ربما يقبع المعنى في أقبح متلازمات العبث. ويصلنا الدرس من فظاعات الفوضى وتأتي الكوارث تباعا لتحل رتابة الزمن واضمحلال الحياة فيه. فمن سنن التاريخ أن يتحرك الموت. وقد صدق من قال إن لا شيء ينضاف ولا شيء يضيع، كل ما يجري هو النقلة من وإلى "لاشيء"... هذا ما يقع في وطن لم يعد لنا فيه سوى بصيص انتماء. هروب جماعي نحو البحر، فيأكل منا السمك أعز شبابنا التواق للكرامة، وهي أبسط ما يريد الإنسان امتلاكه. ومتى كان البحر ملاذا سوى لليائسين والمندحرين في الحياة. كثيرا ما أقنعنا أنفسنا بخيلاء غريب أن لبلادنا حظوة جغرافية خاصة تجعلنا أقرب العرب والأفارقة والأمازيغ لأوروبا، إذ لا تفصلنا عنها سوى 14 كلم ليس إلا. لكن لم نكن لنعلم، ونحن ننتشي، أنه كان علينا أن نحتسي ما يفيقنا لنكتشف أنها مسافة "الذل والذعر" بل وأفتك مضيق وأكثرهم قتلا للإنسان. سأل سائل ماكر " ماذا يفصل بين الإنسان والحيوان إذن؟" فأجابه ذلك الذي لم يعد ينظر للحياة إلا في معانيها المباشرة بدون سجع ولا فلسفة " إن الفاصل هو البحر الأبيض المتوسط" كم أحببت أستاذي صلاح بوسريف، المفكر المنضبط، عندما استغرب عدم مواكبة الأدب لهذه التراجيديا المغربية التي انفطرت "فجأة" من شكلها المحتشم إلى شكلها الخادش، وعجز الفن والمسرح والسينما عن تشخيص وتمثيل وترميز كل هذا الألم المسمى مغربا. ربما نحن أكثر درجة في الألم وأقل درجة في تملكه والوعي به والتعبير عنه. الزهايمر إذن هذا الذي يجعلنا ننسى أو ربما متلازمة نادرة من نوبات الصرع والغيبوبة تجعلنا، لكثرة تردداتها، غير قادرين على الاستيعاب والإدراك والفهم والبوح. ربما صدق من قال انه فقط فاجعة واحدة تكفي لإنتاج أدب فوار: حرب واحدة، إبادة واحدة، قنبلة ذرية واحدة، مجاعة واحدة، استيطان واحد...أما إذا اجتمعت كل هذه الفواجع، سينتهي الأمل في تغريد قصائد الألم وننفق كما تنفق كائنات بدون كينونة. هل من المجدي أن أذكر كل الفواجع الأخيرة؟ قتل يتيم داخل مؤسسة للرعاية الاجتماعية، وقتل طالبة هاربة في قارب للهجرة السرية، وفرار أكثر من 6000 شاب خلال سنة، وتهجير قسري لأفارقة، وسقوط مهو لكفيف وسط ردهة وزارة؟... وإذا افترضنا جدلا أن كل ذلك "بمحض الصدفة" وهي أحداث متفرقة عابرة (وهو افتراض يغيظني)، ألا يمكن أن نعتبرها فاجعة كبرى تلك المرتبطة "بموت الدولة"؟ اقتلها كما قتل نيتشه "الذات الإلهية" من كثرة تجبر الإكليروس والكنائس الأوروبية بأدلوجات خاوية متسلطة. ماتت الدولة لأن الأسباب القديمة المبررة لوجودها انقرضت: انقرضت فكرة حماية المواطنين وتعلق المواطنين بها كنبراس للعدالة والحق. كما انقرضت أدلوجة المساواة الشاملة أمام سلطة الدولة وتكافؤ فرصنا جميعا في العيش والكرامة والحقوق. وانقرضت فكرة تميزنا عن جوارنا بالأصالة والتاريخ والثقافة. وأخيرا انقرضت أدلوجة امتدادنا الأفريقي وترحابنا المفرط بالأفارقة إخواننا في المواطنة والأصول. نعم، كثير من المعاني الضالة لعقيدة خاطئة ستصطدم بمبدإ الواقع الذي لا يقبل أن نستمر هكذا: أن ننفق كل ما لدينا في تبرير أشكال بقاءنا وليس تمويل مضامين وجودنا، أن ننفق كل ما لدينا للحفاظ على توازن كرسي مائل خوفا من السقوط، أن ننفق كل ما لدينا لتبرير وجود ديمقراطية بمؤسسات كثيرة وباهظة وغير ناجعة فقط لأننا نعتبرها فاتورة وجب تأديتها لا غير، أن نتعامل مع المدرسة بذرائعية ونفعية "سوقية" فقط لأننا نعتقد أنه بنينا مدارس ووزعنا حقائب بالمجان. المدرسة ليست هي جدرانها، والمسرح ليس هو البهو الفسيح والخشبة الفخمة والحكومة ليس هي عدد وزراءها وعدد اجتماعاتهم وتقاريرهم... المدرسة رسالة لتحقيق هدف حضاري، والمسرح فاعلية في الفن والتعبير أينما حل الإنسان وارتحل، والحكومة حكامة مشروع رصين وذكي في التنمية. أسأل الله أن يكون ميولنا وانبهارنا للبنايات والمنتجعات والقطارات السريعة والصور والأشكال، فقط نزوة عابرة. لا مناص لنا أن نعود حتما وفورا للإنسان المغربي ونجعله يشارك في كل ما يدور حوله. وليشارك عليه أن "يقرأ" وهو الشرط الوحيد "للدعوة والدين والجنة"، وليشارك عليه أن "يعلم"، وتصله أهم المعلومات المرتبطة بمصيره، وليشارك عليه أن يحاسب " يحاسب من فوضه أموره" بشكل سياسي وليس إلهي. هجرته وهروبه وانتكاسته آتية من تعسف "عقيدة الدولة" عليه... المغربي المسكين يبحث الآن عن عقيدة بديلة حتى ولو كانت مميتة.