في سياق الحديث عن "النموذج التنموي"، أو عن التوزيع المغربي غير العادل للثروة، وفي إطار الأهمية القصوى للثقافة في أي مشروع نهضوي، يحضرني ما صاغه الفنان جورج ماتيو في كتابه "التجريد التنبُّئي" من أسئلة أجدها تنطبق على حالتنا المغربية بكثير من الإلحاح، ويمكن صياغة هذه الأسئلة كالآتي: ما هي الأولويات الحقيقية بالنسبة إلى دولة حديثة؟ هل هي الرفع من مستوى العيش وإيجاد العمل والشغل؟ هل هي العدل في الضرائب؟ هل هي ضرورة تحصيل النمو الاقتصادي، وضبط النظام والأمن؟ هل هي تنظيم وسائل الترفيه وإشعاع الثقافة؟ أم هي التعبير عن إرادة فعلية للإعلاء من شأن الإنسان؟ هل يتعين علينا أن ننتظر ترقية الإنسان تتحقق لوحدها أم علينا أن نستثمر كل الجهود من أجل انتصار الكينونة على المِلكية، وتغليب الكرامة الإنسانية على الغرائز البدائية؟ هل يجب علينا أن نوجه الثقافة ونوفر شروط تنميتها، أم نترك الحرية لكل المصالح الخاصة والمالية لتخريب ما تبقى من إنسانية حقيقية؟ يطرح هذا النمط من الأسئلة على كل من هو مدعو إلى التفكير في أي "نموذج تنموي". قد يقال بأن كل هذه الأسئلة المطروحة تستدعي أجوبة ضرورية ومناسبة. وهذا بديهي. كما يمكن أن ينعت البعض هذه الأسئلة بكونها من النوع "التجريدي" والطوباوي التي يتخيلها المثقفون الحالمون بمجتمع إنساني عادل. وهذا اتهام لا يمكن قبوله نظرا لقدرات الفكر والإبداع على التأثير في التاريخ وفي المجتمع؛ ولا سيما في المجتمعات التي تقدمت بالإنصات لأصحاب "الرأي" والفكر وجربت ذلك في الممارسات، وعاينت المكتسبات التي جناها الناس في حياتهم وعيشهم. المشكلة عندنا هي أن مفهوم "التنمية" يختزل غالبا في "الإقلاع" الاقتصادي وفي تحصيل "النمو وتراكم الرأسمال". والحال أن بعض التجارب الأوروبية نجحت في إنجاز "توزيع منصف وتضامني" للثروة، كما هو حال البلدان الاسكندنافية؛ كما أن بلدانا أسست لمقومات "الدولة- الرعاية" على مبدئي المساواة والتضامن في صيغة حماية اجتماعية شاملة، أو تغطيات صحية، أو مؤسسات تعاضد. وفي هذا السياق، لا بد من استحضار التجربة الفرنسية التي، فضلا عن نضالات الشغيلة، وجدت الدولة نفسها في حاجة إلى استلهام مبادئ "الفكر التضامني" الذي أسس له عالم الاجتماع إيميل دوركهايم، حين تبين لها أن الأسس التاريخية للدولة الاجتماعية بدأت تضعف بالتدريج، وأن شرائح اجتماعية عديدة ومتنامية مُستبعدة من سوق الشغل. وحين ظهر لها أن وظيفة الدولة لا يمكن اختزالها في المراقبة والقمع، وإنما يتعين عليها، على العكس من ذلك، توفير شروط متساوية للمواطنين وتقوية الوعي بأن الجميع يمتلك نفس القيمة، وبأن الروابط التي تجمع فئات المجتمع متداخلة. لذلك اضطرت إلى وضع أسس ووظائف ومؤسسات تضامنية يستفيد منها كل المواطنين بشكل متساو؛ غير أنه إذا استثنينا بعض ممارسات وتطبيقات "الدولة الاجتماعية" فإن النظام الرأسمالي المبني، بالضرورة، على منطق الاستغلال لا يمكنه أن يوفر شروط السعادة أو العيش الكريم لأكبر عدد من الناس. ومن ثم، فإن أي تفكير مُجدد في الموضوع يفترض استحضار تجارب في العالم تمكنت من بناء "نماذج" تنموية رائدة، ونجح قادة بلدانها في إخراج مجتمعاتهم من الفقر والخصاص وأكسبت مواطنيها شعورا أكبر بالانتماء والكرامة. ويبدو أننا مطالبون، اليوم، في المغرب بالكف عن رفع لواء الحداثة أو التنمية بحصرها في تعبيرات مظهرية وسطحية لا أثر لها في حياة الناس؛ لأننا في حاجة قصوى إلى حداثة فكرية وسياسية فعلية وإلى تنمية ترتقي بعيش "المواطنين"، لها أثر في الوعي والذوق والتمدن، ولها وقع على صعيد التوزيع الإنساني العادل لخيرات البلاد. من هنا، تفرض الأسئلة المطروحة أعلاه ذاتها على كل السياسات في المغرب. وإن الجواب عنها لا يجب أن يقتصر على إصدار توصيات أو حتى على مواقف مبدئية؛ بل يستوجب الجواب عليها تصورا للمجتمع يعتمد على نمط سياسي يسترشد بعقل عملي وعصري، ذي حس مواطني ينخرط في اختيارات اجتماعية تضامنية حقًا. إن مصداقية كل سياسة اقتصادية واجتماعية أو ثقافية تستمد عناصرها من عملية تأسيس فعلي لمقومات مادية وثقافية يتمثل انشغالها الأكبر في احترام كرامة الإنسان، وتسمح بتفتحه، وتوفر له شروط التعبير عن إبداعيته وملكاته وتلبي له أغلب حاجاته الأساسية. والجواب العملي، وليس الشعاراتي، لكل دولة عن هذه الأسئلة هو الذي يقيس إنسانية سياستها، ويبرز الأبعاد الثقافية والحضارية لاختياراتها، أو على العكس من ذلك يفضح ادعاءاتها وشعاراتها. وتؤكد تجارب العالم الرائدة أن الحديث عن "نموذج" تنموي - بالمعنى البسيط للنموذج الذي يعني أول ما يعنيه، الاقتداء بقيمه ورموزه ونخبه ومؤسساته وتمدّنه، وتوطينها في الأذهان والمواقف والسلوكات- لا يمكن الاطمئنان إلى مصداقيته من دون العمل على وضع سياسة ثقافية تتفاعل، عضويا، مع المجهودات التنموية، من خلال إقرار سياسات جديدة تدمج العوامل الثقافية في المخططات والبرامج بطرق مبتكرة، وتجعل الجميع يكتشف القيمة الاقتصادية والحضارية للثقافة في تنوعها وغناها، وبما يسمح لها باحتلال المكانة الملائمة في النهضة المندمجة، ويِؤمن شروط تطويرها، وبالتالي تفتح لمن يحملها آفاق انخراط، بطرق وظيفية ومُنتجة، في الممارسة والحياة اليومية والاجتماعية. وتبرز الأدبيات والتقارير التي حررت حول ممكنات "الإقلاع" أو "بناء مقومات مجتمع صاعد"، باختلاف منطلقات أصحابها وأهدافهم، على أن المغرب في حاجة قصوى إلى إعادة بناء "براديغم جديد للتنمية". كان آخر هذه الأعمال ما نشره جان بيير شفور بعنوان "المغرب في أفق 2040، الاستثمار في الرأسمال غير المادي من أجل تسريع الصعود الاقتصادي" (منشورات مجموعة البنك الدولي-2018). ومفاد أطروحته أنه يتعين على البراديغم الجديد أن يتكئ على مفهوم "المجتمع المفتوح"، كما نظّر له الفيلسوف كارل بوبر (نعود مرّة أخرى إلى أهمية المفكرين ومنتجي المعرفة لتنوير مسارات السياسة)؛ لأن ذلك يشكل المنحى المُمكن لكي يصير المغرب "أول بلد صاعد غير منتج للبترول في أفريقيا الشمالية، وذلك بإعادة توجيه المجهودات العمومية نحو تقوية المؤسسات، وبإعادة تركيز عمل الدولة على الوظائف السيادية، وبتطوير الرأسمال البشري والاجتماعي". ويختم جان بيير شيفور فكرته بالتأكيد على أن هذا "البراديغم" الذي يتصوره ليس "بعيدا عن مواصفات سيناريو "المغرب الممكن" الذي تمت بلورته سنة 2005 في إطار تقرير الخمسينية" (ص 137). وسينتبه القارئ لهذا الكتاب -التقرير إلى أن صاحبه، ومهما كانت خبرته وعلمه، كلما تعلق الأمر بتحليل رصين للاقتصاد والمجتمع والثقافة في المغرب، يعود إلى ما أنتجه الباحثون والنخبة العلمية المغربية. ولعل إصرار "منظري البنك الدولي" على أهمية "الرأسمال غير المادي" لا يكمن وراءه عشق خاص لديهم بالقيمة القصوى للتربية والتكوين والثقافة والحقوق، أو حماس استثنائي لتوطين مبادئ الثقة والكفاءة والاعتراف داخل المؤسسات وفي المعاملات، بحكم أن لهذه المؤسسة المالية الدولية حسابات محددة وأهدافا لا تخفى على أحد. بل يتعلق الأمر بقيم مُؤسسة لكل نهضة ولكل "نموذج تنموي"، إذ إن تجارب كوريا الجنوبية وسنغافورة، على سبيل المثال لا الحصر، لم تنتظر اهتداء البنك الدولي في أدبياته إلى أهمية الرأسمال غير المادي كمُقوم من مقومات التنمية في أواسط تسعينيات القرن الماضي، طالما أن هذين البلدين انطلقا في بناء نموذجهما منذ ستينيات القرن نفسه، وانتبها في سياساتهما العمومية إلى أن "بناء القدرات والكفاءات" بالتربية والثقافة، وإلى أن الاستثمار الأمثل في الرأسمال غير المادي هو "الطريق الملكي" لتجاوز مجتمع التفاوت والإذلال وبناء مجتمع الإنصاف والكرامة. وإزاء مسلسل الانتقاص من العامل الثقافي في السياسات العمومية في المغرب، كما داخل أوساط المقاولات الخاصة وأصحاب الثروات، وفي سياق اهتزاز المرجعيات والقيم، وأمام الاحتباس السياسي وضجيج بعض وسائل الإعلام، تؤكد كل الدلائل أن العاملين في كافة الحقول الثقافية والمثقفين فقدوا الثقة في أفكارهم؛ فالأطر التقليدية التي كانت عادة تسمح للمثقفين بالتعبير عن إنتاجهم وأفكارهم مثل الجامعة تتعرض للإهمال والتراجع. وأنتج الاستخفاف السياسي المستدام بالمثقفين والثقافة، في الدولة كما في الأحزاب والهيئات التأطيرية المختلفة، ظواهر مرضية جراء الاحتواء المناسباتي وتمييع الفعل الثقافي. كما حركت بعض وسائل الإعلام، المكتوبة والسمعية البصرية والإلكترونية، أقلامًا وأصواتًا تصوغ خطابات تتقدم كأنها تمتلك الكفاية والمشروعية للحلول محل المبدع والمثقف النقدي والمؤرخ.. وأمام هذا الثالوث: انهيار الجامعة، الاحتواء السياسي، التباس الأدوار، يتقدم المبدعون والمثقفون، باختلاف وتفاوت مجالهم وعطائهم، وكأنهم فقدوا البوصلة؛ إذ نجد منهم من التجأ إلى الصمت، إما احتجاجا على التلوث السائد أو الالتباس المستشري، أو توخيا للسلامة بالانكماش على الذات والانغماس في غربة مريحة، وإما بقول البعض بأن التفكير أو الإبداع لم يعد مجديا ما دام الجمهور المفترض أن يتلقاه لم يتم إعداده بالشكل المطلوب. ويكمن السبب الرئيسي، في نظري، في أن ما نعت ب"النموذج التنموي" المغربي، الذي تمّ الإقرار الرسمي بمحدوديته أو بفشله، لم يتعامل، يوما، مع الفكر والثقافة من زاوية النظر إليهما كثروة مجتمعية ورافعة للتنمية، ولم يعمل على توطيد الأهمية الوظيفية للثقافة في المؤسسات التربوية وفي مختلف أماكن العيش ومجالات الرأسمال غير المادي الوطني، وجعلها في صلب أي مشروع تنموي، علما بأن إبراز أهمية القيم الثقافية والوعي بأن الرأسمال غير المادي لأمة ما يكمن في التأكيد على أن الأخلاق تقاس بإرادة تحقيق الخير لأكبر عدد ممكن من الناس، وتحقيق العيش المشترك والاندماج الاجتماعي، ومحاربة كافة صور الإذلال. اعتبارا لما سبق، يبدو أن المغرب يوجد في مفترق طرق، وفي لحظة مفصلية من تاريخه ما دامت أعلى سلطة في الدولة تدعو إلى الانتباه إلى المخاطر الاقتصادية والمجتمعية والثقافية التي تتهدد البلاد، إذا ما تم الاستمرار في السياسات العمومية نفسها، وتلح على الإسراع بوضع أسس "نموذج تنموي" جديد. وبإزاء ما يعتمل داخل المجتمع من تحركات ولغات جديدة يبدو المغرب في حاجة ماسّة، اليوم وليس غذا، إلى منسوب كبير من التعقّل والعقلانية، وإلى قراءة حكيمة لتحولات وانتظارات وحقوق فئات واسعة من المجتمع. وظنّي أنه لا مناص من استنهاض ضمائر كافة النخب والمؤسسات المسؤولة في المملكة للوعي بأن المغرب في حاجة قصوى إلى "يقظة جماعية" قوامها الالتزام الجدي بالتطبيق الفعلي للقيم الكبرى التي جاء بها دستور 2011، وعلى رأسها مبادئ العدالة والتضامن والمعرفة، وتصريفها في شكل سياسات كفيلة لكي تتحول إلى مكاسب جماعية ملموسة؛ إذ بدونها يصعب تصور نجاح المشروع التنموي في ضمان استمرارية آليات الاندماج الاجتماعي والتماسك الوطني. لذلك، لا رجاء في أي "نموذج تنموي" من دون الجواب العملي عن الأسئلة الكبرى التي طرحناها في البداية، وستكون مضيعة للوقت وهدر للإمكانات، مرة أخرى، إذا لم توضع قضايا التربية والثقافة، بطرق مُبتكرة ومُستدامة، في طليعة أي تصور أو سياسة؟