يبدو أن الخطابات الملكية باتت تشكل نموذجا جديدا للتواصل، ومنهجية جديدة لمخاطبة الشعب المغربي ومخاطبة المؤسسات بما يتماشى مع المرحلة التي تعيشها بلادنا، إذ جاء خطاب الملك بمناسبة عيد الشباب وذكرى ثورة الملك والشعب لهذه السنة (2018) متميزا بالعديد من الرسائل والتوجيهات للداخل والخارج. وبما أن الخطابات الملكية تعتبر مرجعية للجميع بحكم الدستور فإن قراءتها وتحليل مضامينها وتحليل السياق العام للمرحلة ببلادنا يتطلب عمقا في التحليل وبعدا إستراتيجيا للعمل الحكومي والعمل المؤسساتي، ولهذا لا بد من تحديد المؤسسات المعنية بتنفيذ الخطاب الملكي مباشرة، وهي: 1. الحكومة كمؤسسة تنفيذية بجميع قطاعاتها بالدرجة الأولى، من خلال البرنامج الحكومي، إذ قال جلالة الملك: "ندعو الحكومة والفاعلين إلى اتخاذ مجموعة من التدابير...". 2. المجالس المنتخبة، من خلال الجماعات الترابية، إذ طلب جلالة الملك تنفيذ الالتزامات المالية عندما قال: "..يتعين على الإدارات العمومية، وخاصة الجماعات الترابية، أن تقوم بأداء ما بذمتها من مستحقات تجاه المقاولات؛ ذلك أن أي تأخير قد يؤدي إلى إفلاسها، مع ما يتبع ذلك من فقدان العديد من مناصب الشغل". 3. الأحزاب السياسية، من خلال المسؤولية السياسية للأغلبية والمعارضة للمواكبة والمراقبة. 4 . المؤسسة البرلمانية، من خلال مسؤوليتها في التشريع ومراقبة عمل الحكومة ومراقبة تنفيذ قوانين المالية والدبلوماسية الموازية للقيام بواجبها في الدفاع عن الوحدة الترابية. 5 . القطاعات الوزارية، من خلال البرامج الحكومية المعنية بالخطاب الملكي، وهي: وزارة التعليم والتكوين المهني، وزارة الداخلية، وزارة الخارجية، وزارة الشباب والرياضة، وزارة التشغيل، والوزارة المكلفة بالمقاولات الصغرى والمتوسطة. كما أن الخطاب اعتمد منهجية جديدة في التعامل مع العديد من القضايا وبعث رسائل وطنية ودولية وإقليمية في غاية الأهمية. ويمكن أن نجد ملامح هذه المنهجية في معالجة القضايا المختلفة كما يلي: التذكير بالخطب الملكية السابقة، لأن الخطب الملكية تشكل حلقة متصلة للأحداث ومعالجتها، إذ ذكر جلالة الملك بالخطاب الملكي لافتتاح البرلمان الذي أكد على ضرورة إدماج الشباب واعتباره في صلب النموذج التنموي الجديد من خلال التكوين والتربية والتعليم، لأن المناسبة تقتضي ذلك؛ وذكر كذلك بخطاب العرش الذي تحدث فيه عن أهمية الحماية الاجتماعية. إعلان لقاء وطني محدد زمنيا في نهاية السنة للتشغيل والتكوين لبلورة قرارات عملية. وهنا نلاحظ أن الخطاب الملكي تحول إلى برنامج عملي يحدد توقيت العمل المطلوب والفئات المعنية والمستهدفة ويبلور قرارات عملية. وقد وضح جلالة الملك الرؤية المستقبلية الخاصة بنوع من التكوين المؤدي إلى برامج التشغيل عندما قال: "سنحدث جيلا جديدا من المراكز لتكوين وتأهيل الشباب حسب متطلبات المرحلة، مع مراعاة خصوصيات وحاجيات كل جهة". وهذه رؤية جديدة للتشغيل من منظور الجهوية الاقتصادية المتقدمة. إن الحديث عن تشغيل الشباب أخذ حصة كبيرة في الخطاب، حيث تكررت كلمة "التشغيل" أكثر من مرة. كما أن الخطاب عن الشباب في مجمله كان يتحدث عن الآليات المؤدية إلى التنمية وتشغيل الشباب، وبالتالي فإن الخطاب كان في معظمه يتحدث عن تطوير الاقتصاد وتحقيق التنمية. الخطاب استند إلى دراسات معمقة مع استعمال بعض المؤشرات المهمة؛ نجد ذلك عندما أشار إلى مؤشر البطالة، إذ قال إن "البطالة تمس شابا من بين أربعة رغم مستوى النمو الاقتصادي الذي يحققه المغرب على العموم، والأرقام أكثر قسوة في المجال الحضري". وربط الخطاب إشكالية البطالة بالنمو الاقتصادي، وهذا ما أكدته التقارير المحلية والدولية. وهذا في حد ذاته يعتبر خللا تنفيذيا للحكومات السابقة واللاحقة ويطرح سؤالا على الجميع. العمل على مراجعة شاملة لآليات وبرامج الدعم العمومي الذي يخصص لتشغيل الشباب، للرفع من نجاعتها ولتلبي تطلعات الشباب على غرار ما جاء في خطاب العرش بخصوص برامج الحماية الاجتماعية؛ وهذا يعني أن دعم الشباب من خلال الدعم العمومي الموجه إلى التنمية البشرية جزء من برامج الحماية الاجتماعية للشباب، لأن أكبر حماية اجتماعية هي التشغيل. وهذا يتطلب مساعدة وتحفيز الشباب على خلق المقاولات الصغرى والمتوسطة في مجالات تخصصهم بطرق ميسرة خاصة بهم. أشار الخطاب الملكي إلى ضرورة إدماج جزء من القطاع غير المهيكل في القطاع المنظم، لأن هذه العملية ستمكن من استرجاع حوالي 30 مليار درهم لخزينة الدولة. لكن هذه العملية تتطلب بناء الثقة بين القطاع غير المهيكل ومؤسسة الدولة المعنية بالمقاولات وتغير بعض القوانين التي يهرب منها القطاع غير المهيكل، مع تمكين ما يتوفر عليه من طاقات وتكوين ملائم ومحفز كما قال جلالة الملك. الخطاب لم يتوقف عند التوجهات، بل أصبح برنامج عمل للجميع، فقد أمر جلالة الملك بوضع برنامج إجباري على مستوى كل مؤسسة لتأهيل الطلبة والمتدربين في اللغات الأجنبية لمدة من ثلاثة إلى ستة أشهر، وتعزيز إدماج تعليم هذه اللغات في كل مستويات التعليم، وخاصة في تدريس المواد التقنية والعلمية. وهذا هو الخصاص الذي يعيشه شبابنا، لأن التمكن من اللغات هو مدخل للعمل ومتابعة الدراسات العلمية والتقنية في الداخل والخارج، وتمكن الشباب أيضا من الانفتاح الفكري والارتقاء الذهني. الجزء الثاني من الخطاب ربط ذكرى 20 غشت وما ميزها من إجماع وتلاحم وتضحيات باستعداد المغاربة الدائم كلما تعلق الأمر بقضية وحدتنا الترابية. وهذا الرابط في غاية الأهمية لأن ربط الماضي بالحاضر هو سبيل النجاح في المستقبل. وتزامنت هذه العملية مع إخراج قانون التجنيد الإجباري الذي سيبعث الروح في شبابنا، لأنه تكوين متكامل يحتاجه كل واحد منا للدفاع عن وطنه. أشار الخطاب الملكي بكل ثقة وعزم إلى قضية الوحدة الترابية، إذ قال جلالة الملك: "..يواصل المغرب بكل ثقة والتزام انخراطه في الدينامية التي أطلقها الأمين العام للأمم المتحدة بالتعاون مع مبعوثه الشخصي؛ وذلك على أساس نفس المرجعيات التي حددناها في خطاب المسيرة الخضراء الأخير. وإننا نسجل بارتياح الانسجام المتزايد بين هذه المبادئ والمواقف الدولية؛ فالقرارات الأخيرة لمجلس الأمن الدولي ولقمة الاتحاد الإفريقي تؤكد بما لا يدع مجالا للشك الاختصاص الحصري للأمم المتحدة في رعاية المسار السياسي". تحليل هذا الجزء من الخطاب يؤكد مرة أخرى ثبات المغرب في موقفه للدفاع عن وحدته الترابية، كما يؤكد جهود جلالته التي بذلها في القارة الأفريقية وما بذلته الدبلوماسية المغربية في المحافل الدولية لإقناع المنتظم الدولي بحقوق وشرعية المغرب في صحرائه، رغم محاولات الخصوم في كل مناسبة النيل من المغرب ومن وحدته الترابية. ولقد كان هذا الجزء من الخطاب، بمفرداته التي تحمل رسائل قوية وحاسمة لا اجتهاد فيها، ضربة قوية للخصوم، إذ اعتبروا أن المغرب حسم في موضوع الصحراء لكنه يفاوض فقط من أجل المزيد من الإقناع للأطراف الدولية المعنية. كما أن قيام الملك بإجراءات عملية استباقية مصاحبة للخطاب الملكي يعتبر منهجية إيجابية وجدت تجاوبا واسعا مع جميع الفاعلين ومع الشعب المغربي، إذ شكلت عملية العفو عن أكثر من 180 سجينا من المحكوم عليهم بسبب احتجاجات الحسيمة انفراجا اجتماعيا وشعبيا واسعا، وتركت استحسانا وأعطت لمفهوم العفو الملكي بعدا دستوريا وإنسانيا قويا بمناسبة عيد الأضحى المبارك. كما أن الإفراج عن بعض المعتقلين الإسلاميين هو الآخر أعطى بعدا لمفهوم التوبة والعودة إلى جادة الصواب في إطار المصالحة، وبعدا آخر لمفهوم إمارة المؤمنين، وأن الوطن غفور رحيم. انعقاد المجلس الحكومي والمصادقة على ما جاء فيه، وخصوصا موضوع قانون الإطار الخاص بالتعليم الذي يعتبر غاية في الأهمية في بناء نموذج تنموي جديد، بالإضافة إلى المصادقة على قانون التجنيد الإجباري وتعيين وزير الاقتصاد والمالية وإعادة هيكلة بعض القطاعات الحكومية لتجويد العمل الحكومي، كل هذه الأمور أعطت صورة للرأي العام بأن الأمور متحكم فيها، وتسير بشكل طبيعي. إن الخطاب الملكي وما صاحبه من إجراءات هامة وعملية يؤكد أن الدخول السياسي لهذه السنة ستكون فيه أوراش مهمة وبرامج متعددة أمام الحكومة وأمام البرلمان يبقى السؤال المطروح هل هذه المؤسسات قادرة على تنفيذ هذه القرارات والبرامج في وقتها المحدد وبالشكل السليم حتى تأتي مناسبتا عيد الشباب وثورة الملك والشعب لسنة 2019 ونتحدث عن قرارات وبرامج في قطاعات أخرى؟. *أستاذ التعليم العالي