بعد التطور العلمي والتكنولوجي الهائل الذي راكمته الإنسانية عبر عقود طويلة، لم يعد ممكنا لأي بلد من بلاد الدنيا أن يتقدم صناعيا واقتصاديا واجتماعيا إلا بفضل جامعات متقدمة، وتعليم عالي وبحث علمي من مستوى رفيع، من أجل مواكبة التطور السريع الذي يعرفه العالم في جميع المجالات التي تهم حياة الإنسان، والاستفادة منه والمساهمة فيه بإنتاج علمي جيد. ولهذا نرى الدول المتقدمة تخصص للتكوين والبحث العلمي ميزانيات ضخمة تمثل نسبة عالية من دخلها القومي. وقد كان المغرب واعيا بهذه الحقيقة، وسارع فور حصوله على استقلاله إلى تأسيس جامعة محمد الخامس سنة 1957، وهي أول جامعة مغربية بالمفهوم الحديث. هذه الجامعة لعبت فيما بعد دورا كبيرا على المستوى الاقتصادي والإداري والسياسي، حيث ساهمت بشكل جيد وناجح في مد مؤسسات الدولة والقطاع الخاص بالأطر الجيدة. وبفضل ذلك تمكن المغرب من إعادة بناء كل مؤسساته الحيوية بالاعتماد على نفسه في تكوين نخبه العلمية و الاقتصادية والسياسية. أما على مستوى البحث العلمي والتكوين، فقد تم بدل مجهودات كبرى، وإن كانت دون طموح وأمال الشعب المغربي، بدأت نتائجها الأولى تظهر مع بداية الثمانينات في العلوم البحثة، وقبل ذلك في العلوم الإنسانية، فالتكوين وتراكم التجارب في هذا المجال يتطلب وقتا طويلا ومجهودا كبيرا. وفي أواخر السبعينات وبداية الثمانينات، أنشئت جامعات أخرى غطت جل جهات المملكة، حيث أصبح المغرب يتوفر، إلى حدود 2010، على 17 جامعة عمومية. وقد حققت هذه الجامعات نجاحا ملموسا في مجال البحث العلمي والتكوين. إلا أنه في ال 15 سنة الأخيرة تم التراجع عن تأسيس وخلق جامعات عمومية جديدة، وتم اللجوء إلى الجامعات الخصوصية والمدارس العليا المستنسخة من مدارس فرنسية أو غيرها، حيث أصبحنا نتوفر، ونحن لا زلنا في بداية هذا المسار، على تسع جامعات خصوصية، أي أكثر من نصف عدد الجامعات العمومية ، وعدد من المدارس العليا الخصوصية قد يساوي عدد مدارس المهندسين العمومية الكبرى أو يزيد، وذلك في إطار سياسة رفع يد الدولة عن التكوين والتعليم التي أصبحت تتبعها الحكومات الأخيرة. وهنا لا بد من التنبيه إلى أن هذه السياسة قد تؤدي إلى إجهاض تجربة رائدة وناجحة في مجال البحث العلمي، جعلت المغرب يتبوأ الرتبة الثالثة على الصعيد الإفريقي في مجال البحث العلمي سنة 2001، وذلك حسب دراسة تهم هذا المجال قام بها الإتحاد الأوروبي آنذاك. إن الأهمية التي أصبح يكتسيها الدورالحيوي للجامعات والتكوين العالي والبحث العلمي أدت في السنوات الأخيرة إلى ظهور مؤسسات وهيئات دولية لتصنيف الجامعات عبر العالم، من حيث جودة التكوين والبحث العلمي بها. ومع ما عرفته الأوساط الجامعية والسياسية والإعلامية من مختلف بلاد العالم من اهتمام بنتائج التصنيفات التي تصدر كل سنة ، دخلت الجامعة المغربية في سباق مع جامعات المعمور من أجل الحصول على مراتب مشرفة، تثبت تأهيلها كجامعة تستحق الاعتراف بها، وطنيا ودوليا، كمؤسسة تقوم بدور حقيقي في المساهمة في تنمية وتطوير البلاد. إلا أن تصنيفها عرف بعض التراجع ابتداءا من سنة 2009، حيث صنف المغرب آنذاك في الرتبة السادسة إفريقيا. أما على المستوى العالمي فإن الجامعات ومؤسسات التعليم العالي المغربية تظل تحتل المراتب المتأخرة في كل التصنيفات الدولية الجادة. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن جميع التصنيفات للجامعات العالمية المعتمدة دوليا تعتمد أساسا على مستوى إنتاجها العلمي باعتباره المقياس الحقيقي لمستوى التكوين الجامعي. فكل التكوينات يمكن استنساخها من الجامعات المتقدمة، إلا أنها لا تكون ناجحة إلا إذا كان البحث العلمي المحيط بها في المستوى. وكمثال على ذلك فإن الكثير من شعب الرياضيات بالجامعات المغربية فتحت تكوينات في المالية الرياضية (أو الرياضيات المالية) "Mathematical Finance" لسنين طويلة، إلا أن هذه المشاريع باءت كلها بالفشل الذريع، حيث قدمت بها أطروحات بئيسة للدكتوراه، بناءا على مقالات علمية رديئة جدا نشرت بمجلات إفتراسية مقابل مبالغ مالية يؤديها المرشحون أو مختبراتهم، لا ترقى في مستواها حتى أن تكون رسائل نهاية الدراسة بسلك الماستر في تخصص الرياضيات. وقد يكون من بين الحاصلين على مثل هذه الدكتورات من أصبح أستاذا جامعيا يدرِّس و"يبحث" ويؤطر الطلبة. كما أن مستوى خريجي الماستر بهذه التكوينات كان دون المستوى المطلوب في السوق. وقد حصلت بعض الجامعات العمومية المغربية على رتب متقدمة بعض الشيء على المستوى الإفريقي من خلال المراكز الثلاثة للتصنيف الشهيرة، وهي تصنيف شنغهاي، والتصنيفين الدوليين " QS ranking" و " Times higher education" . هذه الرتب تضع الجامعات العمومية في المستوى الأول وطنيا، بفارق كبير مع الجامعات الخصوصية التي كانت نتائج تصنيفها ضربة قاضية لسياسة الداودي، وزير التعليم السابق، حيث أحرزت رتبا متخلفة غير معروفة في كل التصنيفات، رغم مداخيلها الكبيرة واستفادة البعض منها أو كلها من امتيازات عديدة نذكر منها أداء الدولة لأجور عدد من الأساتذة الباحثين الملحقين بها والتي قد تضاف لها أجور أخرى تؤديها لهم هذه الجامعات، ودعمها من ميزانية الدولة المخصصة للبحث العلمي واعتراف الدولة بمعادلة شواهدها بشواهد الجامعات العمومية، وحرمان مؤسسات حرة عليا أخرى من ذلك رغم انعدام أي فرق في مستوى البرامج والهيئات التدريسية والإدارية بهما. وفي التصنيف الأخير لسنة 2018 الصادر عن مجلة التايمز للتعليم العالي " Times higher education" البريطانية الذي ظهر قبل أيام، تصدرت جامعة القاضي عياض المرتبة الأولى مغاربيا باحتلالها للرتبة 903 ضمن ال1000 جامعة الأفضل في العالم وبذلك فهي تحافظ على المستوى المشرف (نسبيا) الذي تحققه دائما، تليها جامعة محمد الخامس بالرباط بفارق بسيط. واحتلت جامعة محمد الخامس الرتبة 924 في تصنيف " QS ranking" لسنة 2018، متقدمة على الجامعات المغربية الأخرى، وبذلك يحرز المغرب الرتبة الثالثة إفريقيا من خلال هذا التصنيف. أما الجامعات الخصوصية فلم تجد لنفسها مكانا في هذه التصنيفات. قد يعتقد البعض أن البحث العلمي بالجامعة العمومية غير موجود أو ضعيف وما إلى ذلك، وهذا غير صحيح. فهناك بحث علمي من مستوى مقبول في جميع مؤسسات التعليم العالي العمومي بالمغرب، لا يمكن بالطبع مقارنته مع نظيره بالدول المتقدمة لأسباب يعرفها الجميع. كما أن هناك أساتذة جامعيون وباحثون جيدون، منهم من يتفوق على الكثير من نظرائه بالبلاد المتقدمة، رغم الفرق الشاسع في الإمكانيات وظروف العمل. إلا أن المشكل الذي يعرقل عمل هؤلاء، أو يدفع بالبعض منهم إلى التوقف عن العمل أو غير قادر عليه، هو انعدام الشروط الضرورية للبحث العلمي من إمكانيات مادية ومختبرات ومكتبات ومجلات علمية، على الدولة أن توفرها باستمرار إن هي أرادت أن تنهض حقا بالجامعة والبحث العلمي. وفي غياب هذه الشروط ، يلجأ بعض الباحثين إلى العمل مع جامعات ومختبرات أجنبية من دول متقدمة حيث تكون هذه الأخيرة هي الرابح الأكبر، وهناك من يعتمد على إمكانياته الذاتية. ومن الطبيعي جدا أن نجد "باحثين" لا يبحثون أو يبحثون ولا يجدون شيئا، كما هو الشأن في كل جامعات الدنيا. من خلال نتائج كل التصنيفات الجادة للجامعات الدولية يظهر جليا أنه كلما كان البحث العلمي متقدما بإحدى الجامعات، كلما كانت كبيرة حظوظ فوزها برتبة متقدمة. وكما قلنا فيما سبق، فإن مستوى التكوين بالجامعة، عمومية كانت أو خاصة، مرتبط بمستوى البحث العلمي بها. ومن هنا لا بد من التساؤل عن أي تكوين هذا الذي توفره مؤسسات للتعليم العالي الخصوصي، تفتقر إلى فرق متجانسة للبحث العلمي، يدرس بها أساتذة يعملون بالتعليم العالي العمومي، غالبا ما يتم اختيارهم في إطار علاقات زبونية وليس على كفاءاتهم العلمية، حيث يشكلون نسبة كبيرة من طاقمها، في إطار العمل بالساعات الإضافية؟ لماذا لا يتم توفير هذه التكوينات داخل الجامعات العمومية ما دام أساتذتها قادرين على تدريس المواد التي تدخل ضمن هذه التكوينات، وما دامت الدولة تؤدي لهم أجورهم؟ لقد أصبح اليوم بإمكان الجامعة العمومية أن تخلق تكوينات متنوعة ومضمونة الجودة وذلك في إطار استقلاليتها، هذه الاستقلالية التي جاءت تلبية لمطلب قديم بتمكين الجامعة من وضع برامج وفتح تكوينات وفق الحاجة لذلك، عوض إتباع المساطير القديمة التي كانت تقضي بأن تأتي البرامج والمقررات من الوزارة الوصية على القطاع. وإذا قبلنا جدلا أن التكوين الجامعي العمومي لا ينتج إلا البطالة، فإننا لا نعرف ما هي حظوظ خريجي الجامعات والمدارس العليا الخاصة في الحصول على عمل، وكم هو الوقت الذي يتطلبه ذلك وما هي نسبة الذين تخرجوا منها ووجدوا عملا في الستة أشهر الأولى أو السنة الأولى بعد تخرجهم، وما هي مقادير الأجور التي يحصل عليها هؤلاء الخريجون. كل هذه الأسئلة يجب أن تجيب عليها هذه المؤسسات، التي تقدم تكوينا باهظ الثمن وتستفيد من امتيازات تقدمها لها الدولة في إطار التشجيع على هذا النوع من التعليم. إن عدم الإجابة عن هذه الأسئلة يدفع إلى الشك في مدى نجاح هذه المؤسسات في الدور الذي قيل لنا أنها وجدت من أجله، أي كبديل لتعليم عمومي أعتبر متأزما لا ينتج إلا البطالة. كما أنها لا تساهم في توظيف خريجي الجامعات العمومية كأساتذة باحثين وإداريين، بقدر يناسب إمكانياتها، عوض اعتماد أساتذة مؤقتين ومسيرين من أساتذة بالتعليم العمومي ملحقين بها. أما المدارس المستنسخة من بعض المدارس الفرنسية العليا التي تم الترخيص لها في السنوات الأخيرة بفتح أبوابها ببعض المدن المغربية، فنحن لا نعتقد أن شواهدها ستكون معادلة دوليا لنظيراتها الأصلية، لأن شروط ولوج هذه الأخيرة جد صعبة، حيث يجب المرور من الأقسام التحضيرية واجتياز مباريات لا ينجح فيها إلا التلاميذ المتميزون جدا، في حين يتم ولوج المدارس المستنسخة بالمغرب بشروط أقل صعوبة بكثير. هذه المدارس لن تعادل ولن تكون بديلا للمدارس العليا الوطنية مهما كانت أسماء المدارس التي استنسخت منها، كما أنه على مستوى التشغيل فإننا نعتقد أن دخول هذه المدارس على الخط لن يساعد على خلق وضع أحسن من المدارس الخاصة العليا الأخرى التي ساهم في خنقها وتهميشها، وربما في الأخير القضاء عليها بسبب مشكل معادلة الشواهد مع القطاع العمومي. إن التعليم العالي الخصوصي بالمغرب لا يوفر تكوينات ليست الجامعة العمومية بقادرة على توفيرها، فإمكانيات الجامعة العمومية في هذا المجال غير محدودة، من الصعب منافستها. فإذا قارنا هذا التعليم مع نظيره بالبلاد المتقدمة كفرنسا مثلا، التي بها هذان النوعان من التعليم، نجد أن هذا الأخير تعليم قائم بذاته، خلقته حاجة القطاع الخاص إليه، يقدم تكوينات لا يوفرها التعليم العالي العمومي، وتساهم مؤسساته الكبرى في مجال البحث العلمي بشكل جيد، لأنه يتوفر على أساتذة باحثين جيدين، وهو مفتوح لجميع من له القدرة والكفاءة العلمية لولوجه حتى وإن لم تكن له إمكانيات مادية كبيرة، لأن الدولة قد تؤدي له منحة لمتابعة الدراسة به. أما عندنا فلا يساهم التعليم العالي الخاص في البحث العلمي، وهو غير قادر على ذلك في وضعه الراهن، ويعتمد في وجوده على التعليم العالي العمومي في كل شيء. فمن خلال مواقعها على الأنترنيت، نرى أن الجامعات الخصوصية بالمغرب لا تتوفر في الغالب على فرق ومختبرات متجانسة للبحث والتكوين، رغم المداخيل الكبيرة التي تحصل عليها، ودعم الدولة للبعض منها. لقد راهنت الدولة في العقود الأخيرة على التعليم العالي الخصوصي بجعله بديلا للتعليم العالي العمومي في إطار التوجه نحو رفع يد الدولة عن التعليم العمومي وقطاعات أخرى، وهو ما قد يؤدي إلى الإجهاز على تجربة ظلت ناجحة إلى حد ما حتى حدود قريبة. إلا أنه، باستثناء حالات قليلة جدا، لم يكن التعليم العالي الخصوصي ناجحا كما يروَّج له، كما أنه قد يؤدي مستقبلا إلى حرمان الجامعات العمومية من الطلبة الجيدين باستقطابهم عن طريق المنح، وبالتالي القضاء على البحث العلمي في الوقت الذي تشتد المنافسة فيه بين الدول. فهؤلاء الطلبة هم العنصر الأساسي الذي يمكن الاعتماد عليه في الرفع من مستوى الجامعة العمومية والبحث العلمي. *أستاذ الرياضيات سابقا بكلية العلوم بالرباط