يزعم بعضهم أن الرشوة تلعب دورا حيويا في تنشيط الحركة الاقتصادية الوطنية.. - والمزاعم تبقى مجرد مزاعم.. وكلاما في كلام.. الرشوة لا تنشط الاقتصاد الوطني.. ولا تصل مداخيلها إلى عامة الناس.. هي تحرك فقط صناديق ذاتية، في حدود دائرة الراشين والمرتشين والرائشين.. وتنعش وتطور مداخيل فئة محدودة.. هي حركة مالية محصورة.. تدور في وسط محدود.. ولا تصل إلى كافة المواطنين.. ولا تنتج فرصا للتشغيل.. والتنمية.. - الفساد لا ينتج إلا مزيدا من الفساد.. فساد سرطاني يزيد في إثراء المرتشين، وفي تفقير شرائح واسعة من المجتمع.. سرطان يسري في شرايين العلاقات الاقتصادية بين المجتمع والدولة، ويخرب التواصل بين الإدارة والمواطن، ويهدد أعمدة الدولة.. ويقال: بدأت الرشوة من نظام القضاء، ووصلت إلى الإدارات، فإلى موظفي الحكومة، والأحزاب، والسياسيين، والإعلام، والفن، والرياضة، والتعليم العالي، والمحافظة العقارية، وغير هذه من القطاعات... وهي تقف خلف خوصصة قطاعات اجتماعية قد تحولت إلى سلع تباع وتشترى.. ولكل إدارة مرتشية، وسطاؤها.. منهم الظاهر والخفي.. وحقول الرشوة عندنا تتسع أكثر فأكثر.. ومن يحاول التخلص من الرشوة، يجد في طريقه وسطاء آخرين يعرضون عليه أن يمر بسلام إلى حلول، بواسطة الرشوة.. الرشوة تنتج وسطاء.. ودائما في الطريق وسطاء يرشدون إلى مزيد من الرشاوى، ومن ثمة إلى أسماء وعناوين المرتشين، لحل مشاكل إدارية، وتبسيط الحصول على وثائق أو أحكام قضائية أو غيرها.. - وفي القضاء، ملفات كثيرة.. والوسطاء يتموقعون في ممرات وأبواب المحاكم، وهم يرشدون من يبحث عن حل، إلى أقرب مرتش: رشوة بقيمة كذا، إلى فلان أو فلانة.. وأمام بوابات المؤسسات المرتشية، تكونت شبكات من الوسطاء، تتعاون فيما بينها، بعد أن تمكنت من اقتحام حواجز المراقبة والمحاسبة الجنائية.. وتمكنت من ضبط تقنيات القفز على حواجز القانون، والتحقيقات الداخلية... وهذه العصابات لم تعد عندنا تتحرك في الظلام، أصبحت تنشط في واضحة النهار، وبالهاتف المحمول.. الرشوة قد أصبحت علنية، لا يوقفها أحد.. لا حواجز أمام مسالك الرشوة.. ولم يعد في بلدنا فضاء إداري واحد غير مخترق.. الرشوة اخترقت كل المهن والإدارات وكثيرا من الموظفين، كبارا وصغارا، وحتى سياسيين، إلى جانب جل أوساط المال والأعمال.. ولم يعد متيسرا أن نتصور شخصا يبني عمارات، ويزيد فيها طبقات بدون ترخيص، ويبيع للناس بمبالغ خارج القانون، بدون التساؤل عن دور الرشوة في هذه البنايات، وفي ما ينتج عنها من ترام على عقارات أخرى، تابعة للغير.. والسياسة مثل الاقتصاد، فيهما الرشاوى بالطول والعرض، وبلا محاسبة.. والراشون والمرتشون والرائشون لهم علاقات تعاون في كل مكان، ومع مسؤوليات من كل المستويات.. والمال السياسي يعرف هو الآخر مسالك الوصول، وبسرعة، إلى الأحزاب والنقابات وغيرهما... والانتخابات هي الأخرى غنية بمظاهر الرشوة.. التزكيات تباع وتشترى في واضحة النهار من أحزاب وأحزاب.. وجل الأحزاب تبيع التزكيات لتجار المخدرات، وأثرياء التبييض، وكل ما هو مال أسود.. أباطرة المخدرات معروفون بالترحالات والتراقصات بين أحزابنا، ولا فرق في الرشوة السياسية بين فئات في اليسار واليمين والوسط، وفي أوساط تجار الدين... عندنا قرابة 40 حزبا، أغلبها مشحون بالفساد.. والدليل واضح، هو انتشار أعضاء غير مؤهلين في الجماعات المحلية، والجهات، والبرلمان... وأي حزب، إذا كان فاسدا، يستطيع أن يمرر إلى الحكومة وزراء من أفسد ما خلق.. وأن يزرع في دواليب الدولة "موظفين سامين" هم أيضا يبحثون عن أقرب الطرق لاسترجاع رشاويهم، وتحويل الرشاوى إلى فوائد ومكاسب وثروات ذاتية وللمقربين.. - الفساد ينجب الفساد.. ويمكن تصور، حتى ما لا يتصور، نتيجة تعاملات مافيوزية مع هذه العصابات المنتشرة في مختلف المؤسسات، بسبب الأحزاب المرتشية، وما فيها من وسطاء الانتهاز.. ويمكن تصور فداحة الخطر الذي يجثم عليه بلدنا، بسبب هذه الأحزاب المرتشية التي تستطيع التسلق إلى قمة البرلمان وقمة الحكومة.. هذه الفئة من كبار المسؤولين تستطيع أن تدخل إلى البلد حتى ما لا يتصور.. الرشوة تفتح كل الحدود.. والفساد فساد.. وبلدنا من ضحايا الفساد.. وهل المافيا المحلية نزيهة لدرجة الترفع عن التعامل المافيوزي مع من قد يحملون إليها مغريات بلا عد ولا حصر؟! الرشوة تخرب كل دولة منخورة بالفساد السياسي والاقتصادي والقضائي والصحي والاستثماري والتشغيلي... يجب التصدي لعصابات الرشوة.. - وإلا، أتت على كل ما بناه البلد.. فشراء الذمم، سواء كان في أسفل أو أعلى، ما هو إلا أداة للارتزاق المالي الذي يقود إلى ارتزاق سياسي، وارتزاق طبي وصيدلي، ورياضي، وإلى بيع كل البلد! ارتزاق ينشر في بلدنا ثقافة شراء أي كان، وبيع أي كان، لأي كان.. وهذا يعني أن كراسي القرار يمكن شراؤها عبر المسؤول الفلاني أو المسؤولة الفلانية، برشاوى سياسية، من الداخل أو من الخارج.. كل شيء قابل للتصور... ومن يشترون الذمم، هم أيضا يبيعون ذمما أكبر، لعصابات أكبر وأشنع.. والسوق ملآنة بثلاثة أطراف أساسية في هذا السلوك الفاسد: الراشي يسلم الرشوة.. والمرتشي يتسلم الرشوة.. والرائش هو الوسيط بين الراشي والمرتشي.. ومواسم الرشوة بلا حدود.. في كل وقت موسم.. وفي كل موسم، "جماهير" من الفاسدين المفسدين.. والرشوة السياسية تنجب بقية أنواع وأشكال الرشاوى.. - و"الرشوة السياسية" خطر بلا حدود! هي مصدر كل الكآبات، وأنواع الجشع المالي، وأشكال التوحش السياسي والاقتصادي، في خضم هيمنة أحزاب تتعامل مع الشعب بانتهازية ومصلحية وانتفاعية.. والرشوة الانتخابية لا تقتصر على مال يقدمه هذا إلى ذاك، بل تقود إلى التزوير في كل شيء، بدءا من الانتخابات، مرورا بالوثائق، وصولا إلى الاختلاس، والترامي على ممتلكات الغير، وشراء عصابات إجرامية، وممارسة سلوكات أخرى بلا عد ولا حصر... ولا حدود للرشوة التي تمنح من يتحكمون فيها سلطة سياسية وخدماتية، لإبعاد الناس وتهميشهم، وحرمانهم من حقوقهم، والتعامل مع الزبناء بشكل مباشر، أو عبر وسطاء.. وإلى هذا، تعريض الناس لفبركة اتهامات، حتى بدون دليل.. - أين الأخلاق في كل هذا؟ أين قواعد النزاهة والوطنية والإنسانية؟ لوبيات قد تكون ذات امتدادات في مناطق شتى من العالم.. وخطير جدا أن تعتمد لوبيات مجهولة على الرشوة السياسية لرسم خارطة كل البلد، وتحديد مستوى التنمية، وما ستكون عليه الثروة، وسياسة القرار، والتفاعل الاجتماعي.. وجب تجريم الرشوة في كل القطاعات، وفي العام والخاص، وكل ما هو تأثير على الاقتصاد الوطني.. كما يجب إعداد دراسات عن تأثيرات الرشوة، وانعكاساتها، على مختلف مسارات البلد، وفي علاقات الدولة مع المجتمع.. الحرب على الرشوة، بكل تلاوينها، ضرورة وطنية.. الرشوة تنخر تماسك المجتمع، وقوة وسلامة الدولة.. - وعلينا بالوقاية! [email protected]