-1- ما إن صدرت بالمغرب الطبعة الجديدة/المنقحة لمادة اللغة العربية للمستوى الثاني ابتدائي، تحمل في طياتها بعض الكلمات العامية، حتى عرفت الساحة الثقافية سجالا حول إشكالية:هل تصلح العامية للتدريس. و الواقع إن هذه الإشكالية ضاربة جذورها في تاريخ الصدام الحضاري و الصراع الثقافي الذي شنته دول (الشمال) على دول(الجنوب). أعتقد أن انطلاق حركة الدعوة إلى العامية في الوطن العربي لم يتزعمها أهل الدار، بل ابتدعها زمرة من المستشرقين إبَّان فترة استعمار العالم العربي/ الإسلامي. ففي سنة 1880 ألّف المستشرق الألماني (ولهم سبيتا)"قواعد العربية العامية في مصر"، متهما فيه اللغة الفصحى أنها سبب ضعف المستوى التعليمي في البلاد العربية، بل سبب في عدم تقدمها، و وصفها بأنها صعبة من حيث المعجم و النحو و الصرف، و كتابتها أيضا تشكل عائقا في التعليم و التعلم...... و في سنة 1901 كتب (سلدن ولمور) المستشرق الإنجليزي كتابا وَسَمَهُ "العربية المحلية في مصر"، و اعتبر أن اللغة الإنجليزية ستغزو مصر، و أن المانع من تقدم مصر و مثيلاتها من دول العالم العربي هو تداولها لِلغة عربية فصحى يصعب بها الترقي في مدارج العلوم. و برز مستشرقون آخرون اهتموا باللهجات المحلية لبعض المدن المشرقية و المغاربية، من أمثال (امانويل ماتسن) في كتابه "لغة بيروت العامية1911"، و(لويس ماسنيون) في "لهجة بغداد العامية 1912"، و كتاب "لغة مراكش العامية و قواعدها1918" تأليف بين صامويل، و "قواعد العامية الشرقية و المغربية1918" لصاحبه (كوسان دور سبرسفال)، و غيرهم. إن المتأمل لتواريخ التي ألِّفت فيها هذه الكتب يتضح له بجلاء أنها ارتبطت باستعمار معظم الدول العربية، مما يجعلنا نطرح سؤالا:هل دعوات أغلبية المستشرقين الذين عبدوا الطريق للدَّكاكة الاستعمارية إلى إحلال العامية محل الفصحى، كانت دعوات بريئة تريد إخراج المستعمرات من دائرة تخلفها ؟؟!!.. لا أرى ذلك.. إن فكرة التدريس بالعامية عوض الفصحى، فكرة تبناها كثير من (المفكرين العرب) فصاروا بذلك عيال على سابقيهم من المستشرقين العملاء؛؛طبعا دون تعليب المستشرقين في علبة واحدة، فهناك مستشرقون جدَّدوا و قعَّدوا، فطفق الغرب ينظر من خلال مُنتجاتهم الفكرية إلى الشرق نظرة النِدِّية. -2 - بعد هذا التقديم الكرونولوجي للدعوة إلى العامية و التدريس بها داخل المنظومة التعليمية التعلمية؛ نجيب عن إشكال:لماذا لا يصلح التعليم بالعامية و لا يستقيم؟. - وجود عاميات داخل الوطن العربي: إذا كان دعاة العامية يعتبرون أن التعليم ينبغي أن يُصرف (باللغة العامية الأم)، نقول أننا أمام زخم من عاميات و ليس عامية واحدة، ففي المملكة المغربية مثلا، تتباين عامية الشمال عن الجنوب و الشرق عن الغرب، و الجهاز المفاهيمي لقبيلة دُكَّالة مختلف عن نظيره الحَسَّاني الصحراوي..، و اللهجات الامازيغية بدورها تختلف فيما بينها إلى درجة يصعب معها التواصل نسبيا بين الامازيغ أنفسهم، في الريف"تريفيت" و سوس"تشلحيت" و الأطلس"تمازيغت". -العامية سائمة لا تقبل القواعد: ( لغة الأدب أو الفصحى هي اللغة التي تستخدم في تدوين الشعر والنثر والإنتاج الفكري عامة، أما لغة الحديث أو العامية فهي اللغة التي تستخدم في الشؤون العادية ويجري بها الحديث اليومي. والأولى تخضع لقوانين تضبطها وتحكم عبارتها، والثانية لا تخضع لمثل هذه القوانين لأنها تلقائية متغيرة تتغير تبعًا لتغير الأجيال وتغير الظروف المحيطة بهم...)تاريخ الدعوة إلى العامية و أثرها في مصر، ط1 1964م، دار نشر الثقافية بالإسكندرية، ص 43. -القطيعة الثقافية: لو افترضنا جدلا أنه تمت معيارية أحدى العاميات المحلية، و وضعت لها قواعد خاصة بها، فإن الحصيلة ستصير هذه العامية حبيسة أهلها متقوقعة على ذاتها صالحة لزمانها و مكانها، حادثة بذلك قطيعة مع مثيلاتها في البقاع العربية الأخرى. أتذكر كلام من ذهب للدكتور طه حسين عندما سأله الأستاذ محمد كامل الزهيري عن انقسام الأدباء بين المدافعين عن العامية و المدافعين عن الفصحى، فقال:(...ولنسأل أنفسنا آخر الأمر: أيهما خير؟ أن تكون للعالم العربي كله لغة واحدة هي اللغة الفصحى، يفهمها أهل مراكش كما يفهما أهل العراق، أم أن تكون لهذا العالم لغات بعدد الأقطار التي يتألف منها، وأن يترجم بعضنا عن بعض؟ أما أنا فأوثر وحدة اللغة هذه، فهي خليقة بأن يجاهد في سبيلها المؤمنون بها وبأن يضحوا في سبيلها بكل ما يملكون. فلنحذر أن نشجع الكتابة باللهجات العامية، فيمعن كل قطر في لهجته، وتمعن هذه اللهجات في التباعد والتدابر، ويأتي يوم يحتاج فيه المصري إلى أن يترجم إلى لهجته كتب السوريين واللبنانيين والعراقيين، ويحتاج أهل سورية ولبنان والعراق إلى مثل ما يحتاج إليه المصريون من ترجمة الكتب المصرية إلى لهجاتهم كما يترجم الفرنسيون عن الإيطاليين والإسبانيين، وكما يترجم هؤلاء عن الفرنسيين) برنامج ليلى رستم و نجوم الأدب على قناة المصرية. - مخالفة الدساتير: كما لا يخفى على القارئ إن جل الدول العربية قد دسترت اللغة العربية، و جعلتها اللغة الرسمية للبلاد، و بالتالي الخروج عن هذا البند هو شذوذ عن الإجماع الذي أجمعت عليه الأمة.