يعتبر الاجهاض من أكثر الظواهر الاجتماعية السائدة في المجتمعات الراهنة، سواءً تعلق الأمر بالمجتمعات الإسلامية، أو غيرها من مجتمعات العالم. بيد أن هذه الظاهرة عرفت انتشاراً سريعاً في العصر الحديث، وازداد تفشيها بحكم تساهل الطب المعاصر وتفننه في إنزال الجنين من بطن أمه بشتى الطرق. ويكاد يذهل المرء ويتعجب من احتلال المغرب المرتبة الأولى عربياً في ممارسة عمليات الإجهاض حَسب تقرير"المنظمة العالمية للصحة"، والأغرب منه أن أغلب حالات الاجهاض فيه تتم بشكل سري وعشوائي، إما عن طريق أطباء متخصصين، أو عن طريق تناول بعض الأدوية، أو غيرها من الطرق الغير المشروعة، في ظل غياب قانون خاص لتقنينه، مما يشكل لا محالة خطورة بالغة، ليس فحسب على صحة النساء بشكل خاص، ولكن على اضطراب النمو الديمغرافي للمجتمع بشكل أعم. وهذا ما جعلني أفرد الحديث عن الاجهاض بالمغرب في هذه المقالة، مجيباً على جملة من الأسئلة من قبيل: ما مفهوم الاجهاض وأنواعه وأسباب تفشيه ؟ ولماذا ارتفعت إحصائيات الإجهاض بالمغرب دون غيره ؟ وكيف يمكن حصر مخاطره، وتحديد أضراره ؟ وإلى أي حد يمكن تقنينه والحد من مفاسده ؟ وهل هناك قصور تشريعي في عدم قانونية الاجهاض بالمغرب ؟ أم أن القانون خشي أن يتصادم أثناء التقنين بالشرع الإسلامي ؟ ترى هل هناك اختلاف بين المذاهب الإسلامية حوله ؟ أم أن موقفها بشأنه متحد ومتوافق ؟ مفهوم الاجهاض: يُعرّف الإجهاض بانتهاء الحمل بإخراج أو نزع الجنين من الرحم قبل أن يصبح قادراً على الحياة، وإن شئت قلتَ بعبارة أخرى: هو إلقاء المرأة جنينها قبل أن يستكمل مدة الحمل، سواء كان هذا الجنين ميتاً أو حياً، وقد عرّفه أيضاً مفتي الأزهر، بأنه: "إنزال الجنين قبل تمام نموه الطبيعي في بطن أمه". موازنة رقمية للإجهاض بين المغرب ودول العالم. إذا كان المغرب احتل المرتبة الأولى عربياً على مستوى عمليات الاجهاض، حسب ما صرّحت به "منظمة الصحة العالمية"، فإنه من جهة أخرى احتل المرتبة الثامنة عالمياً. ووفقاً لمنظمة "الجمعية المغربية لمكافحة الإجهاض السري" المعروفة اختصاراً بالشرايبي، فإن كل يوم يجرى في المغرب ما بين 600 إلى 800 عملية إجهاض، ومن ثَم فإن عدد عمليات الاجهاض التي تجرى سنويا في المغرب تبلغ حوالي 300.000، وأن 220.000 منها غير قانونية، وهذه النسب تبدو بالطبع مرتفعة جداً، مقارنة مع حالات الاجهاض في الدول الأخرى. وحسب تقرير "منظمة الصحة العالمية" لسنة 2015، فقد سجلت حوالي 56 مليون حالة إجهاض سنوياً حول العالم، 22 مليون منها غير آمنة، ويظهر من خلال تصفح أسماء الدول أن معظمها وقع في البلدان النامية. ويقدر الأطباء المتخصصون مضاعفة علاجها بما يزيد عن 680 مليون دولار سنوياً، مما يدل على مدى استفحال هذه الظاهرة، أضف إلى ذلك ارتفاع عدد وفيات النساء والذي قدرته تقارير دولية بحوالَيْ 68.000 حالة وفاة سنوياً. وهذه النسبة تشكل حوالَي 13% من وفيات النساء في العالم. أنواع الإجهاض: يستحسن أن نعرف القارئ الكريم بأن أنواع الاجهاض ثلاتة، الإجهاض التلقائي، الإجهاض المستحث، ويسمى كذلك بالمعتمد، والإجهاض الغير الآمن. غير أن لكل نوع من هذه الأنواع مزاياه الخاصة. فالإجهاض التلقائي: هو خروج الجنين من الرحم بسبب الصدمات العرضية أو الأسباب الطبيعية ويحدث عادة قبل الأسبوع الثاني والعشرين من الحمل. لكن من الأسباب والدوافع الأكثر شيوعاً الذي يدفع النساء في الوقوع في هذا النوع هو شدود كروموسومات الجنين، والتي تمثل حوالي 50% من خسائر الحمل المبكر، وتشمل أيضاً أسباب أخرى كأمراض الأوعية الدموية، ومرض السكري، وغيرها من مختلف المشكلات الهرمونية. أما الإجهاض المستحث: يكون فقط للحفاظ على الحالة الصحية للمرأة الحاملة، ويعرف أيضاً بالإجهاض العلاجي. غير أن الأطباء يلجئون إليه عندما يشكل خطرا على صحة الأم، وذلك من أجل إنقاذ حياة المرأة الحاملة، أو للحفاظ على صحتها البدنية والعقلية، أو للخفض من عدد الأجنة في حالة وجود أكثر من جنين في بطن المرأة، وذلك للتقليل من حدة المخاطر الصحية المرتبطة بتعدد الحمل. وأما الإجهاض الغير الآمن: فتلجأ إليه المرأة التي ترغب في إنهاء حملها، وخاصة عندما يكون اللجوء إلى الإجهاض القانوني ممنوع، غير أن الإجهاض الغير الآمن له عيوب، فمن عيوبه أنه يتم بأساليب غير آمنة، وفي غياب القانون، علاوة على ذلك أنه يقوم به أشخاص غير مختصين في ذلك المجال، أو قل بمعنى آخر يقوم به أشخاص مفتقرون إلى المهارات اللازمة لفعله أو في بيئة لا تتفق مع الحد الأدنى من المعايير الطبية أو كليهما. وتبعا لذلك فهذا النوع من الإجهاض له آثار سلبية ووخيمة على النساء من جهة، وعلى المجتمع من جهة أخرى. أسباب الإجهاض: إنّ الإجهاض في وقتنا الحاضر أصبح مشكلة منتشرة بشكل رهيب في جل بقع العالم، حيث أنه أصبح غير ظاهر في الأغلب، إذ أن كثيرا من حالات الإجهاض التي يقوم بها النساء تتم بشكل سري في أماكن مظلمة وفي غياب القانون، لكن الأسباب والدوافع التي تؤدي بالنساء إلى الوقوع في هذه الظاهرة، كثيرة أهمها: 1. سلامة الأم، وذلك عندما يشكل بقاء الجنين في بطن المرأة خطرا على صحتها. 2. التخلص من الحمل، وذلك رغم كونه لا يشكل أي خطر على صحتها. وهذا السبب يخص فقط النساء أو الفتيات الفاسدات أو قل التي يمارسن علاقات جنسية خارج نطاق الزواج برضاهن، أو (الاغتصاب) مع أن هؤلاء النساء والفتيات يفاجئون في غالب الأحيان بظهور أعراض الحمل، مما يلجئون إلى التخلص منه، فوراً مخافة وصول الأخبار إلى أولياء أمورهم أو شيء من هذا القبيل. 3. وجود بعض التشوهات خلقية في الجنين، يستحيل علاجها في مستقبل حياته. مخاطر الإجهاض الغير الآمن على المرأة. لا شك أن للإجهاض مخاطر عديدة، وخصوصا الإجهاض الغير الآمن، نظرا لكونه يعتبر من أسهل الوسائل التي تلجأ إليه المرأة، مع أنه تصاحبه مخاطر شديدة، ويؤدي في غالب الحالات إلى الوفاة، لأن الأشخاص الذين يقومون بهذه العمليات لا علاقة لهم باختصاص طب النساء والتوليد، ولا يتمتعون بسمعة جيدة في هذا المجال، وإنّما هدفهم فقط هو ربح المال. وفي السياق تقول "ابتسام بلشكر": الاجهاض أصبح صنعة في المغرب، وبعض الأطباء يستغلون تفشيه في الواقع ويطالبون بمبالغ خيالية تصل أحيانا إلى 30.000 درهم مغربي، والنساء لا يستطعن الذهاب إلى مكان آخر". كما تقول إحصائيات مماثلة أنه كل يوم يلقى ب: 27 طفل حديث ولادة إلى الشارع، وهذا الرقم مخيف جدا، يستوجب لا محالة التعجيل بتقنين الاجهاض سيما أمام تزايد الأمهات العازبات ومآسي قتل المواليد غير الشرعيين. تطور الاجهاض عبر التاريخ. يرجع الاجهاض إلى العصور القديمة لدى اليونانيين (الإغريق)، حيث يتم إنهاء الحمل عن طريق أساليب عديدة، كاستخدام الأعشاب المجهّضة، والأدوات الحادة، والصدمات الجسدية، والضغط على البطن، وغيرها من مختلف الأساليب التقليدية. حيث اقترح أيضا الطبيب اليوناني "سورانوس" المختص في أمراض النساء في القرن الثاني ميلادي، أن المرأة التي ترغب في إجهاض الحمل ينبغي أن تقوم بتمارين عديدة، كالقفز، وحمل الأشياء الثقيلة، وغيرها، كما وصف أيضاً عدد من الوصفات العشبية التي تساعد على ذلك، ودعى إلى عدم استخدام الأدوات الحادة للحث على الاجهاض نظرا للمخاطر الشديدة الناجمة عنها. وهكذا استمرت هذه الأساليب التقليدية التي ابتكرها اليونانيون إلى العصور الوسطى، وفي هذا العصر ترك الناس تلك الأساليب التقليدية وبدأت طرق الاجهاض تتطور شيئا فشيئا مع أطباء الإسلام، حيث وثّقوا قوائم مفصّلة ومكثفة عن ممارسات تحديد النسل، بما في ذلك استخدام المجهّضات موضحين كلا من فعاليتها وانتشارها، وذكر هؤلاء الأطباء بدائل كثيرة ومتعددة لتحديد النسل في موسوعاتهم الطبية، على سبيل المثال:20 إدراج لابن سينا في شريعة الطب 1025م. وظلّ هذا الدواء دون مثيل له في أوروبا حتى القرن 19م، وعند حلول القرن 20 م ظهر ما يسمى الآن بالطب المعاصر الذي يعتمد على العمليات الجراحية والأدوية الكيميائية للحث على الإجهاض. مدى قانونية الاجهاض بالمغرب: الاجهاض على ضوء القانون المغربي ممنوع إلا إذا تعرضت حياة الأم للخطر، أو في حالة وجود تشوهات في الجنين يستحيل علاجها في مستقبل حياته، وذلك وفقا للمادة 453 من قانون العقوبات، كما يعاقب أيضاً على الاجهاض بالسجن من سنة إلى خمس سنوات. وهذا القانون أصدره جلالة الملك محمد السادس في السنوات الماضية وهو في حلّته الجديدة، وذلك بعد أن شكّل موضوع الاجهاض بالمغرب جدلاً ونقاشاً واسعاً بين جلالة الملك وعلماء الدين الإسلامي، ومنظمات حقوق الإنسان. وذلك بعد أن ظلّ هذا الموضوع ولسنوات طوال من المسكوت عنه بالرغم من تأثيراته السلبية على حياة ومستقبل النساء المغربيات، وذلك من جرّاء ارتفاع أصوات المواطنين تطالب بتقنين الإجهاض والسماح به عند الضرورة. حكم الإجهاض في الشرع الإسلامي: الأصل في حكم الإجهاض في الشرع هو المنع والحظر، ولا يجوز إلا عند الضرورة، لأن الإسلام اعتبر النفس البشرية معصومة، وحافظ عليها بشتى الطرق، باعتبارها من الضروريات الخمس، واعتبر كذلك الإجهاض نوع من أنواع القتل، مصداقا لقول الله تعالى: (ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلاّ بالحق) [سورة الأنعام:151]، والجنين داخل في ذلك. آراء المذاهب الفقهية حول الاجهاض: هناك عدة آراء كثيرة ومختلفة للمذاهب الإسلامية حول حكم الإجهاض، لذلك لا تعدو أن نقسّمها ونختصرها كما يلي: المذهب المالكي: يحرم إسقاط الحمل، ولو كان عمر الجنين المتكون داخل الرحم أقل من أربعين يوما. أما المذهب الحنفي: فله حكمان، الأول: إباحة إسقاط الحمل، إذا لم يتخلّق منه شيئا، والمرد بالتخلق هنا هو نفخ الروح. أمّا الحكم الثاني: إباحة الإجهاض للعذر فقط، أي عند الضرورة. وللمذهب الشافعي أيضا حكمان، الأول: تحريم إسقاط الحمل الذي لم ينفخ فيه الروح، أي: ما كان عمره مائة وعشرين يوماً. أمّا الثاني: إباحة إسقاط الحمل الذي يقل عمره عن أربعين يوما، أما المذهب الحنبلي: فله حكمان، الأول: إباحة إسقاط الحمل قبل أربعين يوما. والثاني: تحريم إسقاط الحمل الذي لم ينفخ فيه الروح. خلافاً للمذهب الظاهري الذي يرى عدم إسقاط الحمل مطلقاً وبدون استثناء، حتى إن كان هناك عذر، فمن قامت بذلك فعليها الغرة، لأنهم يعتبرون إسقاط الحمل إثم. وخفف المذهب الزيدي قليلاً: لأنه يرى أن لا شيء في إسقاط الحمل الذي لم يستبن فيه التخلّق، كالمضغة والدم، وذلك لعدم وجود الإثم في إسقاطه. مسك الختام: لقد اتّضح جلياً أن الاجهاض بالمغرب في تزايد صاروخي، فيجب أن نجفف المنابع التي تؤدي إليه ككثرة العلاقات الجنسية، وأن نسيجها بضوابط متينة، حتى لا تكون مطية للمفسدين في الأرض، وبانتشار الاجهاض واحتلال بلدنا المرتبة الأولى عربياً يعطي ذلك لا محالة صورة سلبية عنه، لاسيما احتلاله المراتب العشر الأولى عالميا من جهة أخرى. لذا وجب على الدولة أن تتدخل للحد من ظاهرة الإجهاض السري الغير الآمن، لكونه لا يخلو من مخاطر وأضرار على حياة النساء من جهة، وعلى المجتمع من جهة أخرى.