ملك الفقراء.. الملك الشاب.. تلك كانت عناصر اللغة الرئيسية في التواصل الملكي والإعلامي مع بداية عهد الملك محمد السادس. فَلننسَ قليلا هذه اللغة ولنتحدث من العقل، لغة الصراحة والحقيقة للأمانة، وللتاريخ فقط، وليس لأي شيء آخر غير الأمانة والتاريخ. لنتحدثْ عن هذا الملك من منظور ما قدمه للمغاربة من تنمية وحريات وهيبة دولية حتى لا نكون جاحدين قساة القلب، فمن لم يشكر الناس لا يشكر الله. بداية القصة كانت مع وفاة ملك، وتولي ملك جديد، تلكم أعراف الملكيات وطرق حكمها برضى الناس منذ فجر التاريخ. ذلك الملك الذي تولى وبايعه الملأ هو محمد السادس، ملك المغرب. وجد نفسه أمام مخلف كبير وضخم في ملفات شائكة في السياسة والحقوق والتنمية، عليه تصفيتها وتصحيح مسارها. الملوك كباقي الناس، بشر ممن خلق الله، يمشون في الأسواق ويأكلون الطعام. مع هذا الملك انتهت القداسة للملوك عندنا، ودخلنا عهدا جديدا فيه الملك مواطن، له ما له، وعليه ما عليه من واجب المواطنة، مع بقاء الاحترام والتقدير اللازمين لهذه المؤسسة، التي ولدت من رحم التاريخ، وقاومت ما قاومت من عواصف ودسائس حفت حولها وحول البلاد ككل. بغض النظر عن الصفات التي يحملها الملك عرفا وتقليدا، صاحب الجلالة أو صاحب المهابة أو الجناب الشريف أو أمير المؤمنين، فهي لا تنفي عنه صفة البشرية، ويحتمل بذلك الخطأ والسهو والنسيان. وقد يحتمل، أيضا، الإكراه على فعل الشيء، رغم كراهته له. فقيادة الأمم لا ترضي أحدا، ولا تحابي أيا كان عندما يتعلق الأمر بمصير الجماعة ككل، وتلكم خصال كل القادة عبر التاريخ، لكنها قد تخضع لإكراهات وضغوطات تقبل لتفادي الأسوأ. عندما تولى الملك أمر الجماعة المغربية طاف بأرض البلاد ملتمسا، بشكل ضمني ومبطن، مبايعة باقي الشعب، مصافحا الخلق بجميع فئاته، أصحاء ومعاقين، أغنياء وفقراء، مسؤولين ومواطنين عاديين، نساء ورجالا، شيوخا شبابا وأطفالا. كانت الرسالة صادقة وواضحة والهدف بين: فتح صفحة جديدة مع الشعب، مصالحة الجميع من أجل إعادة بناء صرح الدولة المغربية وترميم ما أفسده الدهر والرجال قبله. أبرز عنوان يليق بحقبة هذا الملك هو عهد المصالحات الكبرى. مصالحات سياسية بعد جفاء وكر وفر، من جملتها إدماج الإسلاميين في النظام، وفي تدبير الشأن العام، والحديث عن الملك وقراراته بدون خوف، وهذا في حد ذاته تطور مهم في شكل النظام، يعرفه و"يتذوق" حلاوته المخضرمون في السياسة والإعلام خصوصا. مصالحات حقوقية وثقافية بالاعتراف بخروقات الماضي، والتصالح مع الحريات، ومع اللغة والثقافة الأمازيغيتين. مصالحات اقتصادية كبرى فتحت المجال أمام المستثمر المغربي في الهوامش للولوج إلى إنتاج الثروة. مصالحات اجتماعية في قانون الأسرة والشغل والإضراب والاحتجاج وغيرها. مصالحات إدارية وقضائية، وبداية عهد استقلال القضاء، وإعادة النظر في مدرسة ليوطي- البصري لرجل السلطة. مصالحات مجالية حققت نوعا من العدالة في الولوج إلى المرافق الضرورية للحياة. مصالحات بالجملة لا يمكن أن ننكرها بجرة قلم أو بكلمة هنا أو هناك. الاعتراف بالفضل سيد الأخلاق. عزل من علية القوم أعتاهم، من كانوا سببا في شقوق البناء، ونصّب آخرين مأمولا فيهم تصحيح الوضع، وخدمة المغاربة وفق نَفَس جديد ميزته القرب واللين والعطف. حرك بعضا من الماضي المؤلم عبر بوابة حقوق الإنسان، فأنشأ محكمة للتاريخ سميت بهيئة الإنصاف والمصالحة، ترأسها رجل من زمن المعاناة والشدة. مؤسسة أمسكت الحبل من الوسط، وفق قاعدة لا ضرر ولا ضرار، فالبلاد أنهكتها الخلافات وأجلت تنميتها، ولم تعد تحتمل مزيدا من الانقسامات من جديد. عزز الثقة في المؤسسات، أرسى قواعد حريات لم يعهدها المغاربة من قبل. لم يخاطب الأمة متوعدا إياهم بخراب بيوتهم إن فعلوا كذا أو لم يفعلوا كذا. انتقده البعض لحسابات خاصة، حسابات لم تكن لخدمة الوطن والمواطن، بل كانت لخدمة أجندة نفعية، داخلية وخارجية. الملكية في المغرب نظام خبر دروس التاريخ. تعايشت مع حركات مناوئة وأخرى صديقة عبر تاريخ نشأتها وتطورها، تفاعلت مع الزوايا واحتجاجاتها، تعاطت مع بلاد السيبة وبلاد المخزن، تجنبت الصدامات الخارجية والدولية وتفادت القوى الدولية والإقليمية، عاشت الاستعمار والحجر الأجنبي، قارعت مختلف الأفكار من تصوف وتشيع ومذاهب دينية وسياسية كثيرة، تجاذبت مع الأيديولوجيات اليمينية واليسارية وعاشت تحت قرع كؤوس الشرق الشيوعي والغرب الرأسمالي، تدربت نفسيا وبدنيا مع حركات وأفكار الانفصال، في محطات تاريخية مهمة ومفصلية. كلها محطات قوت الملكية، وشكلت عقلها الباطن بمثابة خزان للأعراف والتقاليد في تدبير العقليات والأزمات. هي النظام الوحيد الذي جمع ووحد المغاربة حول مشروع وطني لبناء الدولة من منطلق مغربي خالص، في غياب أي تصورات أو مشاريع قطرية حقيقية للبناء. هي المؤسسة الوحيدة، التي استطاعت أن توفق بين التاريخ والحاضر من أجل المستقبل، بدون حسابات شخصية أو سياسوية، وإلا كان مصيرها كعدد من الأنظمة في فضائنا العربي والثقافي والجغرافي: الاندثار والتفكك والتطاحن الدموي. هي المؤسسة الوحيدة التي أتقنت فنون تدبير التناقضات الداخلية والخارجية، وخلقت توازنا لاستمرار الدولة والمجتمع. الملكية التدبيرية لم تكن مروجة أحلام وأوهام، بل كانت لغتها، أحيانا، واقعية قاسية، وتقييمها حقيقي مر، حتى لا تتبخر أحلام الناس وينكشف الواقع وتفقد الثقة وتضيع جسور المحبة والتعاون. كابوس رهيب مؤرق ذلك الذي قد يحدث بعد فقدان الأجيال الأمل. صناع الأحلام ينتجون الوهم والسراب، في وقت لم يعد المزاج العام يتحمل ذرة كذب صغيرة. أن يصوروا للشعب واقع الحياة باللونين الأسود والأبيض فقط، كما كان يفعل الملك الراحل الحسن الثاني عندما تحدث عن السكتة القلبية للمغرب، وعن جميع الأزمات التي سبقت كالجفاف ومنع ذبح أضاحي العيد وغيرهما، لتنهض الهمم وتقوى العزائم، خير من أن يزينوها بلون أخضر براق ناصع ينمي الكسل ويحبب المرتع، وسرعان ما تلفحه شمس الحقيقة، فيصفر ثم يصير حطاما تذروه الرياح. تحول المغرب خلال عهده إلى ورش كبير تنموي مفتوح. لا يمكن إنكار ذلك وإلا سيكون جحودا وأنانية مقيتة. في البلاد كان الخراب قد وصل إلى قممه العالية. مدن لا تمت إلى هذا الاسم بصلة. مدن مريّفة بأزقتها وطرقها ومرافقها. شبكات تواصل مهترئة بالية، ساهمت في عزلة المغاربة عن بعضهم البعض، وعن ممارسة الحياة في كل مناحيها، في التجارة والتعليم والسياحة والصحة وغيرها كثير جدا. فتحت طرق سيارة كثيرة وموانئ عالمية ومطارات ذات جودة راقية ومستشفيات جامعية ومدارس وكليات وقناطر ومدن جديدة وغيرها. لم يكن طلبة وجدة والجهة الشرقية، مثلا، يحلمون يوما ما أن تصير لديهم كلية طب ومستشفى جامعي. لم تكن ساكنة الشرق تحلم يوما أن الطريق إلى مدينة فاس سيكون في وقت وجيز عبر طريق سيار سريع. الذين يتجولون في المغرب، شمالا وجنوبا شرقا وغربا، سيقفون بدون شك على وجه جديد متطور للمغرب. عبر كل ربوع المملكة شيدت المرافق بالعشرات، بنيت الطرق الجديدة، تم ربط القرى والجبال بالمدن وبضرورات الحياة. منجزات بالعشرات صرفت عليها مليارات الدراهم، غيرت وجه المغرب، وساهمت في إشعاعه عبر العالم، وأكسبته ثقة شركاء ومستثمري الخارج. بقعة المغرب كانت مظلمة في عدد كبير من أرجائها، فأصبحت في ظرف وجيز منارة مضيئة تفوقت على كل بلدان الجوار، وتجاوزتها بسنوات من العمل والإنتاج. لم يكن أصحاب الرأي والمواقف، المستقلون طبعا، يحلمون بمغرب أكثر حرية، يقولون اليوم وينتقدون بدون أن تلفق لهم التهم السياسية ويزج بهم في السجون. انتهى زمن الرصاص والدم، نهاية لا يمكن لأحد أن ينكرها. بل قطع المغرب معها بسنوات ضوئية، وإلا كان منتقدو الملكية، اليوم، في تزمامارت عصرية تليق بهم. استثمارات كبرى حلت بالمغرب شغلت الآلاف، أنتجت ثروة مضاعفة، وعززت قوة المغرب على الخريطة الإقليمية والدولية. كلها مشاريع أعطى انطلاقتها، وأشرف عليها ذلك الملك الذي تولى الأمور. لذلك من المجحف أن نقول إن تحركات الملك كانت معيقة للتنمية، بل كانت هي قاطرتها ومحركها الرئيسي والأول. ماذا عسى الملك أن يفعل أمام فاعلين غير مبدعين لأفكار جديدة، لا يتقنون سوى فن النقد، منشغلين بحسابات ضيقة تافهة أمام حجم وجسامة مهمة بناء وعاء وطني تعيش فيه مختلف الأجيال والثقافات، فاعلين يثيرون الشفقة وغير قادرين على بناء تصورات تنموية حقيقية؟ ماذا عساه أن يفعل سوى أن يحل محلهم، وأن يصبح رئيس ورش كبير. الملك ذلك الإنسان الودود أحيانا كثيرة، والعصبي أيضا أحيانا أخرى كباقي البشر، يجتهد ويصيب، وقد يخطئ ويعيد تصحيح الوضع. يغضب الملك عندما يرى أنه قام بمجهودات كبيرة جدا للبناء يقاومها البعض. عندما يغضب الملك فذلك أن الشعب يعرف حقيقة المسؤولين فيحتج، ليخبره بها بطريقته، في الوقت الذي كان الملك ينتظر رؤية الشعب سعيدا مبتهجا بمنجزاته. تلكم صدمة، وأي صدمة، أمام أفعال هواة فشلين حازوا الثقة وائتمنوا على مصير الناس. للملك أيضا جيوب مقاومة ظاهرة وباطنة تدافع عن مصالح قد تمسها قراراته في جنب ما. الملك ليس مطلوبا منه أن يعطي تعليمات يومية وفي كل القضايا. الملك لا يوجه القياد والمعلمين والقضاة ورجال الأمن في كل ربوع المملكة وفي كل جزئيات عملهم، بل هم يتصرفون من تلقاء أنفسهم وبناء على قناعاتهم الشخصية. عندما يتسببون في خسائر وأضرار للمواطنين فليس من المعقول أن يقال إن هذا حدث بأمر منه، وإنما من أنفسهم، بناء على ثقافاتهم وقناعاتهم، فأحدثوا الأذى للناس، وسببوا أيضا ضررا لصورة الدولة ككل. الإشكال الحقيقي هو في العقليات والذهنيات المغربية، في ثقافة التدبير العمومي، التي ينبغي أن تفكك لتسهل عمليات مرور قطار التنمية الذي يقوده الملك. فعلا، ما زالت الانتظارات كبيرة وقوية، لكن لا يمكن للملك لوحده أن يصنعها، بل هي أيضا مسؤولية باقي الفاعلين، عليهم أن يتحملوها بهاجس وطني مواطن. كم سيعيش هذا الملك؟ وكم سيعيش كل واحد منا؟ وما نسبة ذلك مقارنة بعمر الدولة وحياة الأمة؟ وما هو نصيب كل واحد منا في بناء هذا الصرح الكبير الذي هو الدولة المغربية؟ كل واحد منا مطالب فقط بتحقيق ما ينبغي تجاه الجماعة، في إطار عمره وحياته. ذلك أن بناء الأمم مسلسل ومسار لا ينتهي عند جيل واحد. أجيال قد تمر لن تنعم بالحرية، تكون مساهماتها محصورة في بناء المرافق وتشييد الطرقات وغيرها من الأمور المادية. أجيال أخرى ستعكف على بناء الثقافة والفنون والآداب. أجيال أخرى ستبني الديمقراطية والحريات. على كل جيل أن يعرف قدره ومكانته وحجمه والانتظارات الكبيرة، وأن يشرع في الأولويات، وألا يكون مستبدا ظالما لنفسه يحاول أن يستأثر بعمل الأجيال اللاحقة لقرون في المستقبل، وصانعا أوهاما لا تمت إلى العيش بصلة. الديمقراطية أو الحداثة ليست فوضى. ينبغي دائما استحضار التاريخ بحكمة وعقلانية في التعاطي مع المؤسسات التي بناها التاريخ عبر مسارات شاقة ومريرة. الحرية أيضا في النقد أو السلوك العام لا تمارس بطريقة فوضوية أو بناء على تقليد خارجي، أو انصياع لقواعد أجنبية وضعت لأهداف معينة، بحجة الحداثة والتقدم. فقد صيرنا "الفيسبوك" مستبدين صغارا، ننتقد ونرفض الاعتذار، ونخون من نشاء، ونرفض التفاعل الإيجابي المثمر. وأحيانا كثيرة تحس "بالحكرة" والغبن، جراء انتقادات عدمية لكل شيء، ولكل حركة وسلوك، صادرة عن أشخاص متخفين وراء حواسيبهم، ليست لهم الجرأة للكشف عن هوياتهم، ولم تكن لغيرهم القدرة على النقد العلني في العهد القديم. أيضا الحداثة السياسية ليست نموذجا واحدا حصريا وكونيا، بل لها وجوه متعددة ومتنوعة. الحداثة السياسية ليست مرتبطة بمحاربة التقليدانية أو القيم الدينية بشكل كلي وجذري، وإنما هي امتداد للحياة داخل نمط إنتاجي تفاعلي مع السياقات الجديدة. نمط يلبي ضرورات الحاضر من دون هدم البناء كله. بل على العكس من ذلك، نمط ينبغي فيه صيانة كل ما من شأنه أن يقوي الارتباط داخل حدود الدولة العصرية، بناء على هوية وطنية جامعة وصارمة، مع احترام تام للهويات الفرعية: القبلية، الثقافية أو الجهوية المتجذرة، والتخلي عن أي عنصر بإمكانه تفكيك هذا الارتباط. فحداثة اليابان المحافظة على القيم الإمبراطورية والتقليدية، بما فيها الارتباط الأسري والديني، ليست هي حداثة أمريكا المغامرة والمتحررة من كل شيء سوى مصلحة الأسواق، وحداثة ألمانيا المبنية على قيم العمل التضامني والتآزر الجماعي والعرقي ليست هي حداثة الهند الشعبية البسيطة، وهكذا تتنوع الأمثلة والوجوه. حتما لن يقف المغرب عند نقطة تطوره الحالية في هذا الظرف الزماني المحدد. حتما ستتواصل عملية البناء المستمرة بحكم الفطرة وقانون الطبيعة البشرية. حتما سيأتي جيل جديد يبني من جديد ويشيد. حتما لن نرهن حياتنا ومستقبلنا، ونضيع زمننا من أجل نقاش حول شكل النظام، ونتخلى عن التفكير في طرق الحصول على وسائل الحياة والعيش الكريم. حتما أعطى هذا الملك الكثير للبلاد في عهده، وهذا جهده، لينتصب أمامنا سؤال جوهري ينبغي على كل واحد منا طرحه على نفسه: ماذا أعطيت أنا، في أي موقع كنت، كمواطن عادي، كمسؤول، كموظف عمومي، كمستخدم شركة أو تاجر، كسياسي، كرجل اقتصاد وأعمال، كناشط اجتماعي، كمثقف، كأستاذ، كإعلامي؟ ماذا أعطى كل واحد منا لهذا البلد وللجماعة المغربية؟ ماذا قدمت أنت وأنا من أجل تطور المغرب؟ هل علينا أن نطور النظام السياسي قبل الشروع في العمل، أم علينا العمل وتغيير ثقافتنا وسلوكنا ليتطور النظام ويتأقلم؟ الجواب ينبغي أن يكون مسؤولا ووجوديا، لتكون النتيجة نقطة تحول فاصلة في السلوك نحو مستقبل آخر.