لقد كان السؤال الذي انقسم على أساسه الفكر الإنساني إلى فكر فردي أو فكر جماعي هو: كيف تتحقق السعادة للإنسان.. ؟ وهذا دفع الباحثين إلى السؤال الثاني، طالما أن الإنسان لا يعيش بمفرده، وإنما في مجتمع؛ لأنه مدني بالطبع، فما هو المجتمع؟ وما علاقة الإنسان به؟ وكان السؤال المباشر يتوجه إلى تعريف المجتمع، هل هو مجموعة أفراد أم جماعة ليس الفرد فيه إلا جزءاً يسيراً منه؟ وفي ظل ذلك انقسم المفكرون إلى فريقين: فريق يرى أن المجتمع الأمثل هو المجتمع الذي يقوم على الفردية أو على الفلسفة الفردية، ويرى "أصحاب هذه المدرسة أن الإنسان يملك حقوقاً طبيعية مستمدة من ذاته باعتباره إنساناً، ولذلك كان وجودها لازماً لوجود الإنسان، فأمكن وصفها بأنها حقوق أو امتيازات مطلقة سابقة في وجودها وجود المجتمع والقانون، من حيث قيام المجتمع يستلزم تعدد الأفراد، ووجود القانون الوضعي لا يقوم بغير مجتمع؛ لأنه يحكم العلاقات، والعلاقات تستلزم تعدد الأطراف (أشخاص العلاقة)، وتعدد الأطراف يعني قيام المجتمع، وهي من هذا المنطلق سميت حقوقاً طبيعية، فليس القانون أو المجتمع مصدرها بل هي أساس القانون، وما القانون إلا الوسيلة المعبرة عن هذه الحقوق، والحامية لها من الاعتداء، أما السلطة القائمة على المجتمع فليس لها أن تخلق حقوقاً؛ لأن الحقوق موجودة قديمة بقدم الإنسان، وليس لها أن تلغي حقوقاً؛ لأنها لا تملك صلاحية ذلك من جهة؛ ولأن الحقوق طبيعية فهي غير قابلة للإسقاط أو التعديل أو التنازل عنها من جهة أخرى، وبالتالي انحسر دور السلطة في نطاق حراسة هذه الحقوق، ولذلك عرفت بالدولة الحارسة"[1]. والفريق الآخر يرى أن المجتمع الإنساني الأمثل هو الذي يقوم على الجماعية أو على الفلسفة الاجتماعية، "ينطلق هذا المذهب في رؤيته لطبيعة الحق ومصدره من معتقده بأن القانون كظاهرة اجتماعية يجب أن يبنى على أساس واقعي معلوم بالمشاهدة أو التجربة.. وهو أن الإنسان كائن اجتماعي لا يسعه العيش إلا في جماعه يتضامن أفرادها لإشباع حاجاتهم، وإن هذا التضامن يفضي إلى نظام ينتظم سلوك الأفراد وفقه، وهذا يفضي عندهم إلى نتيجة مفادها أن التضامن اجتماعي، وهو الأساس الوحيد والمعقول للقانون باعتباره القاعدة الضرورية لحياة الجماعة.. يرى أصحاب هذه الفلسفة أن الحقوق من الجماعة وإلى الجماعة، وليس للفرد حظ فيها أصالة على وجه الاستقلال، وأن ما يتمتع به الأفراد من حقوق إنما هي: اختصاصات أو وظائف اجتماعية، وأصحابها موظفون عامون موكلون باستعمالها على وجه يحقق الصالح العام، وبمعنى آخر سلطة أو مكنة تمنحها الجماعة لأفرادها ليقوموا بالواجبات التي تقتضيها حالة التضامن الاجتماعي"[2]. وفي ظل انقسام الفكر الاجتماعي إلى نظريتين كبيرتين كان لا بد أن ينقسم الفكر الحقوقي إلى نظريتين إحداهما تعلي مكانة الفرد، والأخرى تعلي مكانة المجتمع والجماعة، ففي كنف النظرية الاجتماعية الفردية، قامت هذه النظرية بإعطاء الفرد الحريات الأساسية، كما سبق بيانه، وجعل حقوق الإنسان بفرديته هي أساس حقوق الإنسان، ورفضت الوصاية على الفرد وعلى حرياته الأساسية، من قبل الدولة أو أي فئة من فئات المجتمع، وقد أطلق عليها الفلسفة اللبرالية، فالفلسفة اللبرالية في حقوق الإنسان تشكلت تبعاً لمسلمات الكوزمولوجيا العلمانية وغاياتها، وركيزتها الأساسية هي حرية التعبير. والفلسفة الثانية في النظرة إلى الحقوق الإنسانية هي رؤية المسؤولية الجماعية الشمولية، في الاشتراكية العلمية، وهي اشتراكية (Marx's و Engels) وفي الاشتراكية الديمقراطية، أو الاشتراكية الإصلاحية، وهي الأكثر تطبيقاً في الدول الاسكندينافية، وقد ظهرت الفلسفة الاشتراكية بعد ظهور الكثير من عيوب الفلسفة الليبرالية الفردية أولاً، ثم ظهور نظريات علمية جديدة زعزعت الأسس التي كانت تقوم عليها هذه الفلسفة، "فقد أدت الأفكار المستحدثة بالفلسفة الليبرالية التقليدية إلى إعادة النظر في افتراضاتها الأساسية فيما يتعلق برؤيتها لطبيعة الإنسان، والتي هي ركيزة الفكر الليبرالي، وبالتالي إعادة النظر فيما يتعلق بطبيعة الدولة التي تتوافق مع سمات الطبيعة الإنسانية، وأيضاً الشكل الأمثل للعلاقة بينهما في ضوء الفهم الجدي لهذه الطبيعة، وأخيراً إعادة الليبرالية النظر في طبيعة المعرفة أو الحقيقة، ومدى نزاهة الفرد في البحث عنها"[3]. "إن استخدام وصف ليبرالي للنظام المطلوب من قبل المعايير الدولية لحقوق الإنسان يوحي بأصل أكثر تحديداً عن الغرب الحديث لفكرة وممارسة حقوق الإنسان"[4]، تستلزم فكرة حقوق الإنسان في الليبرالية الغربية المعاصرة نوعاً معيناً من الفردية، بل "إن الواقع الوحيد الذي تتفهمه الليبرالية هو واقع الفرد"[5]. وأما في النظام الإسلامي؛ فإن إطلاق القول بان أصل الحق هو منحة ربانية أو هبة إلهية وهو القول الشائع في الكتابات الحقوقية الإسلامية[6]، فهو مبني على نظرة إيمانية عقدية، وهذه النظرية من داخل النظام الإسلامي صحيحة، وهي مستنبطة من القرآن والسنة النبوية، ولكن في التحليل الطبيعي الذي لا يتعارض مع الفكر الإسلامي، الذي لا يحمل عقدة العلاقة بين الدين والدنيا، يمكن القول إن الحقوق في النظام الإسلامي هي في الأساس لإقامة العدل: "وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ" [النساء، 57]، وهنا لا بد من ملاحظة أن الله تعالى لم يأمر أن يكون الحكم بما انزله الله، أو بالشريعة، كما جاء في آيات أخرى؛ لأن الخطاب هنا أوسع من الحكم بين المسلمين والمؤمنين، فهو حكم بين الناس، والناس تشمل غير المسلمين، وغير المسلمين لا يهمهم أن يحكم بالشريعة أو غيرها، وإنما أن يحكم بالعدل والإنصاف، وهذه مسألة مهمة في فهم الحقوق في النظام الإسلام[7]. ولذا سعى الإسلام في طريقه لإصلاح المجتمع إصلاح الفرد، إلى إصلاح الإنسان في عقله أولاً، "فإصلاح عقل الإنسان هو أساس إصلاح جميع خصاله، ويجيء بعده الاشتغال بإصلاح أعماله، وعلى هذين الاصطلاحين مدار قوانين المجتمع الإسلامي"[8]، أي أن الأصل في تحقيق الحقوق هو إقامة العلاقة بين الفرد والمجتمع على أسس إيجابية متبادلة بين الفرد والمجتمع، وهذا ما لم يوجد إلا في الشريعة الإسلامية، التي جعلت حقوق الإنسان مقاصد للمجتمع المسلم، وحقوق المجتمع ضمانة لحقوق الأفراد وأمنهم الفردي والنفسي. وإذا نظرت الفلسفات الأخرى إلى الحقوق الاجتماعية المتنوعة على أنها حقوق متباينة أو متعارضة، بين الفرد والجماعة، أو استغلال أحدهما للآخر باسم الحقوق الفردية أو الحقوق الجماعية؛ فإن الإسلام نظر إليها نظرة تكاملية[9]، فكل نوع منها يعالج جانباً من حقوق الإنسان، والجامع بينهما مقاصد الشريعة الكلية في العدل والمساواة والأخوة الإيمانية، وما إخفاق الأنظمة الشمولية التي سادت العالم في القرن الماضي، إلا دليلاً وشاهداً، وما إخفاق الأنظمة الفردية الرأسمالية في هذه السنوات، وبالأخص في انهيار النظام الرأسمالي القائم على الفردية والليبرالية إلا على فشل النظرة الجزئية للحقوق. --------------------------- 1. فلسفة الحق في المنظورين الإسلامي والوضعي ودور حقوق الإنسان فيها، الدكتور علي أحمد صالح المهداوي، مصدر سابق، ص: 71، وانظر: حقوق الإنسان، الدكتور أحمد الرشيدي، ص: 100. 2. فلسفة الحق في المنظورين الإسلامي والوضعي ودور حقوق الإنسان فيها، الدكتور علي أحمد صالح المهداوي، مصدر سابق، ص: 74. 3. حقوق الإنسان والسياسة الدولية، دافيد ب. فورسايث، ص: 207. 4. حقوق الإنسان العالمية بين النظرية والتطبيق، داك دوللي، مصدر سابق، ص: 113. 5. حقوق الإنسان العالمية بين النظرية والتطبيق، داك دوللي، مصدر سابق، ص: 115. 6. حقوق الإنسان بين الشريعة والقانون، الدكتور منير حميد البياتي، سلسلة كتاب الأمة، قطر، العدد (88)، ربيع الأول 1423ه، أيار 2002م، ص: 129، وحقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية، مولاي ملياني بغدادي، قصر الكتاب، ص: 58. 7. حقوق الإنسان بين الشريعة والقانون، الدكتور منير حميد البياتي، ص: 67. 8. أصول النظام الاجتماعي في الإسلام، الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، الشركة التونسية للتوزيع، الدار العربية للكتاب، 1979، ص: 45. 9. دراسات وبحوث في الفكر الإسلامي المعاصر، الدكتور فتحي الدريني، مصدر سابق، 3/217.