علمنا التاريخ أن المنتصر هو من يكتب التاريخ، وهو من يُحدد الخرائط والسياسات للمستقبل. وهكذا كان حتى أصبح "شبه عُرْف" بعد كل الحروب والصراعات التي عرفتها الإنسانية، ونخص بالذكر فقط الخرائط السياسية والاقتصادية والاجتماعية، سواء بعد الحرب العالمية الأولى أو الثانية، التي رسمها الحلفاء المنتصرون لبقية دول العالم. وهو المنطق نفسه-أي منطق المنتصرين–يُطبق اليوم في مجال الهجرة واللجوء، حيث تختلف التعريفات والاصطلاحات والتصورات والتقديرات للظاهرة الواحدة نفيها، أي الهجرة، التي أصبحت تتصدر كل البرامج الانتخابية، بل تطغى حتى على أولويات الناخب الغربي (الأوروبي خاصة) المتمثلة في العمل والبطالة والضرائب والتقاعد والتعليم والوقت الثالث والبيئة.... مقابل تداعيات الأزمة الاقتصادية وسياسات التقشف واملاءات البنوك والمؤسسات المالية الأوروبية... وكأن الفاعل السياسي الغربي (المنتصر، الأقوى اقتصاديا....) اكتشف "أفيونا سياسيا" جديدا أدخل به مجموعات كبيرة من الوعاء الانتخابي في حالة "تخدير جماعي" أدمنه الناخب الأوروبي ولا يريد الخروج منه، رغم أن أرقام الاحصائيات والمعطيات تقول عكس ما يروجه الفاعل السياسي ذو الخلفية اليمينية المتطرفة المسيطرة الآن على تسيير دول أوروبية عديدة... ويكفي أن نشير هنا إلى احصائيات منظمة الهجرة الدولية نحو أوروبا التي تذهب في اتجاه تراجع بشكل كبير في أعداد المهاجرين نحو أوروبا منذ النزوح الجماعي الكبير لسنة 2015، والتي سجلت دخول حوالي نصف مليون مهاجر إلى أوروبا، وسجلت سنة 2016 وصول أكثر من 241 ألف مهاجر، أما سنة 2017 فقد سجلت وصول أكثر من 109 آلاف مهاجر إلى أوروبا، في حين سجلت سنة 2018 إلى غاية يوليوز أكثر من 50 ألف مهاجر... وباعتمادنا لغة الأرقام نقف عند التراجع الكبير لأعداد المهاجرين نحو أوروبا، بل حتى احصائيات بعض السجون الأوروبية تقول بتناقص عدد النزلاء الأجانب بالسجون الأوروبية... لكن في مقابل ذلك، نلاحظ تزايد حدة لغة خطاب اليمين المتطرف بأوروبا واستمراره في تحذير سكان القلعة الأوروبية من "العدو الافتراضي"، أي المهاجر... وهي اللغة التي جعلت الساحة السياسية والإعلامية في حالة شبه استنفار والحكومات الأوروبية في حملة انتخابية متواصلة... فالملاحظ أن منطق المنتصرين (أوروبا) في تحديد خريطة الاشتغال على ملفات الهجرة، ينتصر للجانب الأمني على الجانب الإنساني، والمنطق نفسه جعلها تضع تصنيفات جديدة للمهاجر بين "المهاجر الاقتصادي "والمهاجر البيئي" و"المهاجر اللاجئ" و"المهاجر غير الشرعي" وغيرها من التصنيفات... لكن التاريخ نفسه وفي أكثر من مناسبة أبان عن مكر كبير، وخذل المنتصرين أنفسهم في أكثر من مناسبة... ففي زوال يوم 6 غشت الجاري وقعت حادثة مروعة بين ناقلة شحن كبيرة وحافلة صغيرة تحمل ترقيم دولة بلغاريا على متنها مهاجرون يعملون في مجال الفلاحة، كانوا عائدون من مزارع الطماطم بمدينة فوجيا بجنوبإيطاليا، الحادث خلف مقتل 12 مهاجرا وجرح 3 آخرين، كل الضحايا مهاجرون شرعيون. وهو الحادث الذي جاء بعد فاجعة يوم السبت 4 غشت الجاري أيضا بوفاة أربعة مهاجرين أفارقة يعملون في مزارع منطقة أسكولي بإيطاليا. مما أجبر كلا من رئيس الحكومة، جوزيبي كونتي، وحامل حقيبة الداخلية، ماتيو سالفيني، على زيارة "جهة بُوليا" بالجنوب الإيطالي، حيث تم الحديث عن ظروف العمل بالمزارع والبيوت البلاستيكية التي تفتقر إلى الكرامة الإنسانية واستغلال العمالة الأجنبية، وخاصة المهاجرين غير الشرعيين. وهي الظروف نفسها التي تعيش فيها العمالة الأجنبية مثلا في مزارع الفراولة والفواكه الموسمية بالجنوب الإسباني، والتي لم تعد سرا على أحد. فبعد حادثيْ 4 و6 غشت أعلنت النقابات المحلية عن إضراب ومسيرة كبيرة يوم 8 غشت في مناطق فوجا الإيطالية، وهنا يكمن مكر التاريخ من حيث دلالة يوم 8 غشت في الذاكرة الجماعية للإيطاليين. ففي صبيحة يوم 8 غشت من سنة 1956، وقع انفجار كبير بمناجم الفحم بمنطقة "مارسنيل"، التابعة لمدينة شارلوغوا البلجيكية، ذهب ضحيته 262 عاملا منجميا، من ضمنهم 136 عاملا إيطاليا، إلى جانب 95 بلجيكيا، و8 بولونيين، و6 يونانيين، و5 ألمانيين، و5 فرنسيين، و3 هنغاريين، وواحد من كل من بريطانيا وهولندا وروسيا وأوكرانيا. وهو الحادث الذي تخلده إيطاليا منذ 62 سنة تقريبا وتشارك فيه بوفود حكومية وازنة وتوضع فيه أكاليل الزهور وتُقْرأ كلمات الخارجية الإيطالية ورئيس الدولة الإيطالية ترحما على ضحايا المنجم البلجيكي، وتحول المكان إلى متحف لحفظ الذاكرة الجماعية للمهاجرين الأوروبيين. لكن تخليد ذكرى سنة 2018 لم يخلو من "بُوليميك" سياسي وإعلامي، حيث صاحب تعليق السيد مُووافيرا ميلانيزي، وزير الخارجية الإيطالية، بمناسبة "فاجعة مارسينيل"، بقوله: "لا يجب نسيان أن فاجعة مارسينيل هي مأساة للهجرة"، وهو تعليق أفقد صقور اليمين المتطرف الإيطالي توازنهم، بقولهم إنه "لا يجب مقارنة مهاجري إيطاليا والمهاجرين الآخرين". لكن للتاريخ مرة أخرى لغة مغايرة، حيث يُخبرنا بأن هجرة الايطاليين إلى مناجم بلجيكا لم تكن هروبا من حكم ديكتاتوري أو من مأساة بيئية أو من نزاع مسلح، بل إن الاتفاق الإيطالي / البلجيكي الموقع في يونيو 1946 كان يقضي بإرسال إيطاليا حوالي 50 ألف عامل كل سنة إلى مناجم بلجيكا، أغلبهم غير متخصص، مقابل 200 كيلوغرام من الفحم يوميا عن كل عامل. مما يعني معه أن المهاجر الإيطالي كان مجرد "مهاجر اقتصادي"، وهي مواصفات تُجيز طرده من بلجيكا حسب أدبيات اليمين المتطرف الإيطالي نفسه. من جهة أخرى، فإن الاتفاق نفسه كان ينص أيضا على الايواء وإعادة التأهيل والتكوين للمهاجرين الايطاليين، لكنها ظلت شعارات ورقية فقط أمام شعارات عنصرية رفعتها الساكنة المحلية البلجيكية من قبيل "لا للحيوانات، لا للأجانب"، بالإضافة إلى معاناة كبيرة للمهاجرين الايطاليين مع ظروف العمل والسكن والاندماج وغيرها. فما أشبه اليوم بالأمس، هناك تشابه في ظروف المهاجرين، وخاصة المهاجرين العمال الزراعيين بكل من جنوبإيطالياوبجنوب إسبانيا حيث حقول الفراولة والطماطم والبرتقال وغيرها، مع ظروف العمال الإيطاليين وغيرهم من جنسيات أوروبية ممن لقوا حتفهم في انفجار منجم الفحم البلجيكي يوم 8 غشت 1956. فالموت في المناجم أو الموت في مزارع الطماطم سيان، ولهما طعم واحد هو العبودية الجديدة، والضحية في الحالتيْن معا هو الإنسان، بغض النظر عن كل تصنيف عرقي أو جنسي أو ديني. ففي يوم 8 غشت من كل سنة، يدق ناقوس منطقة مارسينيل 262 مرة، عدد ضحايا منجم الفحم البلجيكي. فكم يحتاج المجتمع الإنساني من دقات ناقوس أمام كل هذا العدد الهائل من ضحايا الهجرة وساكني مقبرة البحر المتوسط أو الجبال والهضاب والغابات الحدودية الأوروبية؟