في الوقت الذي كان من المفروض أن ينصب فيه النقاش العمومي حول دستورية القانون المتعلق بتقاعد البرلمانيين، عملت بعض الأصوات من داخل البرلمان ومن داخل الطبقة السياسية على تحريف النقاش وإلباسه لبوسا اجتماعيا وسياسيا وقانونيا بعيدا عن جوهر الموضوع، وعن سؤاله الدستوري الحاسم: هل يحق للبرلماني أن يستفيد من التقاعد؟ فقد روج البعض، بشكل مثير للشفقة، بأن بعض البرلمانيين يعيشون ظروفا صعبة وينبغي تأمين مستقبلهم وضمان "حقهم" في المعاش، وروج البعض الآخر بأن قانون التقاعد يفترض توافقا سياسيا بين الفرق البرلمانية في محاولة لتمرير نسخته الجديدة، فيما روج البعض بأن الأمر يتعلق بمكتسب ينبغي حمايته ضمانا لمصلحة الجميع. والواقع أن قانون التقاعد الموروث عن سنة 1993 (والمعدل سنة 2006) والمسمى "نظام المعاشات لفائدة أعضاء مجلس النواب" هو قانون غير دستوري جرى تمريره بتواطؤ بين الدولة والحكومات المتعاقبة والبرلمانيين والطبقة السياسية التي توافقت حوله، وهو قانون مخالف لمقتضيات الدستور في الجوهر، وهو قانون غير شرعي يخالف مفهوم المصلحة العامة ومبدأ التساوي أمام القانون؛ بل إنه يتعارض حتى مع اختصاصات ووظائف التشريع البرلماني. واليوم، حيث يتجدد النقاش بشأن نظام معاشات البرلمانيين بعد إفلاس صندوقه، ومحاولة تمريره في نسخة جديدة تحت مسميات عديدة، وتأويلات مختلفة، يقتضي الأمر التنبيه إلى ما يلي: أولا/ إننا بصدد تمييز دستوري بين فئات المجتمع. وعوض أن يلتزم البرلمان بسن قانون يضمن التقاعد لفئات عريضة من المجتمع لا تستفيد أصلا من نظام التقاعد، يجتهد النواب البرلمانيون من أجل تمرير قانون لمصلحتهم؛ وهو ما يتعارض أصلا مع المبدأ الدستوري المتعلق بالتساوي أمام القانون (الفصل 31 من الدستور). ثانيا/ كما أن الأمر لا يتعلق بحق من حقوق البرلماني أو بمكتسب قانوني؛ لأننا إزاء قانون يتعارض مع أحكام الدستور، وما بني على باطل فهو باطل. وبالتالي، فالنقاش حول عدم رجعية القانون نقاش غير سليم. كما أن النقاش حول الأوضاع الاجتماعية للبرلمانيين نقاش يستبلد الرأي العام؛ فالبرلماني ليس موظفا يستحق المعاش بعد تقاعده. والموظف يخضع للحقوق والواجبات التي ينظمها القانون، باعتباره أجيرا يؤدي وظيفة في إطار المرفق العام. وتعمل الدولة على تأمين تقاعده بناء على المساهمة المالية التي كانت تقتطع من أجره خلال مدة عمله، وبناء على مساهمة الدولة التي ينظمها القانون. أما البرلماني فهو يضطلع بصفة ممثل نيابي ويؤدي مهمة سياسية تمثيلية بموجب الانتخابات، والتعاقد يجري بينه وبين المجتمع، وبينه وبين حزبه السياسي، ومهمته هي التشريع لفائدة المجتمع وليس لفائدة مهامه التي تعتبر في الأصل وظيفة وليس مهنة، ولا يتقاضى عليها أجرا؛ لأن ما يصرف له كتعويض شهري عن المهام يصرف له من أموال الشعب ودافعي الضرائب، ولا يجوز دستوريا أن يشرع البرلماني لنفسه قانونا للتقاعد مؤدى عنه من جيوب المواطنين، ومن خزينة الدولة. ثالثا/ ومن جانب آخر، فإن التشريع القانوني لتقاعد البرلمانيين لا يدخل في المهام التشريعية للبرلمان، وهي المهام المحصورة في الفصل 71 من الدستور(الحقوق والحريات- نظام الأسرة- المنظومة الصحية- السمعي البصري- العفو العام- الجنسية- الجرائم والعقوبات- التنظيم القضائي-المسطرة المدنية والجنائية- نظام السجون- الوظيفة العمومية- الضمانات الأساسية الممنوحة للموظفين المدنيين والعسكريين- نظام حفظ الأمن-نظام الجماعات الترابية- النظام الانتخابي- النظام الضريبي- قانون إصدار العملة ونظام البنك المركزي- نظام الجمارك- قانون الشركات والتعاونيات- أنظمة الملكية- نظام النقل- علاقات الشغل والضمان الاجتماعي- نظام الأبناك والتأمين والتعاضديات- تكنولوجيا الاتصال والمعلومات- التعمير- تدبير البيئة- نظام المياه والغابات والصيد- التعليم والبحث العلمي والتكوين المهني- تأميم المنشئات ونظام الخوصصة..). وفي كل هذه الاختصاصات التشريعية لا يوجد شيء اسمه "نظام معاشات البرلمانيين"، باستثناء تنصيص الدستور على "الضمانات الأساسية الممنوحة للموظفين المدنيين والعسكريين". والطبقة البرلمانية لا تدخل في هذه الخانة. رابعا/ في السياق ذاته، لا يمكن التشريع لقانون يضمن تقاعدين اثنين كما هو الحال بالنسبة إلى وضعية البرلماني الموظف. فهل يجوز أن يستفيد من تقاعد عن مهنته الأصلية، وتقاعد ثان عن البرلمان مؤدى عنهما من قبل الدولة. ولو افترضنا أن البرلمانيين يرغبون في تأمين معاشهم، سواء كانوا موظفين عموميين، أو رجال أعمال، أو أصحاب مهن حرة، أو فلاحين، أو تجارا، يمكنهم تحقيق ذلك مع شركات تأمين عبر مساهماتهم الخاصة، وليس على حساب نفقات الدولة؛ فالدستور لا يعطي امتيازا لفئة على حساب أخرى، ويصرح في فصله 39 بأن "الجميع يتحمل، كل على قدر استطاعته، التكاليف العمومية". إن هذه العناصر مجتمعة تؤكد أن قانون معاشات البرلمانيين قانون غير دستوري ولا شرعية له، ليس فقط لكونه امتيازا خارج مقتضيات القانون؛ بل لأنه يتعارض، أصلا، مع المهام والاختصاصات الدستورية الموكولة للبرلمان.