستمرار، وتتولى رواية ما كان يتوالى أمامه من مشاهد وتجارب ووقائع. ويتعدى الأمر بلاط المنصور، فننتقل معه إلى زمن خلفه زيدان، حيث يقوم أفوقاي/شهاب الدين بمهمة في هولنداوفرنسا، ويخوض في مناظرات مع " القوم الكافرين " هناك. ويكتسي دور الراوية أهمية فائقة حينما يتوجه صاحبنا إلى سلاالجديدة، التي أوى إليها بنو جلدته من المطرودين زمن فيليبي الثالث. وقد ذكر القادري في " نشر المثاني " أنه في 1007 (موافق 1598/1599) خرج من بقي من المسلمين في بلاد الأندلس، " ألوف حلوا بفاس، وألوف بتلمسان، وجمهورهم في تونس، وتسلط عليهم الأعراب ومن لا يخشى الله، في الطرقات ونهبوا أموالهم، ونجا القليل من هذه المعرة " ص 145 ، ج 1. وفي المراحل الثلاث التي اجتازها شهاب الدين، (مراكش، أوربا، الرباط) يتجلى لنا موريسكي ماسك بعقيدته مثل حامل جمرة. وهو إذ يخالجه السرور لوجوده في وسط إخوته في الدين، ليس في وسعه ألا يحن إلى مرابع صباه. أما رفيقه " خايمي " الذي صاحبه في الفرار، فإنه بدون مواربة، أفضى له بأن يرى أن مواطنيهما الجدد في مراكش، هم مسلمون لكنهم ضعاف مثله في ممارسة الشعائر. ولم يتوان عن القول إنه ربما كان خيرا له أن يبقى في بلده. وحدث أنه عندما وقع الطرد الأكبر تجمع عدد وافر من الأندلسيين في الضفة اليسرى من نهر أبي رقراق، ونادوا بني جلتهم إلى التجمع هناك، ونظموا صفوفهم، وأقاموا جهازا لتسيير شؤونهم سموه الديوان، تألف من رؤسائهم، وهو مجلس سمته الكتابات الأوربية " جمهورية سلا ". وقد رحل إلى هناك شهاب الدين، حيث عايش تلك التجربة المثيرة، لمجتمع صغير مستقل بنفسه، اعتبرت العامة في باقي المغرب أنه يتكون من " مسلمي الرباط "، الذين لهم أمزجة وطقوس وتصرفات تميزهم. وكان الرابط فيما بينهم الشعور بالحنق على من طردوهم من ديارهم، وجعلوهم يتشتتون في الجزائروتونس والقسطنطينية و غيرها من البلدان. وكان الكثير منهم قد تعرضوا للنهب، كما ورد في مخطوط أفوقاي، وكما أوضحت وثائق وقف عليها د. الحسين بوزينب من أوراق سيمانكاس. ومن خلال مشاهدات شهاب الدين في سلاالجديدة، نسجل أن القادة الذين استبدوا بأمرهم هناك، كانوا مثل عامتهم مواطنين إسبانا، هم نتاج أرض إسبانية، ولو كان حصل التمازج بينهم وبين مواطنيهم المسيحيين لنشأت تركيبة أخرى، كما يقول أوريد على لسان شهاب الدين. والحق أن تلك المجموعة كانت تشكل ظاهرة معقدة، كما نفهم مما ورد على لسان الموريسكي ريكوطي، في الفصل 54 من ضون كيخوطي حيث يحدث ريكوطي مخاطبه صانشو بانثا، خديم الكيخوطي، بأنه ذهب إلى فرنساوألمانيا وشمال إفريقيا ولكنه عاد إلي بلده للحفر على كنز يضم كل مدخراته النفيسة. واشتكى ريكوطي من القرار الذي صدر من الملك " في حق أمتنا ". ويقول إن الموريسكيين لم يجدوا معاملة طيبة إلا في ألمانيا التي أخذت تتميز بالتسامح لأن حرية العقيدة سائدة هناك. ومن خلال ريكوطي نجد التعبير عن الحنين إلى الوطن، (هكذا باللفظ) ويجري على لسانه الحديث عن الانتماء إلى أمة (باللفظ أيضا، ويعني المجموعة الموريسكية) والعجيب أنه يصرح بأنه مسيحي، وإن كان يعترف بأن زوجته وابنته أكثر مسيحية منه. وهو يذكر ذلك لبيان شرعية حق "أمته" في العودة إلى "الوطن". أي أن الدافع هنا وجداني في العمق. ويقول أوريد على لسان رودياس، الزعيم الأندلسي في سلاالجديدة الذي علق على إعلان كراسكو إسلامه: المهم أن يبقى أندلسيا، وليكن دينه ما أراد. ويجري على لسان رودياس هذا، أنه يدعو بني جلدته إلى عدم الاندماج في المورو، ساكنة البلاد التي تم الجوء إليها. ولكن شهاب الدين يرى أنه ليس هناك بد من الاستسلام للقدر الذي أراد أن يجعل من الموريسكيين " لعنة أصابت الأمة الإسلامية ". بكى شهاب الدين لدى وقوفه على هذه الملاحظة، وقال لرفيقه خايمي: ليست هناك عودة، فالمورو ( المغاربة ) لن يتركوه يغادر، والإسبان سيقتلونه إذا وصل. قدمت هذه اللوحة عن موريسكيي المغرب، على اللوحات الأخرى في الرواية، لأنها تتضمن الرسالة الأساسية للرواية، وهي أن الوطن مقدم على العقيدة، و أن مأساة الموريسكيين التي صنعتها معتقدات أصولية منغلقة سادت في إسبانيا أثناء قرون خلت و يجب ألا تتكرر، وألا يسمح بأن تتكرر، لأن الشعوب يجب أن تتقبل التنوع، و الأوطان يجب أن تتسع لكل من يتعلق بها. كأن الكاتب يحثنا هنا على التفكير في الأحوال الراهنة. ومن الناحية الزمنية، تصادفنا في " الموريسكي " منذ البداية لوحة بلاط المنصور الذهبي في مراكش وهي تستعيد بهاءها كعاصمة، في ظل ملك شغوف بأن يجعل عهده لحظة استثنائية في تاريخ بلد أدمن الاضطرابات المتنوعة الأسباب. بدت مراكش لبطل الرواية، وهو بعد أفوقاي، القادم من العدوة الشمالية، مدينة تزاوجت فيها الفخامة الموحدية والرقة الأندلسية. وجدها عامرة بأقوام يرطنون بلغات متعددة، ولكن المنصور أنشأ لهم وطنا مشتركا، ينتمون إليه بمجرد النطق بالشهادة، والانخراط في مشروعه السياسي. ليسوا كلهم على متانة عقيدة صاحبنا الفار بدينه، بل إن رفيقه في الهجرة مواطنه خايمي، صارح بأن ما يراه في مراكش ليس هو الإسلام. ويكتشف أفوقاي وهو في مراكش، خبايا السياسة المغربية في عهد المنصور، من خلال الأعوان العاملين في البلاط، مثل الهنتاتي والدوغالي والفشتالي وحامدي والركراكي. وهم أنماط متنوعة، تحيلنا على النسيج المتنوع الذي استعان به المنصور لإدارة ملكه. ولاحظ شهاب الدين/أفوقاي، أن ما يراه متفشيا من الخوف والكذب والنميمة، يكاد يظهر له أنه في الجوهر لا يختلف عما تخلقه محاكم التفتيش من أجواء. استعار أوريد شخصية الهنتاتي من مصامدة درن، وجاء به إلى المتن لكي نتعرف على أن هناك رؤية مغيبة عادة، للأمور الجارية. فالرجل قرر أن يعيش أمازيغيا، ومن هذه الزاوية ينظر إلى الأشياء. و يدرك شهاب الدين أن الجبال لا توحي بالثقة لمن بيدهم الأمر. وصاحبه الهنتاتي بسبب وعيه المتفتح ليست له طابوهات. فقد أراد أن يتعلم القشتالية. ولما قيل له إنها لسان العدو، فسر تلك الرغبة بأن الناطقين بها إذا كانوا أقوياء، فلشيء ما هم الأفضل. ويزداد إدراكه للتنوع السائد في المجتمع الذي عجنه المنصور، حينما يحتك بعناصر من المرتزقة الذين اتخذ منهم الملك يده الباطشة، وهم من إسبانيا والبرتغال وهولندة والفرنج. فالأمن كان بيد المرتزقة من الأجانب. مثل صقالبة أمويي قرطبة. وأبرزهم دورا ومكانة الكتيبة الأندلسية التي كان يؤطرها جؤدر الذي صنع مجده في ظل المنصور، ولقي حتفه على يد ابنه المامون، حيث تقول المصادر إنه تقبل الموت كما لو كانت هذه عروسا تزف إليه. صورة من طيرسيو " تحيا الموت ". أثناء إطلالتنا على لوحة مراكش كما تراءت لشهاب الدين، نحس بإغراء كبير للتفكير في أن التشابه في الصور ليس محض صدفة. فالرجل الذي يتصدر الصورة هنا هو ملك يريد أن يبني المغرب على الصورة التي في مخيلته. ووسيلته موهبته في تحريك الرجال. كما سعى إلى ذلك بتكييف بطانة مساعدين وظيفتهم خدمة مشروعه الباهظ التكاليف بشريا وماديا. من ذلك تكاليف باهظة تطلبها إنشاء " البديع ". أنجز ذلك العمران والتراتيب الإدارية، " مسلمون سيئون " كما يسميهم خايمي، يستمدون قيمتهم ومركزهم من قيمة الخدمة التي يقدمونها للمنصور. في حياة المنصور لاحظ شهاب الدين كيف تم إعدام بن الخطاط، وسجن أحمد بابا التيمبوكتي، واقتياد قوافل التعساء. وسهر على تطبيق مشروع المنصور رجال أشداء بلا قلب. هم برطقيز وأندلسيون وفرنجة أسلموا ولكنهم لا يطبقون الشعائر. ولدى وفاة المنصور انتشر اللغط بشأن مشروعه، حيث قيل إن الناس جميعا كانوا رهينة للملك. وأن الرجل كان عظيما بقدر ما كانت تصرفاته شاذة. ربما كان ذلك هو جنون العظمة. أما حينما كان المنصور حيا فقد كان يوجد من يسبح بحمده، كما كان هناك من أدى أفدح ما كلفه من أثمان، وهناك أيضا من انطوى على أفكاره، مثل شهاب الدين، الذي اكتفى بان يلاحظ الأمور وهي تتوالى أمام ناظريه. نظر إلى كل ذلك بحياد، خاصة وأن الاقتتال الجاري بين أبناء المنصور كان يضعف المسلمين. وفي لحظة تأمل وجد أن كل ما كان يجري يبعد كثيرا التفكير في " إنجاد مسلمي الأندلس " المقهورين. وكيف يحدث ذلك والمنصور يهادن البرتغاليين المستقرين في البريجة، وابنه المامون، من بعد، يراود الإسبان على منحهم العرائش لقاء دعمهم إياه ضد أخيه. ثم يحل الإسبان في المعمورة وسلطان الوقت عاجز عن رد الفعل. لا يغفل شهاب الدين عن خبايا مشروع المنصور ومنها ميل الملك السعدي إلى إقامة الود مع فيلبي الثاني، وإلى حد فإن الموريسيكيين ربما كانوا ورقة في العلاقات مع نزيل الإيسكوريال، يقدمها ويؤخرها تبعا للحسابات التي لا تستبعد تفويت العرائش. إن الرواية التي بين أيدينا هي في الجملة تتعرض للتاريخ، و تحثنا على أن نقرأه من جديد. وأحيانا يعيرنا المؤلف نظارته لنقرأ ذلك التاريخ. أو قل إنه يستحضر الماضي لنتأمله هنا والآن. ودون حسبان للفترة الزمنية، يخطر له ما دونه ابن خلدون من أن " التاريخ يحركه الأوباش ". هناك من قرأ " الموريسكي " بالعربية وقال لي إن الرموز قوية الدلالة أكثر مما هي بالفرنسية. غير أنه بدون إجهاد يمكن ان تبدو الفصول المراكشية من الرواية أكثر وضوحا في الإحالة على كتاب ما يزال مفتوحا. وأن شخصية المنصور ليست فريدة من نوعها. فالمنصور، رجل مهووس بمشروعه، ويستعمل لبلوغ هدفه كل ما هو ممكن. وليس دائما بقفاز أو في المحراب وهو يصلي. 14 نوفمبر 2011