إن الجذور التاريخية لمفهوم العقوبة السالبة للحرية تعود إلى فتح سجن أمستردام بهولندا سنة 1595، لتصبح هذه العقوبة في وقتنا الحاضر الوسيلة المثلى التي تعاقب بها جل المجتمعات الخارجين عن القانون، وقد أكد الفقه أنها معضلة كبرى تسبب أزمة لدى مؤسسات العدالة الجنائية. وبالرجوع إلى تقرير هيئة الأممالمتحدة لمؤتمر لندن سنة 1960، تم التأكيد على إمكانية تقسيم العقوبة انطلاقا من مدتها، فصارت تنقسم إلى عقوبة طويلة المدة وعقوبة قصيرة الأمد. وتتدخل مجموعة من المعايير في تحديد مدة هذه العقوبة، من قبيل شخصية الجاني وسوابقه الإجرامية وظروف ارتكابه للجريمة، فعندما يتم الحكم بعقوبة سالبة للحرية قصيرة المدة في حق الجاني، يتبادر إلى الذهن تساؤل يفيد كم تقدر هذه المدة لتعتبر قصيرة؟ لأجل ذلك اختلفت اتجاهات عدة في تحديد المدة التي تعتبر قصيرة، حيث هناك من حصرها في عدم تجاوزها لثلاثة أشهر، وآخرون قالوا ستة أشهر، وفريق جعلها تصل إلى تسعة أشهر، وآخرون سنة كاملة، لكن في جميع الأحوال، فإن الأكيد هو أن العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة تتنافى مع تحقيق أهداف السياسية العقابية. يعتبر الحديث عن ترشيد العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة صعبا إلى حد ما، فالأجدر بنا أن نتحدث عن إعادة النظر فيها، عبر محاولة التقليص من الآلام التي تحملها حتى لا تكون شحنة من الحرمان. لقد عرف مفهوم العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة في علاقة بمدى تحقيقها لأغراض العقاب تطورا هائلا، لأن أول ما يعاب عليها كعقوبة هو استهلاك مدتها خلال فترة الاعتقال الاحتياطي. لذلك جاء علم العقاب لتحديد أسس المعاملة العقابية، قصد ضمان نجاح العقوبات في تحقيق أغراضها، حيث ظهر رأي يدافع عن تمكين بعض المعتقلين احتياطيا من ممارسة حقوقهم المدنية والسياسية كما تقتضيه مبادئ العدالة ودولة القانون، خاصة وأن هذا الإجراء يبقى استثنائيا، هدفه وضع المعتقل بشكل احتياطي ليبقى رهن إشارة العدالة. إن المؤسسة السجنية اليوم أصبحت تعاني من معضلة التضخم والاكتظاظ نظرا للأعداد الهائلة من السجناء الذين يقبعون داخلها، غالبيتهم محكوم عليهم بعقوبات حبسية قصيرة الأمد. ولأن هذا المشكل تعاني منه جل الدول، جاءت بعض المطالب التي تنادي بتمكين هؤلاء السجناء من المشاركة السياسية قصد تنمية فكرة الإصلاح والتطوير في ذهنهم على اعتبار أن هذه المشاركة ستحافظ على الصلة بينهم وبين المجتمع. هذه الإرهاصات عجلت بظهور بعض الأصوات التي تنادي وتطالب بمد سلطة القضاء إلى المرحلة التنفيذية للعقوبة، وبالتالي مد نطاق مبدأ الشرعية إليها عسى أن يساعد ذلك في الحد من الأزمة التي تعرفها هذه العقوبة. وفي ضوء ذلك، صارت الدول تعتمد على سياسة جنائية جديدة تقوم على أساس نظام يحتوي على بدائل العقوبات السالبة للحرية، ويأخذ بعين الاعتبار الطاقة الاستيعابية للمؤسسات السجنية، لأن كل دولة يوجد بداخلها عدد كثير من السجون تصرف له ميزانيات بالجملة، قصد توفير موارد مالية للساهرين على تنظيم هذا القطاع، وكذلك توفير متطلبات الساكنة السجنية. لذلك كان لا بد من التفكير في سن عقوبات بديلة عن العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة تتوخى إحداث آثار إيجابية لمقترفي الأفعال الجرمية، وتحمل معها غاية إعادة إدماجهم في المجتمع، وأيضا الابتعاد عن الوضع الإجرامي الذي يطالهم كلما قضوا مدة داخل المؤسسة السجنية. فحاليا يوجد أكثر من تسعة ملايين سجين حول العالم، والرقم في ارتفاع ملحوظ، فلذلك يعد الاكتظاظ من العوامل المهمة التي أفاضت الكأس قصد إعادة التفكير في إيجاد عقوبات بديلة للعقوبة الحبسية السالبة للحرية مع الاعتراف بأن السجن ليس هو الحل الناجع لتحقيق أغراض العقوبة. يعتبر مصطلح العقوبات البديلة مصطلحا جديدا، رغم وجود بعض تطبيقاتها على مستوى بعض القوانين الجنائية التقليدية، ويقصد بها كل العقوبات التي تصلح أن تكون بديلة عن الحبس، أي يسمح باختيارها في حالات محددة قانونا مكان العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة، وهذا لا يعني استبعاد هذه الأخيرة، بل يعني فقط إمكانية استبدالها بعقوبة بديلة تتخذ مظهرا غير تقليدي، وعرفها بعض الفقه بأنها بعض الجزاءات الأخرى التي يضعها المشرع أمام القاضي لكي تحل بصفة ذاتية أو موازية محل العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة، فهي تتخذ إذن الإجراءات الجنائية العادية نفسها وتصدر عن طريق حكم قضائي ولكن بدلا من صدور هذا الحكم بعقوبة سالبة للحرية فإنه يصدر بعقوبة بديلة لا تنطوي على سلب حرية المحكوم عليه. إذن، فالعقوبات البديلة تعتبر بمثابة نظام قانوني يتيح قضائيا إحلال عقوبة من نوع آخر محل عقوبة الحبس الأصلية، لكن هناك فئة ترى أن هناك إشكالية تتعلق بمفهوم العقوبات البديلة للسجن في الأدبيات الجنائية العربية، وأنه يترتب على هذه الإشكالية أزمة في تعريف العقوبات البديلة وتطبيقاتها. وعلى الرغم من هذا التنوع والتباين في الآراء حول مفهوم أو مسمى العقوبات البديلة للسجن، فإن هناك اتفاقا حول مشروعيتها ومبررات اللجوء إليها. لقد أخذ مفهوم العقوبات البديلة للحبس مكانا متميزا جعله يطفو بقوة على الساحة القانونية والقضائية من خلال الدعوات التي أطلقت من قبل العديد من الفقهاء والباحثين في مجال الجريمة نتيجة لما كشف عنه الواقع الفعلي وكذلك الدراسات والأبحاث الميدانية من مساوئ للسجون، وما يترتب عليها من أضرار ومخاطر تلحق بالسجين وبأسرته وكذلك بالميزانية العامة للدول، مما دفع الأممالمتحدة من خلال مؤتمراتها واتفاقياتها إلى الدعوة إلى ضرورة البحث عن بدائل غير احتجازية تحل محل السجون وتراعى من خلالها حقوق الإنسان. إن السياسية العقابية الحديثة اتجهت نحو خلق عقوبات بديلة ذات طبيعة مالية-الغرامة اليومية-عوض العقوبة الحبسية قصيرة المدة؛ وذلك عبر جعل المحكوم عليه يقوم بدفع مبلغ مالي يحدد من لدن قاضي الحكم إلى الخزينة العامة المكلفة باستخلاص الغرامات، وتطبق عقوبة الغرامة اليومية في حق الرشداء، لكن ينبغي لنجاح فلسفة هذه العقوبة أن تتضافر جهود مختلف أجهزة العدالة الجنائية بشكل أوثق من أجل التقليص ما أمكن من اللجوء إلى الاعتقال، لأنه لا يمكن تخفيض عدد الساكنة السجنية إلا عبر استراتيجية متشاور بشأنها. *طالب باحث في القانون الجنائي والعلوم الجنائية [email protected]