بقلم : فضيلة ذ. زكرياء الريسوني الحسني العلمي والصلاة والسلام على محمد صلى الله عليه وسلم نبي الهدى وعلى آله الأطهار وصحابته الأخيار. كلمة واجبة أما بعد: فقد بدأت بواكير اهتمامي بتراث العدوتين الأندلسية والمغربية بعامة وتراث المغرب بخاصة ، منذ أن فتحت عيني في منزل جدي من الأم العلامة العدل الفقيه النوازلي المفضل بن حساين الجباري الحسني القصري - رحمة الله عليه – لأجد نفسي أمام نموذج حي لفقيه مالكي مغربي بمسحة أندلسية مورسكية تمازج فيه الحس الأدبي المرهف بمنظومه و منثوره، والمجال الشرعي بأصوله وفروعه، وما زال هذا الاهتمام يتقوى لدي لما تتميز به الحياة العلمية والثقافية في تطاون البيضاء - حرسها الله- ، وبفضل مجالستي لكبار علمائها الأجلاء ومفكريها النبهاء لما قاموا به من جهود في إحياء تراثنا المغربي الأندلسي الإسلامي تدريسا وبحثا وتصنيفا لا يقل أهمية عن جهود المشارقة الذين نشروا ودونوا عن تراث الأندلس والمغرب، وأخص بالذكر منهم شيخنا العلامة المحقق المحدث محمد بن الأمين أبوخبزة الحسني، وأستاذنا العلامة الأديب البارع محمد المنتصر الريسوني الحسني – رحمه الله – وشيخنا (مناولة) العلامة المحقق الدكتور حسن الوراكلي، وشيخنا الأستاذ البحَّاثة الدكتور عبد الله المرابط الترغي، وأستاذنا الألمعي الدكتور إدريس خليفة، وأستاذنا الدكتور الشاعر أحمد الخياطي والأستاذ الباحث المتخصص في الدراسات المورسكية محمد قشتيليو وأستاذنا البحاثة الدكتور عبد العزيز شهبر وأخونا النبيه الدكتور أحمد ستيتو وأخونا الأستاذ المؤرخ الدكتور محمد المغراوي ، وابن عمنا وصفينا الطلعة الدكتور قطب الريسوني وأيضا لمطالعتي كتب رائد التحقيق والبحث العلمي بالمغرب الشيخ الأستاذ محمد المنوني –رحمه الله- ، والدكتور ابن شريفة - بارك الله في عمره-كل هؤلاء كان لهم أثر في إثراء المكتبة المغربية والأندلسية ببحوث جادة جامعة بين الأصالة والطرافة تزيح الستار عن جوانب مهمة من تاريخ المغرب و الأندلس الأصيل . وهذا الاهتمام بالتراث الأندلسي لم يشغلنا عن الاهتمام بتراث مغربنا الحبيب قديمه وحديثه خصوصا في مجاله الشرعي والتاريخي الذي أضحى من أهم متطلبات التوحد بناء على قاعدة اختلاف التنوع لا اختلاف التضاد. وليس عندي من شك أن معرفة هذا التراث بجميع روافده المتنوعة شرعيِّه وأدبيِّه ولغويِّه وتاريخيِّه يشكل جزءا من تراث الحضارة الإسلامية الممتدة . فأهمية التراث المغربي والعناية به يعد - في رأينا- مصدرا من مصادر الإبداع ويشكل مادة هامة لإغناء وإثراء المكتبة الوطنية بوثائق ومخطوطات ودراسات قيمة ، مساهمة في تكوين وعي إنساني متجذر ومتنامي عند الباحثين المغاربة بالقضية الثقافية في بعديها العلمي والوطني، وإيمانا منا بأن تراث الأمة المغربية خير ما يربط تنوعها الإثني ويوحد أجيالها الناشئة بعقيدتها الدينية الموحدة وأصالتها الثقافية وخصوصيتها الحضارية . وفي ما يلي نستجلي مناحي بعض أعمال علمائنا المغاربة الأفذاذ من حوز الريف الإسلامي من أرض المغرب الأقصى، الذي لم يستوف حقه من الدراسة والبحث بل مازال – كما قلت سالفا – يحتاج إلى كشف الستار عنه، لتفرق وتناثر مادته العلمية النفيسة بين المصادر الأصلية المخطوطة والمطبوعة، فيكون العثور عليها بمثابة التنقيب عن اللآلئ والجواهر في قعر بحر مظلم. كما يعد إخراجه من غياهب النسيان والإهمال ونفض الغبار عنه من الجهاد العلمي النافع، وإضاعته ضياع للذاكرة والروح وهوية الأمة المغربية الإسلامية الموحدة، وللثقافة الإنسانية في ثرائها و تنوعها. والذي يحز في نفسي ويُجسِّم الخطر عندي أن ورثة هذا التراث الريفي الإسلامي المغربي هم الآن أقلّ خَلَفٍ شوقا واهتماما إلى نشره وأبعدهم عن معاناة المشقة في استقصاء أخبار من غبر من علمائهم وهداتهم من أسلافهم، ولا عجب فقد كان الدين والإيمان والعلم والجهاد لعهدهم هو ميزان الرجال، ومقياس العقل وقسطاس الحكمة، وما عق هذا الخلف من أبناء الريف أبوة من غبر من أسلافهم إلا لأسباب أخذت عليهم طريقهم ولو أن جلها ليس مما يبرر هذا العقوق أو يعذر منه. وقد انتدبت نفسي وهو جهد المقل لمداواة هذا العقوق سيرا على طريق من سبقني من رجال العلم والفكر الذين بذلوا ولم يضنوا، وأظهروا وأخرجوا في رجال العلم و التاريخ بحوز الريف الأوسط الإسلامي التليد الذي هو جزء لا يتجزأ من أرض وطننا المغرب الحبيب كتبا نفيسة ودراسات جادة تُعرِّف الناس بهم وبأقوالهم وأخلاقهم وفضائلهم وما سوغوا من الحكمة وما رزقوا من الفضل والصلاح والتقى. وحتى لا تخرج هذه الكلمة الواجبة عن القصد فسوف أكتفي ببيان هذا القدر . وأدعو الله عز وجل أن ييسر لهذا التراث العلمي النافع علماء ودارسين شتى، كل في مجال تخصصه و أُهيب بالمتخصصين الغيورين الصادقين، ليحطوا الرِّحال لوقفة طويلة أمام تراث فريد وطريف. بداية أقول : لقد عرف المغرب الأقصى وتحديدا شمال المغرب حياة روحية كانت البذور الأولى لظهور التصوف السني المغربي بهذه المنطقة . وحوز الريف عرف كغيره من مناطق المغرب ظهور رباطات وزوايا صوفية يغلب عليها جانب السلوك و الأخلاق لا جانب الحقائق والإشراق، لكن لا يفهم من كلامي هذا أن التصوف الموسوم بالنزعة السلوكية الأخلاقية عار عن الذوق الروحي الذي يصطلح عليه القوم بعلم "الإشارة" أو "الحقائق" ، بل غلب عليه السلوك والإتباع ، بسبب فرط العُجمة على المغاربة في أوائل تاريخهم. ومع مرور الزمن وتطور الدور العلمي والثقافي في المنطقة، الذي تجلى في مقدمتها آنذاك نشر الكتاتيب القرآنية (المسيدات) وبناء المساجد والمدارس والمعاهد العلمية والرباطات وتدبيرها من طرف شيوخ العلم و التصوف ، ونشر الثقافة العامة بين الناس–أي غير القارئين- عن طريق مجالس الذكر وإحياء ليالي التعبد وتنظيم المواسم الدينية، وكما هو معلوم فإن الريف يقع على ساحل البحر الأبيض المتوسط مما جعله يمتاز عبر تاريخه الديني الإسلامي امتدادا لروح الجهاد والرباط في الثغور صدا للغزاة القادمين من جهة الساحل البحري للمغرب . وكان من ثمرات هذا وذاك ظهور علماء أجلاء ذاع صيتهم في الآفاق وعم نفعهم في المغرب والمشرق ومن بين أبرز هؤلاء الأعلام الشيخ النسابة والمؤرخ الهمام العلامة المحدث المسنِد عبد الحق بن إسماعيل بن أحمد بن محمد بن الخضر البادسي الغرناطي كان حيا سنة 722ه والذي ينتهي نسبه إلى قيس بن عبادة الخزرجي وهذه الإشارة وأمثالِها -مما سيأتي- قاصمة ظهر لدعاة التعصب والرجعية من أتباع أمازيغ يفهم منها أنه لا يمكن التحقق من صحة وصفاء أعراقهم الأمازيغية كما يدعون لأنه يستحيل ذلك لاختلاط الأنساب وتمازج الدماء في العروق بين العرب وأبناء أمازيغ منذ دخول الإسلام إلى أرض المغرب الأقصى. أقول : هذا العالم القدوة الذي استوطن أحد أجداده غرناطة وانتقل جده الأعلى إلى بادس وبها ولد عبد الحق في حدود منتصف المائة السابعة للهجرة (650ه) ، وقد تلقى علومه عن والده ، وجماعة من شيوخ بلده ، وتردد على عاصمة العلم آنذاك فاس وسمع من شيوخ العلم بها ، وممن أخذ عنهم الإمام القدوة الشيخ أبو إبراهيم الأعرج الورياغلي ، وممن تلقى عليه العلم وسمعوا منه كتابه (المقصد الشريف) ، جماعة من شيوخ مدينة فاس منهم عبد المهيمن الحضرمي الملقب (بالصغير) ، ويحيى بن أبي طالب اللَّخمي العزفي وغيرهم كثير 1. وقد صنف كتابين اثنين لا يعرف من آثار مترجمنا سواهما: * أحدهما : ((طبقات الأولياء ))2. * والآخر : ربط به ماضي تاريخ الريف الإسلامي بحاضره ، سماه : { المقصد الشَّريف و المَنزع اللَّطيف في التعريف بصلحاء الريف} ؛ الذي قام بتحقيقه الأستاذ البحَّاثة سعيد أحمد أعراب- رحمه الله-3. وهو موضوع المقال ولب البحث، وقد جعله – أي المصنف- في مقدمة وثلاثة أقسام ، أشار في المقدمة إلى الغرض والباعث الذي دعاه إلى تصنيف هذا الكتاب فقال- رحمه الله- : "وبعد، فإن علماءنا المتقدمين -رضي الله عنهم- قد اعتمدوا بما ظهر لسالف هذه الأمة من الكرامات، ومهدوا القواعد التي قامت عليها أصول المقامات، وفسروا ما غمض من إشاراتهم، وكشفوا عن خفي عباراتهم، ونقلوا ما صح من كراماتهم، كالإمام الأوحد أبي القاسم القشيري، والعلامة الأعرف أبي طالب المكي ، والحافظ المحافظ أبي نعيم الأصبهاني...؛ وكلهم إنما ذكروا أهل المشرق ، غير معرجين على أهل المغرب ، ثم إن الأديب المحسن المتفنن يوسف بن الزيات، أتى في كتابه الموسوم ب" التشوف إلى رجال التصوف" بآيات3؛ وذكر أن الحامل له على تأليف ذلك الكتاب، ما أهمله من تقدم من المصنفين والكُتَّاب، فذكر فيه جملة من صلحاء المغرب، بأدب بارع وشأن مغرب، وبالغ في ذكر المصامدة، مظهرا لكل شيخ محاسنه ومحامده، ولم يعرج في تلك الأحياء، على ذكر أحد من الأحياء، وجعل المنتهى فيما إليه انتهى سنة ست عشرة وستمائة4؛ وغفل فيما آثره من الحسن والإحسان ، عن الريف الكائن ما بين مدينتي سبتة وتلمسان؛ ولعل ذلك لبعده من مكانه، وعدم اتصاله بأحد من سكانه، فانطمس عليه معرفة أبنائه، وعز لديه تسوغ أخبائه؛ وقد كان استقر بالريف المذكور، في سائر الأزمنة كل مشهور، لم يقصر في جده عن الأكابر، المشتهرة ولايتهم في الزمن الغابر، فرأيت تتميم صلته، وتنظيم فيصلته، بذكر من كان ببلاد الريف، من ولي يجب به التعريف، حتى يعلم انه كان بريفنا المهمل ، من أحسن في الطاعة وأجمل..."5. والناظر في كلام المؤلف يستشف منه جملة من الفوائد أهمها: * إن مشروع مترجمنا كما قرر في مقدمة كتابه كان تتمة لما بدأه ابن الزيات في كتابه "التشوف إلى رجال التصوف"6 الذي ألفه سنة 617ه ، والذي احتوى على رجالات العلم والولاية والصلاح والكرامات بالمغرب وأكثرهم من صلحاء الجنوب وذلك إلى حدود سنة 517ه. * إن المقصد الأسمى من كتابة تأليفه ، هو استدراك ما فات ابن الزيات ذكره من رجال العلم والصلاح بمنطقة الريف الأحياء منهم والأموات . * منهج المؤلف –رحمه الله - : أما أهم ما نقوله عن الكتاب من جهة منهجه ومواضيعه وأسلوبه وأشياء عرضت لنا حين القراءة على ضيق الوقت والتباسنا بالعجلة أنه جاء في ثلاثة أقسام ، تحدث في القسم الأول عن المقامات والكرامات وضمنه أربعة فصول : o أولها: في الولاية والولي ، تناول في هذا الفصل مفهوم الولاية؛ وذكر أن الولاية على ضربين: ضرب خاص ، وضرب عام،الخاص قوله تعالى: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ}7، والعام: ولاية المؤمنين ، قال الله تعالى:{اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ }8،وقوله سبحانه:{ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ }9. ثم نقل الحديث عن طبقات الأولياء مقلدا في ذلك ما جاء به الشيخ أبو الحسن علي بن محمد المراكشي في كتابه :( مناقب الأولياء وصفة سلوك الأصفياء) فجعلهم ثلاث طبقات الأولى : صفتهم علم اليقين ، و الطبقة الثانية : صفتهم عين اليقين ، والطبقة الثالثة صفتهم : حق اليقين . o الثاني : تناول فيه مفهوم الفقر والفقير. وذكر أن الفقر هو الافتقار إلى الله تعالى في كل حال وفي كل نفس ، وجعله محمودا :وهو فقر الاختيار ، وفقر الاضطرار :هو أن يكون العبد مقترا عليه في معيشته جاهدا في اكتساب ما يتعيش به ، وتكلم بعد ذالك عن الأفضلية بين الفقر والغنى واختلاف الناس في ذلك بين مادح للفقر قادح في صفة الغنى ، مائلا إلى تفضيل الفقر عن الغنى ، لعلة وهي '' أن الواجب على العبد أن لا ينازع مولاه سبحانه وتعالى ما اختص به ، بل يلتزم الذل والفقر ، فهو اللائق به'' 10 . o الفصل الثالث : مفهوم التصوف وبداية ظهوره، و اختلاف العلماء في سبب التسمية، وتعقب كل التعاريف التي وردت في الباب، ثم ختم بقوله : ((والكلام في الصوفي والتصوف كثير ، وإيراده يقطع دون المراد))11. قلت : والخلاف في تعريف أصله واشتقاقه مشهور ، بل اختلفوا اختلافا متباينا حتى تناقضت وتعارضت تعريفاتهم وهذا ما قصده المصنف من كلامه السالف12 . o الفصل الرابع : خصه في إثبات كرامات الأولياء ، تطرق فيه بالجملة على جواز خرق العادة للأولياء ، فأورد موقف أهل السنة في الكرامة ، وتعرض لاختلاف العلماء في مواقفهم من كرامات الأولياء . وهذا الأمر هام لأن الخارق قد يظهر على يد المبطل من ساحر وكاهن وراهب فيحتاج من يستدل بذلك على ولاية أو لياء الله تعالى إلى فارق ، وأولى ما ذكروه أن يختبر حال من وقع له ذلك فإن كان متمسكا بالأوامر الشرعية والنواهي كان ذلك علامة ولايته ومن لا فلا . وإن كرامات الأولياء قد تقع باختيارهم وطلبهم وهذا هو الصحيح ومنهم من قال أنها لا تقع باختيارهم وطلبهم، ومنهم من قال إن الكرامة قد تكون بخوارق العادات على جميع أنواعها ومنعه بعضهم وادعى أنها تختص بمثل إجابة دعاء ونحوه وهذا غلط من قائله وإنكار للحس . ثم يفرق بينها وبين المعجزة بأن المعجزة تقع على حسب دعوى النبوءة أي أنها تقترن بدعوى الرسالة أما الكرامة تكون دون دعوى النبوءة ، فقال : -رحمه الله - : (( فإن قيل ما الفرق بين الكرامة والمعجزة ؟ قلنا : لا يفترقان في جواز الفعل إلا بوقوع المعجزة على حسب دعوى النبوءة ووقوع الكرامة دون دعوى النبوءة ، ودليلنا في إثبات الكرامة ما لا سبيل إلى رده في مواقع السماع ))13 . والملاحظ من خلال كلام صاحب المقصد حول المسألة يتبين مدى التزامه بمفهوم (الكرامة) وعدم ميله في ما يدعيه أصحاب الغلو في مفهوم (الكرامة) الذين يسمون أنفسهم بالمتصوِّفة والتصوف منهم براء ، فيصرح أن الكرامة إنما تكون لأهل الحق والإيمان فيقول : (( إن الساحر يدعو إلى نفسه غير مقتد بشريعة والولي مقتد بشريعة ومتبع لرسول قد وضحت دلائل صدقه ...)). 14 أما بالنسبة للقسم الثاني: فقد تفرغ المؤلف فيه للحديث عن إثبات حياة الخضر -عليه السلام- وعدم وفاته والتعريف بحقيقة اسمه ونسبه وصحة ما ورد إلينا من أحواله ، ووجهة نظر أهل التصوف واعتقادهم تجاه هذه الشخصية . وقد ذهب المؤلف رحمه الله إلى أن الخضر عليه السلام مازال حيا وأنه باق إلى ما شاء الله والذي يهمنا في هذه القضية أنه لم يتوسع في الدفاع عن هذا الرأي بدليل صريح واضح الدلالة يستند إليه، وبرهان صحيح يعتمد عليه . - مناقشة المسألة - وبالنظر والتتبع للأخبار الواردة حول الموضوع رأينا أن الخلاف في المسألة ينحصر في ما إذا كان الخضر – عليه السلام- حيا إلى يومنا هذا أم لا.؟ أو ما إذا كان وليا أم نبيا.؟ وبالجملة فلا يخفى على كل ذي لب أن النصوص تدل على أنه مات قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم والحجة على ذلك جاءت من وجوه: o الدليل القرآني قول الله تعالى لنبيه الأمين: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} 15 فقوله سبحانه : {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ } جاءت نكرة في سياق النفي، فهي بذلك تعم كل البشر ، والخضر عليه السلام (بشر) ممن كان قبل النبي صلى الله عليه وسلم، وقد مات كما يموت البشر . o الدليل الثاني من السنة ما ورد في صحيح البخاري و مسلم من حديث عبد الله بن عمر قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة صلاة العشاء في آخر حياته فلما سلم قام فقال: (( أرأيتكم ليلتكم هذه فإن على رأس مائة سنة لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد ))16، قال ابن عمر : أراد بذلك انخرام قرنه . ومعناه: أن هذا الجيل وهذا القرن لن يبقى منه أحد بعد مائة سنة ، فلو قلنا أن الخضر عليه السلام كان على وجه الأرض في هذه الليلة، إذا لعمه قول النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا التقدير تكون رواية البخاري ومسلم متفقة مع من جزم بأنه غير موجود الآن . وقد صرح بذالك الإمام البخاري وإبراهيم الحربي و أبو جعفر بن المنادي وأبو يعلى الفراء وأبوطاهر العبادي ومن المالكية أبو بكر بن العربي وطائفة 17وعمدتهم الحديث المذكور. ومن الحجج الأخرى للمنكرين لحياته، دعاء النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر: (( اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض ))18 ، فلو كان موجودا لم يصح النفي الوارد في الدعاء، كما أنه لم يأت في خبر صحيح أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبايعه على الإسلام، و لا شارك في غزواته وقتاله لأعداء الدين، فكيف يكون حيا ويترك أعظم الفرائض وأهم مظاهر نصرة التوحيد الذي بُعث الأنبياء و الرسل من أجله . ومن العلماء الأفذاذ الذين افردوا أخباره في مصنف، وقالوا بضعف الأدلة الواردة عن القائلين بحياته وتعميره أبو الخطاب بن دحية السبتي الإمام المحدث ، إذ قال- رحمه الله- :(( جميع ما ورد في حياة الخضر لا يصح منها شيء باتفاق أهل النقل وإنما يذكر ذلك من روى الخبر ولا يذكر علته إما لكونه لا يعرفها وإما لوضوحها عند أهل الحديث ...؛ ثم قال: وأما ما جاء عن المشايخ فهو مما يتعجب منه كيف يجوز للعاقل أن يلقى شخصا لا يعرفه فيقول له: أنا فلان. فيصدقه.))19 . وهذا يدعم أن الخضر عليه السلام مات قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، ولو لم يكن إلا هذا في إبطال ما ذهب إله القائلون بحياته الآن لكفى وشفى19. أما جواب السؤال الثاني عن الخضر عليه السلام هل هو ولي أم نبي..؟ فنقول أن اعتقاد معظم المتصوفة ومن سار على نهجهم من بعض العلماء بأن الخضر عليه السلام ولي فقط وليس بنبي واضح بين وليس يخفى على أحد20. ونحن نرد على هذا القول الغير المقبول بالحجج والأدلة اليقينية على أنه نبي من أنبياء الله وليس بولي فقط . قال الإمام الفخر الرازي في تفسيره الكبير - في معرض حديثه عن الخضر عليه السلام ، وهل هو نبي أو ولي - : ((والأكثرون أن ذلك العبد كان نبيا واحتجوا عليه بوجوه : * الحجة الأولى : أنه تعالى قال : { آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا }21 والرحمة هي النبوة. بدليل قوله تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ }22 وقوله : {وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ }23 والمراد من هذه الرحمة النبوة . * الحجة الثانية : قوله تعالى : {وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا} 24وهذا يقتضي أنه تعالى علمه بلا واسطة تعليم معلم ولا إرشاد مرشد وكل من علمه الله لا بواسطة البشر وجب أن يكون نبيا يعلم الأمور بالوحي من الله . * الحجة الثالثة : إن موسى عليه السلام قال : { هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا}25 والنبي لا يتبع النبي في التعليم . * الحجة الرابعة : إن ذلك العبد أظهر الترفع على موسى حيث قال : {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا}26 . أما موسى فإنه أظهر التواضع حيث قال : { وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا}27 . وكل ذلك يدل على أن ذلك العالم كان فوق موسى ومن لا يكون نبيا لا يكون فوق النبي. * الحجة الخامسة: احتج الأصم على نبوته بقوله في أثناء القصة {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي } 28 ومعناه فعلته بوحي الله وهو يدل على النبوة. * الحجة السادسة : ما رُوِيَ أن موسى عليه السلام لما وصل إليه قال : السلام عليك . فقال : وعليك السلام يا نبي بني إسرائيل .فقال موسى عليه السلام : من عرفك هذا ؟ قال : الذي بعثك إليّ . قالوا وهذا يدل على أنه عرف ذلك بالوحي والوحي لا يكون إلا مع النبوة))29. وهذه الأدلة القوية تدل على أن الخضر عليه السلام نبي وليس ولي فقط. أما القسم الثالث : فقد ضمنه التعريف بالمشايخ الصلحاء المستقرين بحوز الريف الأوسط، ومضى على هذا النحو يجمع حتى اكتمل له 46 ترجمة ، وجل هؤلاء ممن عاشوا مابين زمانه وزمن أبي مدين الغوث، وقد أشار إلى ذلك بقوله : '' ويتلوا ذلك ما تيسر من ذكر كل ولي بين زماننا وزمن الشيخ العارف أبي مدين..''. وهذا القسم هو أصل الكتاب والغاية من تأليفه كما قال – رحمه الله- ويظهر من صنعته في التراجم أخذه بطريقة أبي نعيم في حليته وطبقاته، وابن الزيات في تشوفه، وهذا يدل على تأثر صاحب الترجمة بهما وبمنهجهما يقول عبد الحق -رحمه الله-: ''فأنحل كل واحد منهم تحلية، كما صنعه الحافظ أبو نعيم في الحلية، وذلك مثل قوله: وقد قيل إن التصوف تحقيق وتدقيق، وجعلت تخطيط كل واحد منهم وتحليته بسجع، حسبما التزمته من الأبيات عقب ذكر كل شيخ منهم رضي الله عنهم''30. وبالنظر إلى منهجه في هذا الفصل، يمكن أن نبرز أهمية هذا التأليف في هذا البحث، فنقول بأن أغلب ما دونه ونقله الشيخ عبد الحق رحمه الله عن تاريخ الفترة التي عاش فيها، وما قبلها، والعادات التي كانت سائدة آنذاك ، استقاها مباشرة من مصادر شفهية بالدرجة الأولى، فكان في سياق تدوينه للتراجم التي تميزت بالاختصار إلا فيما يخص بعض التراجم التي اتسمت بنوع من الطول كترجمته للشيخ أبي داود مزاحم وترجمة الشيخ أبو القاسم بن الصبان و ترجمة الشيخ علي بن محمد المراكشي قدس الله أرواحهم. فهو يعكس بذلك البعد السياسي والثقافي والاجتماعي وكذا الديني لبلاد حوز الريف الأوسط في هذه الفترة من حكم بني وطاس والعرب المتغلبين على بلاد الريف أواخر العصر الموحدي، والقرصنة التي كان يمارسها القراصنة الصليبيين على طول البحر الأبيض المتوسط لهذا العهد الذي ظلت زواياه معتمة ومغلوطة لم تروى أحداثها إلا عن طريق المشافهة، انتقيت مما كان يدور على ألسنة معاصريه، وما كان يحكيه بعض شيوخه وأقاربه. ونستخلص أهمية هذا المؤلف ومصنفه في الفقرات التالية : * على المستوى الشخصي : يقدم الشيخ عبد الحق نبذة تاريخية عن ترجمته الذاتية من خلال رصده لكثير من أعلام التصوف بمنطقة الريف الذي لولاه لبقي الغموض يكتنف الكثير من أعلام المنطقة وأسرها التي كان لها أثرها في الحياة الدينية والسياسية في تاريخ المغرب الأقصى . * على المستوى الديني والثقافي : فالكتاب يتحدث فيه المؤلف عن الجو الديني والثقافي الذي كان يغلب على المنطقة، كما يطلعنا عن انتشار الفكر الصوفي من خلال تعدد رجالاته ومشاربهم ، ومختلف الأدوار التي أسندت إليهم داخل مجتمعاتهم ، وعلاقتهم بالتقاليد والعادات التي تميز منطقة الريف عن غيرها من العادات المغربية، كزيارات الأضرحة للتبرك بالصالحين والرباطات التي كان يؤم إليها الفقراء من الصوفية من أجل التدرج في سلك التصوف والذين أصبحوا في ما بعد مشاعل لنشر الدعوة والثقافة الدينية على ذلك العهد. * على مستوى الأحداث السياسية والاجتماعية: فإن الكتاب يضم إشارات تاريخية ذات قيمة هامة لما تضمن من معلومات سياسية جديدة تتكلم عن ما كان يحدث آنذاك من فتن ووقائع تفصح لك ما كانت عليه الأحوال في الريف الأوسط . فالكتاب يعد وثيقة تاريخية حية ترصد لنا من الداخل مجتمعات الغرب الإسلامي وما عرف من صراعات وفتن، وفي المقابل ما كان سائدا على مستوى أنماط الغذاء والأطعمة، وأشكال اللباس، وهي معلومات قل ما تجدها في مصدر تاريخي واحد. كما يقدم الكتاب لمحات طريفة حول الحياة اليومية للناس بالمنطقة في العصر الوسيط وظروف معاشهم، فهو يعكس تلك الجسور التي كانت بين المغرب وعدوة الأندلس وبين المغرب والمشرق، والتاريخ المشترك بين بلدان المغرب العربي وهذا يظهر من خلال مسار حياة المؤلف ونسبه وعائلته ورحلاته ، فوحدة التواصل الحضاري والعلمي بين حواضر الغرب الإسلامي حاضرة وظاهرة ، ولا أدل على ذلك قوله في مقدمة كتابه (( الريف الكائن ما بين مدينتي سبتة وتلمسان..)). هذا فضلا على أن الذي يريده من ذكر أخبار الصوفية ممزوجة بالمواعظ والعبر وإيراد أحوال الصالحين وأطوار الزهاد والنساك ترغيبه في طيبات الأعمال، وأيضا عنايته بأساليبه وتعابيره الأدبية التي صاغها ''بأدب الفطرة '' جعلت كتابه يتسم بصبغة دعوية أخلاقية غايته منها إذاعة المعاني الذوقية والسلوكية العملية، لأن هذه الأساليب من أقوى الدعوات لسلوك طريق القوم، فالأدب عندهم وسيلة من وسائل التعبير عن الفكرة الأخلاقية والخواطر القلبية . وختاما أقول أنني أجد نفسي عند قراءة كتاب ((المقصد الشريف)) كالذي ينتقل بروحه من عالم كثيف فيه من ثقل المادة ما يهيض جناح الطائر إلى عالم من الروحانية المصفاة التي ألقت أوزار المادة إلى مثارها ومعدنها من الأرض، فتحلق في جو السماء بين نسمات النفحة الإلهية، فيتجلى الجمال العلوي ، ذلك الجمال الذي ينتظم الجو كله بأفلاكه وكواكبه ودقة تدبيره وحكمة أمره سبحانه وتعالى. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين . وإلى لقاء قادم مع علم آخر من أعلام ريفنا الأوسط التليد . ============ هوامش============ 1/ ولم نقف على سنة وفاته، لعدم ذكر المصادر لذلك ؛ انظر ترجمته في : المقصد الشريف لعبد الحق البادسي ، تح : أحمد أعراب (ص:6). وزهر الآس لعبد الكبير الكتاني ، تح : علي بن المنتصر الكتاني 1/109 ؛ط: 1/ 1422ه - 2002م مطبعة النجاح الجديدة . 2/ قلت : وقد أشار إليه في ترجمة الشيخ علي بن محمد المراكشي وانظر ترجمة رقم : 9. من كتاب المقصد الشريف (ص: 73) . 3/ وقد طبع الكتاب بتحقيقه بالمطبعة الملكية بالرباط وذلك سنة 1402ه/ 1982م. وقد اعتمد المحقق في تحقيق الكتاب على أربع نسخ خطية . 4/ قصد من كلامه أنه انتهى من تراجم الأعلام الذين ترجم لهم إلى غاية سنة 616 هجرية ، أما تصنيفه فقد فرغ منه كما ورد ذلك عنه سنة 617ه. انظر ما قاله المحقق (ص:15) . 5/ المقصد الشريف (ص: 14- 15). 6/ طبعة معهد الأبحاث العليا المغربية ج:12 .بتاريخ سنة 1958م. 7/ سورة الأعراف الآية :196 . 8 / سورة البقرة الآية : 257 . 9/ سورة آل عمران الآية 68. 10/ المقصد الشريف (ص: 30-31) . قلت : وقد لفت انتباهي أنه -رحمه الله- انتقد ابن سبعين الاشبيلي الفيلسوف الصوفي فيما أورده في تعريفه للفقر جوابا عن سؤال ناقشه كثير من فلاسفة المتصوفة يتمحور حول هل الفقر جسم حادث محدث ؟!أم هو كائن منفصل عن العالم وليس متصل به ؟!. كما أنه أجاد في بيان الاعتقاد الصحيح والمذهب الراجح في حقيقة الروح . انظر - مأمورا- (ص: 34) . 11/ نفس المصدر (ص: 38) . 12/ انظر - للتوسع- : شرح النووي على صحيح مسلم (ج: 16 ص: 108) ؛ ط:2 / 1392ه دار إحياء التراث العربي / بيروت . والتعريفات للجرجاني 1/39 ؛ ط: 1/ سنة : 1405ه ، طبعة دار الكتاب العربي/ بيروت . 13/ المقصد الشريف ، ص:40 . 14/ نفس المصدر ، ص: 39. 15/ سورة الأنبياء الآية: 34. 16/ تخريج : أخرجه البخاري في صحيحه (رقم :539) ، ومسلم في صحيحه (رقم :2537) ولفظ الحديث لمسلم ؛ ط: دار إحياء التراث العربي. 17/ انظر للتوسع فتح الباري للحافظ لابن حجر العسقلاني 6 / 434 ؛ تح : محمد فؤاد عبد الباقي ومحب الدين الخطيب ط: دار المعرفة، بيروت . 18/ تخريج : صحيح مسلم (رقم: 1763) وأيضا فتح الباري للحافظ لابن حجر العسقلاني 7/289 . وابن كثير في تفسيره 3/100-101 ؛ ط: دار الفكر / بيروت سنة : 1401ه . 19/ انظر الزهر النضر في نبأ الخضر ، لابن دحية :2/203 . قلت: وقد استدل المؤلف على حياته بحديث أورده في كتابه (ص: 46) ، وقد رواه ابن عساكر من حديث أنس رضي الله عنه وروى الدارقطني في ''الأفراد'' من طريق عطاء عن ابن عباس مرفوعا :(( يجتمع الخضر و إلياس كل عام في الموسم فيحلق كل واحد منهما رأس صاحبه ، ويفترقان عن هؤلاء الكلمات : بسم الله ما شاء الله )). الحديث : في إسناده محمد بن أحمد بن زيد بمعجمة ثم موحدة ساكنة وهو ضعيف. وانظر – للفائدة- 'الإصابة' للحافظ ابن حجر ، 2/305 – 306 تح: علي محمد البجاوي ط: دار الجيل بيروت سنة :1412ه -1992م . وجل الأحاديث الواردة في حياة الخضر عليه السلام إما ضعيفة أو منقطعة واهية الأسانيد أو فيها مجاهيل – والله اعلم -. وانظر أيضا –للفائدة- الزهر النضر في نبأ الخضر 2/234 . عند نقله لكلام الحافظ ابن حجر واستدلاله به على وفاة الخضر عليه السلام. و كتاب البداية والنهاية لابن كثير 1/ 336 ط:دار الفكر العربي. 20/ انظر الفتوحات المكية لمحيي الدين بن عربي 2/180. ط:المطبعة العربية القاهرة. 21/ سورة الكهف الآية : 65 . 22/ سورة الزخرف الآية: 32 . 23/ سورة القصص الآية : 86. 24/ سورة الكهف الآية : 65 . 25/ سورة الكهف الآية :66. 26/ سورة الكهف الآية: 68. 27/ سورة الكهف الآية: 69. 28/ سورة الكهف الآية : 82. 29/ التفسير الكبير للإمام الفخر الرازي 22/ 148. ط: المطبعة البهية المصرية . 30/ انظر المقصد ،(ص: 16 وص:50).