بين دعاة التقنين والمطالبين باستمرار المنع، كشف اللقاء الوطني حول "الإجهاض: التأطير القانوني ومتطلبات السلامة الصحية"، الذي نظمته وزارة الصحة، أول أمس الأربعاء، في الرباط، عن مواقف متباينة من هذه القضية، بل إن محمد الصبار، الأمين العام للمجلس الوطني لحقوق الإنسان، اعتبر أن الموضوع يشكل بؤرة من بؤر التوتر الفكري، التي تذكر بمسيرتي البيضاءوالرباط حول خطة إدماج المرأة في التنمية، وعدد من القضايا الخلافية كحرية العقيدة والحريات الفردية وغيرها. في أول مكاشفة من نوعها حول قضية الإجهاض، فجرت مواقف المؤيدين والمناهضين لإعادة النظر في فصول القانون الجنائي حقيقة التوتر القائم حول هذا الموضوع الخلافي، رغم توجه وزير الصحة، حسين الوردي، نحو مقاربة وسطية. مصطفى بنحمزة، رئيس المجلس العلمي المحلي لمدينة وجدة، الذي حضر اللقاء بصفته «الشخصية»، عبر عن موقفه الرافض للإجهاض، مقابل دفاع عدد من الحاضرين إلى جانب الوزير حسين الوردي ومحمد الصبار، الأمين العام للمجلس الوطني لحقوق الإنسان، عن تقنين الإجهاض، خاصة في حالات الاغتصاب وزنا المحارم والتشوه الخلقي. الهدوء الحذر الذي اتسمت به مجريات هذا اللقاء الوطني، سرعان ما فجر مواجهة ساخنة بين مصطفى بنحمزة وعالم الاجتماع عبد الصمد ديالمي. رئيس المجلس العلمي لمدينة وجدة استهجن طريقة حديث ديالمي عن العلماء، ووصفه بالشخص الذي لا يعرف في المذاهب الإسلامية شيئا. الوردي اضطر إلى التدخل لنزع فتيل التوتر بين الرجلين. تقنين بشروط بدا الوزير حسين الوردي حريصا في مختلف أطوار هذا اللقاء على شد العصا من الوسط، رغم اتهامه من طرف عالم الاجتماع عبد الصمد ديالمي بمغازلة «تيار إسلامي» بعدما منح الكلمة للشيخ السلفي محمد الفيزازي. الوردي أكد في افتتاح أشغال اللقاء، أن رفع الحواجز على الإجهاض للحفاظ على الصحة البدنية والنفسية للأم وفي حالات الاغتصاب وزنا المحارم والتشوهات الخلقية للجنين، ستكون له آثار إيجابية على البلاد. هذه الآثار الإيجابية تتمثل في خفض نسبة مرض ووفيات الأمهات الناجمة عن الإجهاض السري غير الآمن، وتمكين الأطباء من العمل في إطار قانوني وفي ظروف تحترم السلامة الصحية، إلى جانب العمل في شفافية، مما سيعطي المغرب مصداقية أكثر أمام دول العالم فيما يخص الحقوق والصحة الإنجابية، وخفض الكلفة المادية، سواء بالنسبة للنساء باعتبار العملية سرية، أو بالنسبة للدولة فيما يخص تكلفة التكفل بالمضاعفات الناتجة عن الإجهاض السري. وتطرق الوردي إلى حالات مجموعة من الدول الإسلامية التي اشتغلت على مسألة الإجهاض ورفعت الحواجز بالنسبة لبعض الحالات الخاصة مثل إيران في حالة الاغتصاب أو زنا المحارم أو التشوهات الخلقية للجنين. وأشار في المقابل إلى أنه في الوضعية الراهنة، وحدها بعض دول أمريكا اللاتينية والدول الإفريقية، باستثناء جنوب إفريقيا، لديهما تشريعات جد مقيدة لعملية الإجهاض، وهي الدول التي تعاني اليوم أكثر من ارتفاع نسبة وفيات الأمهات. وأوضح الوزير أن حوالي 65 في المائة من الدول المتقدمة، رفعت جميع الحواجز على الإجهاض، والاختلاف الوحيد بينها اليوم يكمن في مرحلة الحمل التي يمكن الإجهاض فيها، و كذلك هو الشأن بالنسبة لبعض الدول الإسلامية كتونس وتركيا وكازاخيستان وأذربيدجان. الصبار وحرية النساء موقف وزير الصحة الداعم لتقنين الإجهاض في بعض الحالات لم يكن استثناء، فقد بدا من مختلف المداخلات أن أغلبها يسير في هذا الاتجاه. محمد الصبار، الأمين العام للمجلس الوطني لحقوق الإنسان، اعتبر أن الحد من الحق في الإجهاض هو مس بحرية النساء، داعيا في سياق آخر إلى تطويع الرأي الفقهي للرأي الطبي والعلمي وليس العكس. وسجل الصبار أن «المشرع لا يمكنه الحلول محل النساء واتخاذ القرار بدلا عنهن. وباعتبار النساء المعنيات الأوليات ويتحملن العواقب الجسدية والاجتماعية والاقتصادية لعمليات الإجهاض غير المؤمنة وللحمل غير المرغوب فيه، فإن لهن الحق في اتخاذ اختيارات مسؤولة تخصهن، خاصة الشابات المنحدرات من المناطق المهمشة اللائي لديهن الحق في فرصة ثانية وفي المستقبل». وتطرق الأمين العام للمجلس الوطني لحقوق الإنسان إلى الإشكالات التي يطرحها تجريم الإجهاض على مستوى القانون الجنائي. هذا التجريم، يوضح الصبار، «لا يلغي واقعيا ممارسة الإجهاض، بل يساهم، عكس ذلك، في مضاعفة ممارسته في ظروف مضرة بصحة المرأة التي تلجأ إليه». وعرج في هذا السياق على المعطيات التي قدمتها الجمعية المغربية لتنظيم الأسرة، والتي كشفت أن عدد عمليات الإجهاض يبلغ 600 عملية يوميا، في حين ترى الجمعية المغربية لمحاربة الإجهاض السري أن العدد يتراوح بين 800 و1000 حالة يوميا. واعتبر أن الحد من الحق في الإجهاض يضع النساء في وضعية لا مساواة اجتماعية، حيث إن الفتيات الشابات المنحدرات من الطبقات الوسطى والمحظوظة يمكنهن إجراء عمليات الإجهاض في ظروف جيدة (…)، في حين أن الفتيات المعوزات يلجأن إلى وسائل تشكل خطرا حقيقيا على صحتهن. «جريمة» بشعة ! في خضم هذه المواقف التي تدعم تقنين بعض حالات الإجهاض، تدخلت حنان الإدريسي، عن تنسيقية حق الجنين في الحياة، حيث لم تتردد في وصف الإجهاض ب»الجريمة البشعة» في حق الجنين. وزير الصحة اضطر إلى التدخل بعدما أثار موقف الإدريسي حفيظة بعض الحاضرين، الذين طالبهم الوردي باحترام وجهة نظرها. الإدريسي اعتبرت أن إشكالية زنا المحارم والحمل غير المرغوب «تستوجب البحث في عمق القيم التي وقع فيها تحول، ومعالجة الأشياء في العمق وليس تغطية الشمس بالغربال لأننا سنصبح مجرمين»، وفق تعبيرها. الموقف الرافض لتقنين الإجهاض، اتضح أيضا في مداخلة مصطفى بنحمزة، رئيس المجلس العلمي الأعلى، الذي وصف حضوره لأشغال اللقاء ب»الشخصي»، على اعتبار أن المجلس العلمي لديه هيئة إفتاء. وقال بنحمزة تعليقا على تنظيم هذا اللقاء: «نريد للمغرب أن يطمئن ونبتعد عن الشذوذ والغلو كيفما كان، سواء كان شذوذا دينيا أو غيره». بنحمزة سجل أن «نفخ الروح لا يعنينا في شيء من حيث الأحكام الشرعية، لأن الروح من أمر الله ولا يمكن القول إن الإنسان لا تنفخ فيه الروح ولا يكون حيا إلا في الشهر الرابع». وهنا طرح بنحمزة سؤالا أثار نقاشا داخل القاعة: «هل تعتبرون البويضة ميتة أم حية؟»، ثم علق قائلا بأن الإسلام يتحدث عن الحياة وليس عن الروح، لأنه قد يكون الطبيب غير مسلم ولا يسأل عن الروح. وأضاف أن موضوع الإجهاض يتعلق بمسألة جسدية، «وبالتالي إذا قال لي أحد إن هذه الخلية ليست حية فكل ما يقوله صحيح، لكن إذا كانت حية فهو ملزم بموجب حقوق الإنسان أن يحترم الحياة، وهذا هو موقف الإسلام». وأكد بنحمزة، في سياق حديثه عن التشوه الخلقي، أنه يتلقى يوميا اتصالات من نساء ينتمين للجالية المغربية المقيمة في إسبانيا بشأن ما يصرح لهن الأطباء حول تشوه أجنتهن، قبل أن يكتشفن بعد الوضع أن المواليد في حالة طبيعية. وبالتالي، يوضح المتحدث ذاته، «لا يمكن القيام بالإجهاض انطلاقا من الظن». أما بخصوص القضية المرتبطة بزنا المحارم، فأشار بنحمزة إلى أن مختلف الدول لديها إحصاءات حول الوضعية قبل وبعد تقنين الإجهاض، وهناك استنتاج مفاده أن الإشكال أصبح أكثر حدة في بعض الدول بعد إباحة الإجهاض. وزاد رئيس المجلس العلمي قائلا: «الجنين ماذا فعل حتى يعدم؟ إذا اعتدى الأب على بنته مثلا فيجب محاسبته وليس أن يفلت من العقاب وإجهاض الجنين». مقترح العثماني تباين المواقف من قضية الإجهاض داخل المجتمع المغربي، يثير أيضا انقساما داخل حزب العدالة والتنمية، وهو ما بدا واضحا من خلال الموقف الذي عبر عنه سعد الدين العثماني بشأن إمكانية إباحته في بعض الحالات، فيما ذهب مصطفى الإبراهيمي، طبيب وعضو بالفريق الإسلامي بمجلس النواب، إلى أن مقترح القانون الذي سبق أن تقدم به العثماني لم يكن عليه إجماع. مقترح العثماني، الذي قدمه أمام الحاضرين لأشغال اللقاء، ينص على أنه لا عقاب على الإجهاض متى قام به علانية طبيب أو جراح خلال الأسابيع الستة من الحمل ، إذا ترتب الحمل عن اغتصاب أو زنا المحارم. وأشار المتحدث ذاته إلى بعض الحالات التي يمكن التنصيص عليها كالأمراض العقلية للمرأة. أما فيما يخص التشوهات الخلقية والأمراض الجينية، فاقترح العثماني إمكانية الإجهاض خلال ال120 يوما الأولى للحمل، إذا ثبت بواسطة الفحوص الطبية أن الجنين مصاب بأمراض جينية غير قابلة للعلاج أو تشوهات خطيرة غير قابلة للعلاج، وأن حالته ستكون سيئة، حيث يمكن تحديد هذه الأمراض بشكل دوري بنص تنظيمي. العثماني نفى وجود توتر مجتمعي حول قضية الإجهاض، وسجل أن هذا «النقاش الحيوي يسعى إلى الوصول إلى حل وسط يجتمع عليه المغاربة، بغية التقدم على المستوى القانوني والصحي والاجتماعي، باعتبار أن القضية فيها تعقيدات». ونبه في هذا السياق إلى الكلفة الاجتماعية للوضعية الحالية التي وصفها بالغالية جدا، على اعتبار أن «الجزء الكبير من الإجهاض السري خطير جدا ويكلف المنظومة الصحية والمجتمع». وأوضح أن الإجهاض ينقسم إلى نوعين: الأول يهم العمليات التي يقوم به أطباء في عيادات بطرق سرية، والتي تتم في بيئة غير معقمة، والأخطر من ذلك أنه يجري بعيدا عن قاعة العمليات الجراحية رغم أنه يمكن أن تقع مضاعفات غير متوقعة تستوجب التدخل المستعجل. لكن النوع الأخطر، حسب العثماني، هو الإجهاض السري التقليدي الذي يتم في إطار غير طبي، من طرف القابلات أو العشابة والمشعوذين، أو حتى من طرف النساء أنفسهم في البيوت، وهو الإجهاض الذي يجري في ظروف مزرية وتكون له مضاعفات خطيرة من نزيف وتعفنات وتسممات وتمزق الرحم، وحتى الوفاة، حيث إن بعض الحالات تصل في النهاية إلى المستشفيات. وسجل أن 13 في المائة من وفيات الأمهات في المغرب تأتي نتيجة الإجهاض غير الآمن، فمن أصل 700 حالة وفاة في صفوف الأمهات، تفقد 91 حالة على الأقل حياتها بسبب الإجهاض سنويا. سرية الإجهاض تدفع الأطباء إلى رفع الأسعار كشفت عدد من المداخلات عن حقيقة الفوضى التي تعرفها عيادات بعض الأطباء الذين يجرون عمليات الإجهاض بطرق سرية، سواء على مستوى الظروف الطبية التي تخضع فيها المرأة للإجهاض أو الأسعار التي تعرف ارتفاعا مستمرا. شفيق الشرايبي، رئيس الجمعية المغربية لمكافحة الإجهاض السري، أوضح في مداخلة ضمن أشغال هذا اللقاء، أن هذه العمليات تكلف النساء الراغبات في إجرائها مبالغ مهمة تتراوح بين 1500 و10 آلاف درهم. وإذا كانت بعض النساء المنتميات إلى الطبقات الميسورة تلجأ إلى خارج المغرب لإجراء عمليات الإجهاض بعيدا عن أي مخاوف قانونية وفي ظروف طبية ملائمة، فإن البقية يضطررن إلى طرق أبوب عيادات بعض الأطباء «المشاهير» الذين يجرون عمليات الإجهاض بطرق سرية، وهو ما يجعل الأسعار تخضع لتحكم الطبيب. ويؤكد الشرايبي أن النساء اللواتي ليس بمقدورهن توفير كلفة إجراء الإجهاض الطبي، يلجأن إلى وسائل تقليدية من قبيل استعمال الأعشاب التي تحمل مخاطر كبيرة على صحتهن، وهو الأمر الذي ينتهي في بعض الأحيان داخل المستشفى. ويشير التقرير الثاني للجنة الخبراء الوطنية، الخاص بالتدقيق السري لوفيات الأمهات لسنة 2010، إلى أن مضاعفات الإجهاض تتسبب في حوالي 4.2 في المائة من مجموع وفيات الأمهات و5.5 في المائة من وفيات الأمهات الناتجة عن التعقيدات المباشرة للولادة. وإلى جانب النقاش المثار حول تقنين الإجهاض، ينتظر أن تطلق وزارة الصحة خطة من ثلاثة محاور. الأول يهم تطوير سبل الوقاية من الحمل غير المرغوب فيه بتطوير برامج للتربية الجنسية والإنجابية، وكذلك تيسير الولوج للمعلومات الصحية الشاملة لفائدة جميع مكونات المجتمع ولخدمات تنظيم الأسرة ذات جودة وتوفير حبوب منع الحمل في الحالات الطارئة بخلايا التكفل بالنساء ضحايا العنف. ويشمل المحور الثاني تيسير ولوج النساء ضحايا الإجهاض السري لخدمات الصحة الإنجابية دون أي خوف من المتابعة، مع تحسين جودة التكفل بالمضاعفات الناتجة عنه، فيما يهم المحور الثالث مناقشة الإطار القانوني والتنظيمي الخاص بالإجهاض الطبي في المغرب في أفق مراجعته للاستجابة للحاجيات والتحديات المطروحة، وهو الملف الذي تشتغل عليه حاليا وزارة العدل والحريات.