بعد كل حرب مأساوية، تظل الآثار الناجمة عنها شاهدا أبديا، ليس فقط من الناحية المادية من خراب عمران ودمار للبنية التحتية، بل والأعمق، ذاك الشاهد الحي من خراب الأرواح، وجراح النفوس، بعد كل حرب مأساوية تظهر الأرقام الفظيعة لحجم الخسائر البشرية، والأرقام ليست سوى أسماء أشخاص سرقت المأساة أحلامهم وحياتهم وتركتهم ذكرى في قلوب الأمهات. ستكون هذه الورقة عن أم كان لها مسار في الحياة لم تختره، ولم تتمناه. هذه حكاية أم حطمت الحرب حياتها، لكنها قاومت ظلم نسيان ضحايا الخراب البشري حتى الرمق الأخير، فقد توفيت رئيسة جمعية أمهات سريبرينيتسا صباح الإثنين 23 يوليوز 2018 في عيادة في سراييفو، عاصمة البوسنة والهرسك، حيث كانت تُعالج. هكذا أصبحت المرأة التي فقدت زوجها وولديها إبان مذبحة سريبرينيتسا في عام 1995 رمزا للنضال من أجل العدالة. أول مرة في تاريخ منظمة الأممالمتحدة، تجد نفسها: سنة 28 أكتوبر 2007 مطلوبة للعدالة على إثر دعوى قضائية رفعتها جمعية أمهات سريبرنيتسا. الأربعاء 16 يوليوز2014 محكمة لاهاي الدولية تعترف بمسؤولية قوات الأممالمتحدة عن مقتل 300 من اللاجئين في قاعدتها شمال سريبرنيتسا. جاء هذا الاعتراف بعد القضية التي رفعتها جمعية أمهات سريبرنتسا ضد قوات الأممالمتحدة التي سمحت للجنود الصرب بأخذ 300 من الرجال والفتيان من سكان سريبرنتسا الذين لجؤوا إلى قاعدتها الأممية الواقعة على بعد 4 كيلومترات شمال سريبرنتسا. هاتيدزا محمدوفيتش، الأم التي أسست هذه الجمعية التي ذاع صيتها في العالم، فقدت زوجها وأبناءها الذين وجدت بقاياهم متفرقة عبر المقابر الجماعية التي دفنت فيها القوات الصربية جرائمها. احترق قلب الأم لهول الفقدان، كانت أمهات غيرها، بقين وحيدات بعد هلاك أسرهن، آلاف الأمهات لآلاف الشباب المدنيين. انضاف هول الفقدان إلى هول آخر ما كانت لتسكت عنه الأمهات المكلومات في أبنائهن وأزواجهن. إنه هول الصمت الدولي تجاه قضية سريبرنتسا، هول العالم الراضخ تحت البروباغاندا الصربية ذات الإعلام التواصلي المنتشر على الصعيد العالمي، حيث تعلو أصوات مشككة في حدوث المجزرة وفي كون ضحايا حقيقيين تركتهم الحرب وراءها في سريبرنتسا، حينئذ نزعت الأم قيود الصمت وتركت ألمها يتحدث بقوة مهذبة أثارت تعاطف العالم، حيث كثير من القنوات ذهبت إلى سريبرنتسا فقط لتقابل هذه الأم التي كانت أول من تكلمت واتهمت قانونيا قوات الأممالمتحدة بتسليم المدينة للقوات الصربية، فوجدت الأممالمتحدة نفسها لأول مرة في تاريخها مدعوة للامتثال كمتهمة في قضية مرفوعة ضدها في محكمة العدل الدولية من طرف جمعية أمهات سريبرنتسا. كيف يمكن ضمد جراح الأمهات؟ كيف يمكن قتل حقيقة الألم، والطغيان، وذكرى الأبناء وهم أطفال، وهم يافعون وشباب؟ كيف يمكن النظر في وجه الأم المكلومة ظلما وعدوانا، ثم نمضي كأن لا شيء كان؟ لم ترغب أن تمضي كأنها لم تكن، كأن أبناءها وأبناء سريبرنتسا لم يكونوا يوما، بل صرخت صرختها التي صدعت أركان سياسة دولية فشلت في حل قضية البوسنة والهرسك، فضحت تلاعبات الدول الكبرى في القيم الإنسانية التي بدت قيما للأقوى والأقوى، بينما أبناء سريبرنتسا في غياهب الإبادة منسيين. لم ترغب أن تمضي دون أن تلقن للمجرم درسا في ما تستطيع الأمهات أن يفعلنه من أجل فلذات أكبادهن، لن تمضي دون أن تترك اسم الأم ملهما لكل قيم العدالة والسلام. إنها مثال أي أم في العالم تسأل ما هو ذنب الأطفال والشباب الأبرياء؟ ما هو ذنبهم لكي لا ينعموا تحت شمس أوطانهم بالسلام؟ ما هو ذنبهم لتسرق منهم الحياة؟ ما هو ذنب الأم ليحرق قلبها، لتعذب في أمومتها؟ قامت هاديتزا محمدوفيتش الأم العادية بشيء غير عاد، لا تقدر سوى شاكلة من الأبطال القيام به، حينما رفعت دعواها ضد الأممالمتحدة، دخل العالم تاريخا جديدا كانت الأم من خطت بدايته، فهل هذه بداية تصدع أركان الأممالمتحدة جراء مظالم لم تقدر على التعامل معها كما توجبه القيم التي من أجلها تأسست هذه المنظمة؟ هل هي منظمة مستقلة أم هي تحت ضغوط دول تطغى على قراراتها؟ أدت جمعية أمهات سريبرنتسا إلى طرح أسئلة أساسية بشكل علني واضح تجاه السياسة الدولية في قضية البوسنة والهرسك. ستظل كلمة الأم هاتيدزا محمدوفيتش خالدة على جبين العالم: "من الآن فصاعدًا، لن أستطع أن أكون أمّاً بعد الآن، لن أحصل على أحفاد، لم يعد لدي ابن، لن أعرف هذا النوع من الفرح". أكيد أن هذه الأم البوسنية ستظل مثالا ملهما لكثير من أمهات العالم، بل لكثير من الرجال والنساء الذين يؤمنون بأن لا قانون فوق قيم الحق والعدل.