يسود الاعتقاد عند المثقفين عموما، بل حتى عند بعض الباحثين المتخصصين، بأن الحديث عن المسألة الأمازيغية إبان عهد الحماية إنما يعني أساسا الظهير البربري بتاريخ 16 مايو 1930. وهذا الاعتقاد خاطئ لا محالة؛ لأن ظهير 1930 لم يكن في الواقع إلا تتويجا ونتيجة حتمية لمسلسل بدأت الإيديولوجيا الكولونيالية في رسم حلقاته منذ أمد بعيد، وهو ما يسعى إلى تبيانه الدكتور الطيب بوتبقالت في السلسلة الرمضانية لهذه السنة. 30/28.. الجلسات التحضيرية لظهير 1930 تحت الضغوط المتزايدة للمصالح الكولونيالية، ونظرا لاتساع رقعة المناطق الخاضعة للقانون العرفي عملا بمقتضيات ظهير شتنبر 1914، وحتى لا يتفاقم الوضع الأمني الاستعماري في المناطق التي أصبحت عرضة لنهب وسلب المعمرين تحت ستار عقود شراء تعسفية، كان يتم بموجبها الاستيلاء على الأراضي التابعة للقبيلة، ونظرا لظهور بعض الصعوبات التقنية والتعقيدات المسطرية الناتجة عن تناقضات التشريع الكولونيالي، وتحت تأثير ارتفاع عدد الشكايات من طرف الأهالي المتضررين ومن بعض المحامين الأوربيين الذين لم يستطيعوا تحديد مدى قانونية الأحكام الصادرة عن «الجماعات القضائية البربرية»؛ وبما أن «التهدئة» على وشك تحقيق الاحتلال الشامل للمساحة الجغرافية المخولة لفرنسا في إطار التسويات الاستعمارية، لكل ذلك ها قد حان الوقت لقطع الخطوات الأخيرة الحاسمة في استكمال تنظيم العدلية البربرية وتزويدها بإطارها القانوني الخاص. وهذا بالضبط هو ما جاء من أجله قرار الإقامة العامة بتاريخ 7 دجنبر 1929 الذي أحدث لجنة لدراسة الملف وكلفها بصياغة نص قانوني في الموضوع؛ وعليه فإن هذه اللجنة هي التي كانت وراء التحضير لظهير 1930، وقد اجتمعت لهذا الغرض ثلاث مرات: يوم 26 فبراير، ويوم 6 مارس، ويوم 23 مارس من سنة 1930. وسجلت لاحقا جريدة «الوحدة المغربية»، في وقت كانت حرية التعبير بالنسبة للمغاربة شبه معدومة، سبقا صحافيا بنشرها لمحاضر تلك الجلسات بعد تعريبها من طرف الشيخ المكي الناصري. وكانت اللجنة تتألف من 12 عضوا: الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف، رئيسا للجنة. الوزير المفوض مدير الشؤون الشريفة. المدير العام للشؤون الأهلية والمكتب العسكري. رئيس إدارة المراقبة المدنية. رئيس إدارة الأبحاث التشريعية. رئيس المحافظة العقارية. المراقب المدني رئيس ناحية الرباط. المراقب المدني رئيس مقاطعة زمور. ممثل إدارة الشؤون الأهلية. مندوب المحامين بالرباط الترجمان رونيسيو من مكتب الشؤون الأهلية لناحية مكناس. الترجمان كييو من مكتب الشؤون الأهلية لناحية فاس. ونظرا لأهمية المصالح الاستخباراتية والدور الخطير الذي كان يلعبه ضباط الشؤون الأهلية في تجميع المعطيات والمعلومات حول النفوذ القبلي في مختلف أنحاء المغرب، فقد كانت إدارة الشؤون الأهلية مكلفة بإعداد كل الوثائق، وكذلك بتحديد برنامج عمل هذه اللجنة. وكانت غالبية الأعضاء تنتمي إلى الإدارة الاستخباراتية. ونكتفي هنا باستعراض عينة من تدخلات الجلسة الثانية التي انعقدت يوم 6 مارس 1930، والتي على ضوئها نتعرف على كيفية طبخ هذه القرارات. مقتطفات من وقائع الجلسة الثانية: بينازي: إن الظهير الحالي يبقى هو النظام الراهن الذي لا أساس له سوى التعليمات الإدارية. كورديي: يجب علينا أن نحتفظ بهذا العمل في صيغته المؤقتة، ولكي يصبح نهائيا يجب تنصيب وإقامة القاضي الفرنسي في المحاكم العرفية الابتدائية. بينازي: إن المتنازعين سيرفعون علينا احتجاجات ضد أحكام الجماعات، باعتبارها غير قانونية من أصلها وغير معترف بها؛ فنرجو منكم أيها الأعضاء أن تجعلونا في مأمن من هذه الاحتجاجات. بيكار: لقد نظمتم الجماعات التي لم توجد أبدا؛ ليست لها أي سلطة من الوجهة القانونية. كنطار: أنا متفق مع الأستاذ بيكار، فالجماعة بالمنظور القانوني لم توجد مطلقا. برونو: أنا أؤيد كذلك أن الجماعة لم يكن لها أي حق في إصدار الأحكام. بيكار: من المؤسف تنظيم محاكم بدون قانون قابل للتنفيذ.. وما هو القانون الذي ستعمل الجماعات على تطبيقه؟ أليس من الواجب قبل إحداث محاكم إيجاد قانون لها؟ وأنتم تفرضون على البربر قوادا وتعطونهم رئيسا معينا بدلا من الرئيس المنتخب الذي ينتمي إليهم !. كييو: لا ينبغي نسيان نتائج التجربة الماضية في بلاد «القبائل» الجزائرية، فتنصيب القاضي الفرنسي أحدث ردود فعل رافضة بين الأهالي. أرى أنه عندما يتطور العرف في المغرب سيتم الانتقال إلى القانون الفرنسي بسهولة. بوسيي: لا يوجد مانع في تطبيق هذا الإصلاح أيضا في بلاد الشرع. بيكار: إن العرف الجنائي البربري يتضمن أمورا لا يمكن أن تقبلها أخلاقنا ومدنيتنا، فكيف يمكن قبول أن يقطع الشخص سيقان خصمه ويعاقب بذعيرة 1500 فرنك فقط؟. بينازي: لا شك أن هناك موانع تمنعنا من بحث هذه التعديلات، ولا يمكن التفكير الآن في فرض إصلاح عميق على قبائل لم تخضع للسلطة إلا حديثا. بلان: أعتقد أنه ليس من الممكن مطالبة السلطان بإصدار ظهير عام يؤسس لعدلية ليست هي عدليته؛ وكل ما يمكن أن نطلب منه هو إصدار نص مختصر جدا يعترف فيه بالنظام الموجود. ايزار: أعرض عليكم بهذه المناسبة محضر اللجنة التي اجتمعت سنة 1924، وطالبت بإصدار ظهير يعترف بوجود العدلية البربرية. بينازي: هل البربر راضون عن نظامهم القضائي؟ نعم. وهل سيكونون راضين لمقابلة المحكمة الفرنسية وجها لوجه؟ لا. أرى أنه من الملائم عدم تعيين القاضي الفرنسي في المحاكم العرفية الابتدائية، لكن في الاستئناف العرفي يمكن تعيين موظف فرنسي لإدارة مناقشات الجماعة. بيكار: لا أستطيع أن أرى القاضي الفرنسي حاضرا بين البربر في محاكم الاستئناف..حضور هذا القاضي معهم فيه إهانة لكرامتنا، وحط من شرفنا.. إننا لم نأت إلى المغرب لتنظيم العرف وعقوبة القصاص. كورديي: في بلاد «القبائل» الجزائرية لم ينجح قضاة الصلح حسبما كان متوقعا، ومسألة العدلية البربرية تهم أكثر من مليونين من الأهالي. يبدو لي من الخطر أن نجعل ما هو مؤقت في هذه العدلية نهائيا، بل يجب الاحتفاظ بها في صيغتها المؤقتة. بينازي: نحن جميعا نقبل أن يتطور العرف، وكل جهود السلطة الفرنسية، سواء في ميدان العرف أو في ميدان الشرع، تميل نحو هذا التطور، وفي محاكم الاستئناف العرفي سيكون إذن الموظف الفرنسي قائما بدور سياسي ودور قضائي. بيكار: يجب أن تتوقعوا أن يقول لكم البربر في يوم ما: لدينا محاكم منحتمونا إياها، إننا نريد الاحتفاظ بها ! أذكركم أنه في سنة 1914، أي في الوقت الذي كان الظهير الذي يعترف بوجود القبائل البربرية في مرحلة اللمسات الأخيرة، جاء اوكستان برنار إلى المغرب مبعوثا خاصا لدراسة المسألة وأنجز تقريرا في الموضوع. وعندما اطلعت الحكومة الفرنسية على تقريره تألمت من كون "تطور البربر في المغرب لم يسلك طريق التطور الفرنسي". بينازي: يلزم التفكير أولا في الاضطرابات السياسية التي يمكن أن تنشأ عن هذه التدابير. بيكار: أعتقد أنه في الإمكان تنصيب قاضي الصلح في الخميسات، وفي القبائل البربرية النائية يجب أن يكون الضابط الفرنسي هو قاضي الصلح العسكري، وهكذا تكون العدلية البربرية الفتية مؤسسة فرنسية فعلية. بينازي: يجب أن يترك لنا الوقت الكافي لإعداد هذا التطور، وهو على كل حال لن يغيب أبدا عن أذهاننا. بوسييوكييو: إن المتحاكمين إلى العرف في وضع ساقط بالنسبة إلى المتحاكمين إلى الشرع. بيكار: يوجد «شيخ مرابط» في نمور يأتيه الخصوم ليفصل بينهم، فيبعثهم إلى قاضي الصلح. بلان: إنني وضعت نصا محتويا على ثلاثة فصول، أعرضه على اللجنة. ففي الفصل الثالث يقوم المقيم العام بتنظيم المحاكم العرفية نيابة عن السلطان. بينازي: لقد حاولنا قدر الإمكان استبعاد تدخل «المحكمة العليا الشريفة» في هذه المادة. كنطار: ليس من الممكن إعطاء النيابة للمقيم العام في السلطات التشريعية. كورديي: اقترح أن تكون المحاكم الفرنسية مختصة بعقوبة الجرائم المرتكبة في بلاد البربر، مع إضافة ثلاثة مستشارين برابرة. وقد وجدت سابقة لهذا، إذ إن البربر يحاكمون أمام المحاكم العسكرية. إنني أطالب بتأسيس قضاء استئنافي عرفي تحت مراقبة مندوب من الحكومة. وقد تم خلال هذه الجلسة تقديم مشروع ظهير مؤلف من ثمانية فصول، على أن تتم دراسته والتعليق عليه في جلسة 13 مارس 1930 التي كانت آخر جلسات اللجنة المكلفة بإعداد النص القانوني المنظم للعدلية البربرية. تعاليق من آخر الجلسات التحضيرية بينازي: إنني أشك في موافقة المخزن، على أن تكون عقوبة الجرائم المرتكبة في بلاد البربر موكولة إلى المحاكم الفرنسية كيفما كان مرتكب الجريمة. بلان: لا أستطيع أن أؤكد لأعضاء اللجنة مساعدة السلطان على النص المشار إليه. بينازي: يظهر لي أنه من الممكن التخوف من عدة صعوبات، ومن الممكن حدوث رد فعل من جانب المخزن. وأرى من المستحسن أن نصل إلى هذه التدابير بالتدريج. مارتي: يظهر لي أن الصعوبات التي تثير المخاوف تتعلق بالفصل الثاني من مشروع الظهير الذي يتطرق للأمور المدنية، إذ يمس القانون الإسلامي المنزل، ويطلب من المخزن أن ينفذ قانونا ليس قانونه. بلان: من أجل هذا ينبغي أن نطلب من السلطان أقل ما يمكن ونوكل النظام التفصيلي للمحاكم البربرية إلى الكاتب العام للحماية. ايزار: ليس من الممكن أن تعطى النيابة للمقيم العام أو لممثله في السلطات التشريعية، وهذه الملاحظة قد أدلى بها في الجلسة الأولى لهذه اللجنة رئيس إدارة الأبحاث التشريعية. مارتي: الاعتراضات التي يمكن أن يقدمها المخزن هي اعتراضات من الوجهة الدينية، فالسلطان بصفته أمير المؤمنين لا يمكنه أن يتنازل ويقوم بإصدار الأمر بإخراج جزء من رعاياه المسلمين عن طاعة القانون الإسلامي الذي نزل به الوحي. كورديي: إن موقف فرنسا إزاء السلطان وإزاء الدول الأجنبية موقف محدد في عقد الحماية، ويمكن التخوف من حدوث توتر في العلاقات مع هذه الدول من جهة، ومن جهة أخرى يمكن التخوف من تداعيات إنشاء نظام عدلي فرنسي مباشر في البلاد البربرية، وهو نظام تابع للسلطة الفرنسية وصادر عنها وحدها. وأنا أعرف قيمة الاعتراضات من الوجهة الدينية، ولكني أتساءل عن إمكانية إجراء هذا الإصلاح دون اللجوء إلى الظهير. إن قيامنا وحدنا بالتنظيم المقصود سيؤدي إلى قطع العلاقات بين السلطان وفرنسا، وفي المستقبل عندما يكون السلطان أشد اهتماما وأكثر اطلاعا سيؤاخذنا قطعا بأننا انتزعنا سلطته واختلسناها اختلاسا، وهذا سيكون على كل حال مناقضا تماما لعقد الحماية الذي يجب علينا احترامه. *أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة – طنجة