سعيد الوجاني / هل حقا ان الاشتراكية تعني الكفر والإلحاد كما تزعم ذلك اغلب منظمات الإسلام السياسي في مواجهتها لخصومها من الاتجاهات المقابلة ؟ تمت خلط لذا هذا الاتجاه الذي يعتبر الاشتراكية منافية ومناقضة للدين . وان مكمن الخطأ هنا هو بالنسبة للقارئ العادي الذي قد يختلط عليه الحابل بالنابل لمجرد سماعه لكلمة الاشتراكية، و خاصة اذا كان من يتولى الشرح والتفسير ينطلق من مرجعيات فكرية تهدف إلى خلق وضع نمطي على شاكلة ما تحلم به تلك المرجعيات ، وهذا ما يؤدي في الغالب الى إشهار ورقة التكفير والخروج عن الملة وبالتالي شرعنة العنف باسم الجهاد في الكفار والمشركين . وبالرجوع إلى الاشتراكية كفلسفة نستنتج أن ما عرفته البشرية من نظم اشتراكية حكمت العالم باسم الاشتراكية المغيبة في مناهج الحكم السياسي ، كان عبارة عن خطوط تحريفية في النظرية الاشتراكية ولم يكن الاشتراكية في حلتها المثلى كما حث على ذلك لقران ، وكما كان من ممارسات طبعت حقبة العديد من الخلفاء وعلى رأسهم الخليفة عمر بن الخطاب . لقد أسيئ الى الاشتراكية بممارسات كانت تعكس الصراع الإيديولوجي الذي قسم المتكلمين باسم الاشتراكية إلى ملل ونحل ، حتى غدا كل واحد منهم يتهم الآخر بالخيانة والتحريفية في النظرية الاشتراكية ، فسادت باسم الدفاع عن المبادئ الاشتراكية، التوتاليتارية والقبضة الحديدة وانتشرت المقصلات طول أرجاء البلاد التي حكمت باسم اشتراكية مفترى عليها في خطابات السياسيين الديماغوجييين ،و قد وصل الأمر في مراحل الصراع ان وظفت الاشتراكية في التصنيف بين القوى الدينية وبين القوى الاشتراكية ، بين القوى المؤمنة والقوى الكافرة ، ووصل الأمر بهذا الصراع ان انغرس حتى في أحضان القوى التي تتكلم باسم الدين بين الرجعيين الوصوليين وبين الجهاديين الثوريين الذي وجدوا في خطابات ابن تيمية مرجعية تغنيهم عن كل اجتهاد. إذن ما هي العلاقة بين الدين والاشتراكية ، ما هي التقاطعات المفصلية بينهما ، وما هي الشبهات التي يمكن ان تختلط في ذهنية رجل الدين الجاحد لتبرير التكفير والفسق ورمي الآخرين بالكفر ؟ في نظرنا توجد ثلاث تناقضات ظاهرية تختلط وتعتري ذهن مسيري وزعماء الإسلام السياسي في عالمنا العربي، كما أنها تعتري ذهن الإنسان العادي، والأكثرية من المواطنين الذين تختلط عليهم الأمور، وخاصة في وجود من له مصلحة سياسية لتشويه الصورة وإظهار الوضع على غير حقيقته . وهنا يتساءل العديد من المثقفين المغاربة وبصدق عن ماهية العلاقة بين الإيمان بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وبين الاعتقاد بان الاشتراكية المثالية في طابعها الإنساني تبقى الحل الحقيقي لكل مشكلات التخلف والظلم الاجتماعي الذي يعاني منه السواد الأعظم من المواطنين . وحتى نجيب قدر الإمكان عن هذه التساؤلات لابد بداية من ان نحدد التناقضات الظاهرية التي تختلط في ذهنية زعماء الإسلام السياسي ومريديهم بشكل أدق . ا التناقض الأول : يتلخص هذا التناقض في ان الدين كعقيدة وليس كإيديولوجية هو فلسفة شمولية كاملة مصدرها السماء ، وان الاشتراكية طرحت على الناس في العصر الحديث كفلسفة شاملة أيضا مصدرها البشر الذين عانوا الظلم والطغيان وبالتالي لا بد من حصول التناقض الأساسي بين الفلسفتين . ب التناقض الثاني جاء على أساس ان الدين يقوم في جانب منه على الغيب والإيمان بالغيبيات ، بينما الاشتراكية تستند على العلم والحجة والدليل ونتائج الاختبار ، وعليه يأتي التناقض بين الفلسفتين بسبب اختلاف أسسهما . ج التناقض الثالث نتج عن ان الأديان فسرت في زمان معين ولا يزال هذا التفسير قائما ومستمرا ونتأسف له بحيث يعتبر ان الدين قيدا يعرقل الطموح والتطور والتقدم ، كما تعتبر تفسيرات الدين محافظة تقيد الإنسان وتعرقل حريته وحركته ، بينما الاشتراكية حركة طامحة للتغيير والتطور والتقدم . وعليه نقول اذا كان الدين يفسر انه تجميد لحركة الإنسان ، بينما الاشتراكية حركة تدفع الى الإمام ، فان حصول تناقض بين المحافظة والتغيير تبقى مسالة عادية وعادية جدا . لكن الخطورة تظل في كيفية توظيف هذه التناقضات بما لا ينسجم وطبيعة العلاقة الحقيقة بين الدين كعقيدة والاشتراكية كإيديولوجية ، وهذا ما سنوضحه بكل تفصيل في شرح وتفسير التناقضات الثلاث بين الدين وبين الاشتراكية . 1 التناقض الأول : ان الدين فلسفة شاملة كاملة تهم الإنسان ، علاقة الإنسان بالإنسان ، علاقته بالله ، بالأشياء ، بالكون والحياة .. لخ كما انه يهتم بالإنسان من قبل ان يولد وبعد ان يولد وحتى ان يموت وما بعد الموت . واذا كانت الاشتراكية كإيديولوجية طرحت أيضا انها فلسفة شاملة كاملة شانها شان الدين فأين يكمن وجه الخطأ بينهما ؟ . يلاحظ ان الدين كعقيدة وخاصة الدين الإسلامي ، لم يتعرض لكل كبيرة وصغيرة ولكل مجالات الحياة بكل تفاصيلها . بل قدم لنا تصورا فلسفيا لما قبل الحياة وإثنائها وبعدها ، أي انه حدد لنا حدودا أساسية ومبادئ عامة يجب ان تستند إليها حياتنا العامة ، وبالتالي هو لم يقدم لنا تصورا مفصلا ودقيقا للمسائل ، وإلا لكان الإسلام قد صادر عقولنا وتركنا بدونها كالكائنات الأخرى . والإسلام أهم ما يميزه عن الديانات الأخرى هو احترامه العظيم للعقل الإنساني ، ولا ننسى هنا ان فلاسفتنا سبق ان قالوا انه لو خير الإنسان بين العقل والنقل عليه ان يختار عقله ، لان العقل هو الذي يوصل الإنسان الى الدين والإيمان وليس العكس . ومن هنا فان الشريعة الإسلامية تعتبر ان المجنون ليس له دين ،مثل ان جميع القوانين الوضعية أبطلت التصرفات القانونية التي يجريها الإنسان وهو في غير قوته العقلية . ان العقل هو آلة ضخمة معقدة وله وظائف خاصة وليس فقط مجرد جوهرة للزينة وقطعة فنية . لقد أرادنا الله ان نستخدم العقل في كل زمان ومكان ، ومن ثم اذا جاء الدين ليصادر عمله ووظيفته فانه سيتناقض مع إرادة الله ، وبالتالي لا يمكن اعتباره دينا . ان الذي يميز الإنسان عن الكائنات الأخرى هو العقل سليما قويا وليس مغيبا او مخمورا ، ومن هنا جاءت الدعوة لتجنب شرب الخمر رغم فوائدها الكثيرة لأنها تغيب عقل الإنسان وتخمره . ولان الله لا يريد لعبده غير الخير ، ولان الدين لا يريد للإنسان سوى الصلاح والفلاح ولا يريد ان تغيب عقول المؤمنين لحظة وحدة فانه حرم كل شيء من شانه ان يؤدي الى فقدان ميزة العقل . وإذا تمعنا في جميع صور القران سنكتشف انه لا توجد سورة واحدة لا تدعو الى استعمال العقل وتشغيله مثل قوله تعالى : " لعلهم يعقلون .. لعلهم يتذكرون .. لعلهم يتدبرون .. وانظروا ما في السماوات والأرض .. يا أولي الألباب ..لخ" . فهل بعد هذا ان يأتي الدين ويحدد لنا بكل تفصيل كل شيء يصادر منا عقولنا ؟ لقد جاء الدين بفلسفة شمولية كاملة ولم يفصل كل ما يتعلق بحياتنا من نظم سياسية واجتماعية واقتصادية وترك لنا ، أي لعقولنا ان تتولى أمر معالجة هذه الظواهر ،ومن هنا جاء الاجتهاد كمصدر هام من مصادر التشريع الإسلامي . ان مقولة ان الدين الإسلامي قدم لنا كل ما يلزمنا في حياتنا هي عملية لإلغاء عقولنا بشكل يجعلنا سواسية مع الكائنات الجامدة ، وهذا يتناقض مع قوله تعالى انه جعل الإنسان خليفته في الأرض وميزه عن الكائنات الأخرى بالعقل والإدراك . وكما قلنا ان الإسلام جاء بمبادئ عامة ، ولم يحسم في التفاصيل التي تبقى من عقل الإنسان ، فان الذين يروجون لخطاب ان الاشتراكية هي فلسفة شمولية كاملة يسقطون في نفس الخطأ التي سقطت فيه الاتجاهات الإسلامية بدافع الغرور والاندفاع الأعمى . فاذا كان ماركس قد تحدث فلسفيا في علم الاجتماع والاقتصاد والفن والسياسة فليس معنى ذلك ان الاشتراكية قد أصبحت فلسفة صالحة لكل زمان ومكان وفلسفة شاملة كاملة . ان الاشتراكية تدخل في إطار الحيز والمجال الذي تركه الدين للعقل البشري ، أي أنها اجتهاد يتناول مشكلات الحياة ويضع حلولا لها وبشكل أساسي على الصعيدين التخلف الاقتصادي والظلم الاجتماعي . هكذا إذن ينتفي التناقض المصطنع بين الدين وبين الاشتراكية المثالية الإنسانية التي تركز على التكافل والتكافؤ والتضامن المجتمعي بين أفراد المجتمع الواحد ، أي نفي صفة الإلحاد والكفر عن الدور الاجتماعي والإنساني للاشتراكية الإنسانية ، ومن ثم دحض التفسيرات المغرضة والممارسات المتطرفة إسلامية كانت ام ماركسية ، حيث يطلق هؤلاء بعض الأوصاف القد حية مثل الرجعية ، التحريفية والارتدادية على كل من يخالف معتقدهم وتصورهم لفهم جدلية التاريخ والكون . 2 التناقض الثاني ينتج عن مقولة ان الدين كدين يعتمد أساسا على الغيب وان الاشتراكية الإنسانية تعتمد أساسا على شواهد العلم والتجربة لأنها من ابتكار العقل البشري الذي يتولى أمر الجزئيات والتفاصيل بدل الدين الذي يحدد فقط العموميات . ان هذه المقولة في ظاهرها صحيحة نوعا ما لان الدين مثلا او بالأحرى إن أول آية في القران تقول :" الم … ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب " . أذن الإسلام والدين عموما في أساسه يعتمد على الغيب ، فنحن لا نرى الله ولا نلمسه ولا نسمعه وإنما ندركه بعقولنا . اما الاشتراكية كاجتهاد إنساني فهي حصيلة تجربة إنسانية وتطور إنساني قائم على العلم والبحث والتمحيص ، أي الاستنتاج من خلال التجربة والممارسة . ومع ذلك نعتبر هذا التفسير والفهم للدين غير صحيح . لماذا ؟ لان الجانب الغيبي في الدين الإسلامي صغير للغاية ولا يتعدى أمورا قليلة . " ان الله ينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي ارض تموت .." أما ما عدا هذا في الإسلام فكله قائم على حقائق العلم والمعرفة ، ثم ان الإسلام يمجد العلم بشكل ليس له نظير ، كما يمجد العلماء . ".. ان العلماء ورثة الأنبياء … اطلب العلم ولو في الصين … ان الله والرسول يشهد انه هو الله وأولوا العلم …لخ " . بل ان الدين الإسلامي يرفع من قيمة العلم أكثر بكثير من العبادات حتى انه يؤكد ان تفكير لحظة واحدة يوازي تعبد ألف ركعة . وسنضرب هنا مثالا معروفا عند جميع العارفين بأصول علم السياسة والفكر السياسي وعلم الاجتماع السياسي يؤكد ان الإسلام يقوم على العقل والفكر والعلم واحترام العلماء . في واقعة الخندق الشهيرة وأمام جحافل جيوش الأعداء ، اقترح سلمان الفارسي ان يحفر المسلمون خندقا حول مواقعهم وهذا فن من فنون الحرب وعلم في كيفية رد الأعداء فقام النبي وحمل معوله وبدا بالحفر وشارك الناس جميعا في عملية الحفر . بعد انتهاء المعركة بنصر المسلمين لمس الجميع أهمية اقتراح سلمان . فتنازع الأنصار والمهاجرون حول انتماء سلمان فقال المهاجرون ان سلمان منا ، وقال الأنصار ان سلمان منا ، فتدخل الرسول حاسما الأمر ان سلمان من أهل البيت . وان احد أهم العبر في الحادثة هي انها تشير الى تقدم الفكر والعلم والاجتهاد والتدبر في لحظة الحرج . ونستنتج هنا انه لا الوحي نزل ليقول للرسول ولا القران أمر بحفر الخندق ، بل ترك الرسول والمؤمنين معه لمواجهة المشكلة الراهنة والغير المتوقعة ، مشكلة الضعف إزاء القوة ، والقلة إزاء الكثرة ، والفقر إزاء الغنى . وبعد التفكير العميق وإعمال العقل أتت فكرة سلمان بحفر الخندق كحل للمشكلة التي فرضت نفسها في آخر لحظة . ولنفترض جدلا ان القران او الوحي آنذاك أمر بحفر بالخندق لتحول الأمر الى نص ملزم يجب التقيد به ، ولنأت بعد ألف سنة لنقول يجب حفر الخندق او الخنادق في مواجهة طائرات ف 35 والقاذفات الإستراتيجية والصواريخ الموجهة العابرة للقارات ، وهو ما يعني انتحار عن طيب خاطر أمام العدو المدجج بالعلم والمعرفة وبمختلف الأسلحة الفتاكة . وهذا الأمر يتنافى بالمطلق مع حكمة الله وسنته التي تحض المسلمين على استعمال العقل والتمسك بالعلم . ومن ناحية أخرى ان الاشتراكية الإنسانية لا تقوم فقط على العلم ولا على الماديات التي يرجع الفضل في إنتاجها للعقل البشري ، بل ان لها جانب روحي وأخلاقي يتجسد في القيم الإنسانية المثلى التي تتغلغل في عقول ووجدان وضمير الإنسان فتدفعه الى تقديم كل ما يستطيع في سبيل خدمة الإنسانية ومحاربة الظلم والطغيان . ففي هذا المجال لا تناقض بين الدين وبين الاشتراكية الإنسانية نظرا لان كل منهما في خدمة الإنسان المستضعف والضعيف . 3 التناقض الثالث الذي تسقط فيه منظمات الإسلام السياسي وأشباه العلمانيين ، هو ان الأديان قد تم تفسيرها في بعض الأحيان بشكل يجعلها ضد التقدم والتطور . والسبب في ذلك ربما يرجع الى التبريرات الواهية التي قدمها بعض المسيحيين تبريرا لموقف الكنيسة في أوربة المعارض باستمرار للعقل والعلم والمعرفة . ان الكنيسة حين فعلت ذلك فإنها كانت تدافع ليس عن الدين ولا عن المتدينين ، ولكنها فعلت ذلك للدفاع عن سلطتها ومصالحها في المجتمع ، وبالتالي كان من الطبيعي ان يحصل الصدام بين المؤيدين للعلم والتقدم وبين رجال الكنيسة الذين استخدموا الدين ليتهموا العلماء بالكفر والسفسطة والهرطقة ، ومن هنا كانت بداية الدعوات لفصل الدين عن الدولة ، رغم ان حقيقة أوربة دينية وليست لائيكية كما يزعم العديد من المعجبين بالنمط الأوربي في الحكم والحياة . ان هذا الواقع المر لم يسلم منه المسلمون كذلك نتيجة سقوطهم في دائرة تأثير ( الحضارة ) الغربية بعد افول حضارتنا ، فتم إيقاف الاجتهاد واستعمال العقل، وحرفت الأحاديث الكثيرة التي تحرض ضد العلم والمعرفة والتقدم مثل ( كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار ) فانتشرت الخرافة وسادت المسكنة العقل العربي العاقر إلا من ترديد قواعد الوضوء وعذاب القبر . وإضافة الى التأثير الغربي كانت هناك ضرورة لهذا الموقف ناتجة عن حرص الفقهاء المتسلطين على استمرار نشاطهم واستغلالهم الناس ، فكان ذلك سببا في الجمود الحضاري الذي لا نزال نعاني منه الى اليوم ، الأمر الذي يتناقض مع روح وجوهر الدين . لذا لا بد ان نفرق بين حقيقة الدين وحقيقة ما يفعله المتدينون لان الإسلام شيء والمسلمون العرب شيء آخر كما ان الكنيسة شيء والمسيحيون شيئ آخر فان الاشتراكية كذلك شيء و ( الاشتراكيون العرب ) شيء آخر . ان الإسلام بالذات ليس شيئا محافظا او جامدا ولا يمنع بل يحرض الإنسان على الحركة ، حتى ان التعريف الإسلامي للإنسان انه خلية نفعية تقدمية تؤدي خيرا لها ولمجتمعها وللبشرية جمعاء ، انه خلية تغييرية غير ساكنة لان الفرق في الدين الإسلامي بين الحياة والموت هو الفرق بين السكون والحركة . وما يؤكد كون الإسلام دين تقدم وتطور ، هو ان المسلمين حين فهموه وقرروا العمل على أساسه صنعوا حضارة عظيمة ولم يمنعهم تدينهم آنذاك من تحقيق قفزة حضارية هائلة وضعتهم في مقدمة الشعوب تطورا وتقدما ، وبالتالي لا يمكن اتهام الإسلام بالمحافظة او الجمود لأنه لم يقف حجرة أمام طموحات الإنسان ، بل يجدر بنا إذا كان لابد من الاتهام ان نتهم المسلمين العرب الذين حرفوا وانحرفوا عن الصراط المستقيم . هكذا حين نفهم حقائق الأمور ولا نقزمها او نضخمها او نصطنع صورا لها تتنافى مع جوهرها .. عندما نفعل ذلك نحل المشكلة وبالتالي لا يعود ثمة مجال للحرج بين ان يكون الإنسان مؤمنا متدينا وملتزما يدينه، وفي نفس الوقت ملتزم بالاشتراكية الإنسانية التي تقوم على التكافؤ ، التكافل والتضامن بين أفراد المجتمع ، أي الاشتراكية في معناها الإنساني الخيري الشمولي . وحتى يتم الإلمام بالموضوع ونعطي تفسيرا علميا لعلاقة الدين بالاشتراكية الإنسانية المثالية في معناها الشمولي ، سنحاول إبداء حكم الدين الإسلامي في الركائز الأربع للاشتراكية والتي تعني الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج الرئيسية في المجتمع والعمل كمصدر أساسي ووحيد للرزق، ثم سياسة التخطيط المركزي التي تعتبر ضرورة لتحقيق العدل والتقدم وان المصلحة العامة تتقدم على المصلحة الخاصة . ا هل الدين الإسلامي يحرم او يعارض ان تكون مصادر ووسائل الإنتاج الرئيسية في الدولة مملوكة ملكية جماعية ؟ . اعتقد انه اذا نفى الدين ذلك وقال لا ، فإننا سنعترف أننا على خطا . ولكن الدين لا يكتفي بذلك بل انه يصل الى درجة ان الملكية الخاصة في العقارات لا يعترف بها على أساس ان " الأرض خلقها للأنام " ، " وأنفقوا مما رزقكم الله " ، وان الأرض لمن يزرعها حتى اذا كنت تملك ألف هكتار وتركتها بغير زراعة ثلاثة أزمنة وجاء من يزرعها فهي له ، بل ان الإيجار في الإسلام لا يصح أبدا في العلاقة بين وسيلة الإنتاج وبين العامل بحيث ان وسيلة الإنتاج ليس لها دخل ، وإنما الدخل كله للعمل ، وعليه فان ما يأخذه صاحب رأس المال هو مقابل المضاربة ، لان رأس المال معرض للهلاك والتلف وبالتالي لا يأخذه مقابل قعوده لأنه عندئذ يعتبر فائدة والفائدة محرمة . ان الإسلام هو ضد الاستغلال لأنه لا يريد لأحد ان يستغل جهد الآخر ويبقى هو بدون عمل يأكل ويصرف من فائض ماله بشكل يضر مجتمعه . وللملكية في الإسلام وظيفة اجتماعية أساسا . فاذا رأى المجتمع ان من مصلحته ان تكون وسائل الإنتاج الرئيسية مملوكة ملكية عامة فهذا مباح في الدين ، بل ان الدين يحث عليه والنبي يقول ان الناس شركاء في ثلاث : " الماء والكلأ والنار " النار هي الطاقة ، والطاقة هي الصناعة . اما الماء والكلأ فيعنيان الزراعة . اما " الحمى " أي الأرض التي تقتطع من ملكية المسلمين لكي تكون مشاعا لهم ، فهي مسلمة دينيا وليس هناك خلاف حولها وحول ان وسيلتها التأميم . ان الدين يأمر " خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها " لا حظوا هنا ان الدين يقول خذ بلهجة الأمر وليس تلقى او انتظر ليعطوك كهبة او عطية تمني بها النفس . ويقول أيضا " من كان لديه فضل زاد فليعد به من لا زاد له " ، والفضل أي ما زاد عن الحاجة الضرورية للاستهلاك ليوم او لثلاثة أيام او لحول حسب مختلف التفسيرات لكلمة فضل . ثم قوله تعالى " والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب اليم " . والملاحظ هنا ان كلمة بشرهم أتت بشكل يناقض معناها العادي لتعبر وبالواضح عن منتهى السخرية من الذين يكنزون الأموال . هناك حديث شريف يقول " من كان لديه فضل زاد فليعد به على من لا زاد له ، ومن له فضل ماء فليعد به على من لا ماء له ، ومن كان لديه فضل مأوى فليعد به من لا مأوى له ، ومن كان لديه فضل ظهر فليعد به من لا ظهر له …لخ " وظل الرسول يعدد حتى ظن الصحابة انهم لا يملكون شيئا . واذا كان هذا الفضل العظيم هو قصد ومبتغى الدين كعقيدة وسلوك ، فان الاشتراكية الإنسانية كفلسفة هي نظام اجتماعي اقتصادي يتصدى لتنظيم طاقات وإمكانيات المجتمع ككل بما يحقق حل مشكلاته ويخدم مصلحة الناس ويؤمن لهم عيشا كريما دون تمييز ، وبذلك فالاشتراكية الإنسانية كنقيض للظلم الاجتماعي ، يمكن النظر اليها كأسلوب معاصر يستلهم الحديث الشريف في سعيه لمواجهة المحنة التي يواجهها الإنسان . فإذا كان الله سبحانه وتعالى قد قال " ولقد كرمنا بني آدم " فأين نحن من هذا التكريم لابن آدم وهو جائع ، حافي القدمين ، لا مأوى له ولا لباس يستر به عورته ومعرض للظلم وسلب حقوقه التي اعترف له بها الإسلام قبل ان تعترف له بها جميع النظريات الاشتراكية التي عرفتها الإنسانية في حياتها . اذن من اجل تامين ذلك ، ومن اجل إزالة استغلال الإنسان لأخيه الإنسان بشكل مهان وذليل جاءت الاشتراكية الإنسانية لتلتقي مع المقاصد الشريفة للدين . ان الله لم يخلقنا ليقدر لنا الجوع والعراء والتشرد دون مأوى وهضم الحقوق وممارسة الظلم .. وإنما الإنسان هو الذي فعل ذلك كله بسياسته المبنية على الجشع والطمع . ب الركيزة الثانية من ركائز الاشتراكية الإنسانية هي اعتماد العمل واعتباره مصدرا أساسيا ووحيدا لكسب الرزق والاحترام في المجتمع ، وهذا بالطبع ما يدعو إليه الإسلام ويحض عليه . وتبرز قيمة العمل في الإسلام كقيمة جوهرية بحيث لا تخلو سورة من سور القران من التطرق إليه ومرتبطا بشكل وثيق بالإيمان " .. ليس للإنسان إلا ما سعى … الذين آمنوا وعملوا الصالحات … وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ..لخ "والملاحظ هنا ان النظام الأعظم في الدنيا هو الذي يقترب أكثر من غيره من العدل الإلهي في الآخرة ،حيث يحاسب كل إنسان على عمله فقط وليس على ميراثه او لونه او جماله او نسبه ..لخ ، ومن هنا يجب ان نحاسب الإنسان في الدنيا بشكل لا يختلف في شيء عن العدل الإلهي . هناك حديث شريف يقول " لو قامت القيامة على أحدكم وفي يديه غرسه فليغرسها فان له في ذلك أجرا " . وهذا دليل ساطع على أهمية العمل في الإسلام كقيمة أساسية بفقدانها يفقد الإنسان كرامته ووجوده وإنسانيته ، وهذه الحقيقة هي ما يرمز إليه حديث لعمر بن الخطاب حيث سال عن رجل ماذا يفعل طول النهار ؟. فيجيبوه بأنه يصلي ويصوم ويقوم الليل ..لخ فيسال عمر عمن يقوم بعيله ، فيجيبوه بان أخا له لا يصلي ولا يقوم بأي شيء من العبادات هو الذي يعيله وهو يحطب من الغابة .فرد عمر بان أخيه أكثر منه فضلا وأجرا . والجانب الآخر من أهمية العمل هو المتعلق بإتقانه ، إذ في المنظور الإسلامي لا يصح العمل إلا اذا اقترن بالإتقان " ان الله يحب اذا عمل أحدكم عملا ان يتقنه .. ان أطيب الكسب كسب الرجل بيده .. أعطوا الأجير أجره قبل ان يجف عرقه ..لخ". الملاحظ من كل هذا ان الاشتراكية الإنسانية لا تتناقض مع الدين بل تنسجم معه ، ان لم نقل تستلهمه وتسترشد به . ج الركيزة الثالثة من ركائز الاشتراكية الإنسانية هي التخطيط المركزي المحكم والشامل من قبل الدولة بحيث يتولى إعداد برنامج شامل لكافة مجالات المجتمع وأنشطته ، وينظم هذه الأنشطة بشكل يستند الى الإمكانات والطاقات المتوفرة والمتجددة ، ويهدف الى تحقيق الغايات التي حددها المجتمع لخيره وسعادة أبنائه ، وهذا لا يتعارض مع حرية الإنسان الشخصية ومبادراته الفردية ، كما لا يتعارض مع ما يحث عليه الإسلام حيث يقول الحديث الشريف " أعقلها وتوكل .. اذا عزمت فتوكل على الله ". إذن يجب ان نعزم أولا ، أي ان نقرر ونحسب وندبر أمورنا وبعدها نتوكل على الله . فإذا تمعنا الحديث الشريف هذا فإننا ندرك انه التخطيط الاقتصادي بعينيه ، فأي اختلاف هنا بين الدين وبين الاشتراكية ان لم يكن الهدف واحدا . لقد فرض علينا الله سبحانه وتعالى الإحسان في كل شيء " ان الله يأمر بالعدل والإحسان " ، والإحسان هنا في معناه الضيق ليس الصدقة بل يعني ان نحسن كل أمر نفعله . يلاحظ من ناحية أخرى اقتران الاحسان بالعدل " ان الله يأمر بالعدل والإحسان " . ان العدل هو قاعدة جوهرية في الإسلام الى درجة ان هناك من السلف الصالح من يقول ان دولة ما يمكن ان تقوم على الكفر ، إنما لا يمكن ان تقوم على الظلم . ان الفلسفة الإسلامية تقول " اذا كنتم تريدون ان تقيموا دولة ، فأقيموها أولا على العدل وبعده على الإيمان والعبادات " . الدولة الكافرة تصلح بالدعوى ، اما الدولة الظالمة فعي ساقطة حتما ، ولنا أمثلة في إيران الشاه وفي المنظومة الاشتراكية السابقة وفي العديد من الحكام الذين انتهى بهم المقام في السجون او في المنافي . د الركيزة الرابعة للاشتراكية الإنسانية هي تغليب المصلحة العامة على المصلحة الشخصية ومصلحة الفرد ، وبالتالي اذا حصل تعارض بينهما فالأفضلية للأولى وليس للثانية . ولو رجعنا الى الدين لو وجدنا ان خطابه موجه بشكل دائم إلى الإنسان ليس كفرد وإنما كجزء من كل او كخلية من خلايا المجتمع . ومن هنا يمكن ان نفهم لماذا يجب على الفرد ان يضحي بكل ما يملك فداء لمجتمعه ووطنه ودينه وأمته " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل هم أحياء عند ربهم يرزقون " " من مات من اجل رزقه او ماله او عياله فهو شهيد " لخ . نستخلص من هذا ان الاشتراكية الإنسانية لا تتصادم في شيء مع الدين بل انها تكمله وتتفق معه . ان الاشتراكية الإنسانية التي تقوم على التكافل والتعاضد والتكافؤ والتضامن المجتمعي بين افراد المجتمع الواحد لم ولن تنتهك المحرمات ، ومن ثم فان الالتباس المطروح حول العلاقة بين الدين وبين هذا النوع من الاشتراكية ليس له أي أساس من الصحة ، بل انه يشكل دعوة مغرضة يروج لها البعض باسم الدين مع العلم ان هذا بريء منها ، كما يروج له لبعض باسم التحريفية رغم فشل النماذج التي راهنوا عليها في موقع ديارها . ان الاشتراكية الإنسانية كطريقة في تدبير الشأن الاقتصادي والاجتماعي تبقى بديلا مطروحا بعد فشل الاشتراكية الحدية المتطرفة التي سادت المنظومة الاشتراكية السابقة ، حيث أدى انهيار الاختيار الاقتصادي الى سقوط النظام السياسي للدول الاشتراكية ، كما انها بديل عن الأزمة الخانقة والخطيرة التي يمر بها النظام الرأسمالي بسبب الجشع في المضاربات ( الريغانية والتتشيرية ) حيث ان نتائج الأزمة ستكون مدوية بالنسبة لمستقبل النظام الرأسمالي والسياسي الغربي وربما منه العالمي . ان الاشتراكية الإنسانية التي لا تتعارض مع الدين في شيء هي التي تضع حدا للتفسيرات المغرضة للمتزمتين الدينيين الذين يحللون ويحرمون على هواهم موزعين يمينا وشمالا تهم بالكفر والخروج عن الملة والفسق والفجور ، رغم ان لا علاقة للدين بهذه التفسيرات التي تخدم التنظيم والاتجاه ولا تخدم الأمة في شيء ، كما انها تضع حدا لدعوات أشباه اللائيكيين الذين يلهتون وراء التغريب الأعمى الذي لا علاقة له بالخصوصية المغربية التي تطبع النظام السياسي المغربي منذ أكثر من 1400 سنة مضت . وكما قلت أعلاه ان الإسلام شيء والمسلمون العرب شيء آخر ، كما ان الاشتراكية شيء والاشتراكيون العرب شيء آخر ، فان الكنيسة شيء والمسيحيون شيء آخر كذلك .