مصيبتنا جهلٌ أشدُّ من الجهل.. تكبر وعنصرية في كل مكان! فَزِع السودان والسودانيون من أنَّ حضانة أطفالٍ في لبنان رفضت قبول طفل سوداني بسبب لونه الأسود. ومنذ سنوات طويلة، في باريس، دلفتُ إلى داخل المترو، الذي لم يكن مكتظاً في تلك الساعة. جلستُ إلى جوار شابين عربيين؛ أحدهما بجانبي والآخر جالسٌ قبالتَه. وما هي إلا لحظات حتى تناهى إلى أذني صوتُ جاري وهو يتكلم بلهجة عربية مألوفة جداً: "مِن أين أتيتَ لتجلس جنبي؟". كان يتكلم وهو ينظر إلى صديقه الجالس قبالته وكأنه يحدثه هو، بينما كان الحديث موجهاً إليّ أنا، بالطبع. تبسّم الذي يجلس بجواري، ظاناً هو الآخر، ظناً آثما أيضاً، أن هذا المتطفل على "مترو أجدادهما" لا يفقه في العربية شيئاً. ما هذا الجهل الذي يجعل الشخص يجلس مطمئناً إلى جهله؟ كلا، ما يجعل الشخص يجلس مطمئناً إلى جهله جهلٌ أعظم من الجهل: إنه الكِبْرُ والغرورُ، أسوء ما يمكن أن يصاب به الإنسان! وإلا فكيف يعتقد الواحد أن اللغة التي يتكلمها لا يفهمها إلا هو وصديقه الذي يخاطبه؟ وحين اطمأنا إلى جهلي بالعربية، وبدا لهما أن بإمكانهما أن يسترسلا في استنكافهما من مجرد جلوسي إلى جنبهما، آثرتُ أن أقطع عليهما سباتهما العميق وحلمهما الجميل، ففجرتُ قنبلةً صكّت آذانهما وتركتهما جثتين هامدتين أخلاقياً ودينياً وإنسانياً: "أجلسني بجواركما التاريخُ الطويل، والجغرافيا، والنيل، والصحراء، والدين القيّم، ولغة عنترة وابن الرومي وسيبويه...، ثم الجهلُ المشترك، والتخلف المشترك، والغرور والتكبر المشتركان"... قلتُ: ألم تقرؤوا في القرآن الكريم آية تقول: "يوم تبيضُّ وجوه وتسودّ وجوه"؟ ألم تفهموا من هذه الآية الكريمة أن الله لا يرى لنا سواداً ولا بياضاً إلا يوم القيامة؟ ألم تعلموا أن الوجوه المبيضّة هي الوجوه الناضرة، المتواضعة في الدنيا، والناظرة إلى ربها يوم القيامة، وأن الوجوه المسودّة هي الوجوه التي تكبرت وتغطرست في الدنيا فأصبحت كالحة قاتمة يوم القيامة؟ ألم تعلموا أن الله، في الدنيا، لا ينظر إلى وجوهنا بل ينظر إلى قلوبنا وأعمالنا ومعاملاتنا وأخلاقنا؟ ألم تسمعوا قول الرسول الكريم (ص): "أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم؛ وليس لعربي فضل على أعجمي، ولا لأحمر فضل على أسود إلا بالتقوى، ألا هل بلَّغت؟ اللهم فاشهد"؟ ألم تقرؤوا كتبَ الإسلام، أم أنكم كالحمار يحمل أسفاراً؟ لم أر في حياتي ذهولاً مثل ذهولهما! كنت أرى فأبصر فوق كتفيهما جمجمتين خاويتين عليهما عينان صغرتا حتى بدتا كحبتي سمسم، بل كذرتين! يا إلهي! لقد رأيتُ للتّو رجلين كأمثال الذر! وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: "يُحشر المتكبرون يوم القيامة كأمثال الذر يغشاهم الذل من كل مكان". وبينما دخل الرجلان الشابان في هسيتيريا من الحلف والاعتذار والتوضيح والكذب، كنت أطير بعيداً في فيافي بلاد العروبة والإسلام، فلم أسمع من كلامهما شيئاً. كنت أسرح بعيداً مع العبيد والأسياد، والبيض والسود، والمضطهَدين والمضطهِدين، من المحيط إلى الخليج، فتارةً أجدني مع "الأخدام" و"القبيليين" في اليمن، وتارة مع "الأخوال" و"الآل" في السعودية والخليج، وتارة أخرى مع "الكحاليش" في تونس، أو مع "البوابين" في مصر.. وكنتُ، بين الفينة والأخرى، أعود إلى السودان، البلد الذي ينتمي إليه الطفل المضطهد في لبنان، فأجد الهرج والمرج بين "الغرّابة" و"الجلابة" و"الخاسا" و"النوبة" و"الزرقة" و"الحلب" و"العرب"، وأجد أن البلد قد ازداد فصار بلدين، ولذلك تضاعف الفقر مرتين، والتخلف مرتين، وصارت الحرب حربين؛ وأدركت يقيناً أن ذلك الطفل السوداني المسكين ما رمى به إلى الاضطهاد في لبنان إلا جهلٌ مماثل وعنصرية مماثلة في السودان. رأيتنا، من المحيط إلى الخليج، جميعنا متكبرين وعنصريين كأمثال الذر، يغشانا الذل من كل مكان. يغطي وجوهنا جميعاً سوادُ وقتر يوم القيامة. ففهمتُ سبب ذلنا وهواننا من المحيط إلى الخليج. فهمتُ سبب الشح والبخل الذي يجعل بعضنا في ثراء كافر وبعضنا الآخر في جوع كافر. رأيتنا حميراً تحمل أسفاراً من المحيط إلى الخليج. لم نفقه قرآناً ولم نستوعب هدياً محمدياً. إن الجاهل المدرك لجهله خليق بأن يعلم ويتعلم؛ أما الجاهل المتكبر فيُخشى أن يموت بجهله. عندما قال الرسول (ص) لأبي ذر رضي الله عنه: "أنت امرؤٌ فيك جاهلية"، أدرك سيدنا أبو ذر على الفور أن هذه الجاهلية، المناقضة للإسلام، إنما هي التكبر، وأن الحل هو في الرجوع إلى التواضع، فما كان منه ألا أن وضع خده على الأرض وطلب من سيدنا بلال أن يطأه بقدمه. ومنذ ذلك اليوم، لم يعد أبو ذر يرى أن لون وجه بلال أسود، ولم يعد يأبه أبداً إلى أن لون وجهه هو أبيض: فقد أدرك أن لون جميع الوجوه في الدنيا هو لون التراب. لقد كان الرسول (ص) وصحبه الكرام يعرفون تماماً أن الإسلام هو التواضع، ويعرفون أن معنى "أسلمتُ لله" هو أنني تواضعت وخضعت لله، وأني لا حول لي، ولا قوة لي، ولا فضل لي على أحد. ولكننا الآن، من المحيط إلى الخليج، لم نعد نعلم أن الإسلام، الذي رضيه الله لنا ديناً، هو أن نتواضع حتى تتلاشى وتختفي كل ذرة من ذرات الكبر من قلوبنا؛ وأن الإسلام الذي إنْ ابتغى أحدنا دينا غيره لن يقبله الله منه إنما هو التواضع؛ وأن الإسلام الذي جاء به المرسلون من لدن آدم إلى محمد، عليهم صلوات الله وسلامه جميعاً، إنما هو التواضع: "قولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ". ولهذا نحن “لا نفرق بين أحد من رسله" "ونحن له مسلمون". حين قال الفاروق: "نحن قوم أعزنا الله بالإسلام" كان يقصد "أعزنا الله بالتواضع"، ولذلك دخل مدينة القدس متواضعاً؛ ولكننا الآن نفهم عبارة "أعزنا الله بالإسلام" على أنها تصريح لنا بالتكبر على الآخرين، وعلى بعضنا بعضا، باسم الدين. لقد نسينا، بسبب بلادتنا، من المحيط إلى الخليج، معنى الإسلام ودلالته الضرورية على التواضع، حتى صار الكثيرون يفهمون أن الإسلام يعني العكس تماماً: أن ترى نفسك أفضل من الآخرين: أفضل من غير المسلمين لإسلامك، وأفضل من إخوتك المسلمين بمالك ولونك وقبيلتك...وجهلك.