تأتي على المرء أوقات يشعر فيها فعلا ب»الخجل من أن يكون إنسانا» على حد تعبير المفكر الفرنسي الكبير جيل دولوز. وقد عشنا في نهاية الأسبوع الماضي واحدا من هذه الأوقات ليس فقط بسبب الانهيار المفاجئ لتلك العمارات الثلاث فوق رؤوس سكانها بحي بوركون بالدار البيضاء، بل بسبب العديد الكبير للقتلى الذي خلفه الحادث (23 قتيلا)، وبسبب الظروف التي قضى فيها معظمهم. فليس انهيار جدران تلك البنايات هو الذي أدى بشكل مباشر إلى وفاتهم، بل ما قتل هؤلاء، الذين كانوا يظنون أنهم يعيشون في آمان، هو تخلف وسائل الإنقاذ وضعف تجربة المكلفين بإنقاذهم.. ما ساهم في تضخم حجم الفاجعة هو تركيز المسؤولين المحليين على «مهام أخرى» مثل كنس محيط البنايات المنهارة لاستقبال رئيس الدولة، عوض التركيز على إنقاذ العالقين تحت الأنقاض. نعم، شعرت، ومازلت أشعر، بالخجل من كوني إنسانا، ليس لهول ما وقع في مدينة هي أكبر حواضر المغرب، ولا لكوني اتخذت بشكل أو بآخر موقفا فيه ما فيه من مهادنة واستسلام، بل لأن هذا الإحساس بالخجل نابع من شعور مؤلم آخر.. شعور بالعجز عن القيام بأي شيء أمام هول الفاجعة.. شعور لا نقوى معه على القيام حتى بأضعف الإيمان.. إحساس يجعلنا ننتبه إلى هذا الأمر القاسي: المرء يخجل من كونه إنسانا لأننا نفتقد فينا هذا الإنسان بشكل فظيع، كما يقول الشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي. ولا أجد سلاحا لمقاومة هذا الألم المزدوج (الشعور بالخجل والإحساس بالعجز) سوى الاحتماء بما تيسر من السخرية، والهرب إلى أحضان النسيان الذي يرفض الترحيب بنا، وحتى إن قبل بنا، فعلى مضض لأنه لا يحمينا كليا من وخزات ذلك الألم. إن فاجعة بوركون لا تكشف فقط عن ضعف وسائل التصدي للكوارث وقلة تجربة المكلفين بهذه المهمة، وعدم قدرة المسؤولين (أمنيين كانوا أو سياسيين) على تدبير الأمور في عندما يحدق الخطر بالمغاربة، بل إنها أماطت اللثام مرة أخرى عن السبب الجوهري والعميق للمأساة في تقديري، وهو تلك المكانة المتدنية التي يحظى بها الكائن المغربي. فلا ينظر إلى هذا الكائن على أنه فرد كامل في فردانيته وبالتالي، تستحق حياته أكبر درجات الحماية، وأفضل تجهيزات الإنقاذ، وأفضل المنقذين تدريبا وكفاءة. فمازال يُنظر إليه على أنه مكون من مكونات الجماعة، وعليه أن يشكر السماء التي تكرمت عليه بهذا الوضع، ولا حق له على هذه الجماعة، حتى حق بذل كل الجهود لحماية حياته. ومادام المغربي لم يبلغ بعد مرتبة الفرد الكامل في فردانيته، فإن موته لا يعني الكثير ولن يتم التوقف عنده طويلا.. فقط، سيتم رفع بعض التعازي، وربما يرافقه ما تيسر من صرخات الاحتجاج.. ولا بأس من التخلص من الأمر كله بتقديم أي كبش فداء.. حتى وإن تعلق الأمر بعامل بناء بسيط. ثم يتم طي الملف ووضعه في الرف وترك الزمن يتكفل به ويهيل عليه غبار النسيان.. ويمضي كل إلى غايته في انتظار الفاجعة المقبلة...