يستمر الكاتب الصحافي عبد العزيز كوكاس في رصد متغيرات وضع جبهة بوليساريو بين الداخل والخارج، مستعرضا ضمن رؤيته المغايرة التي ضمنها كتابه الموسوم ب"جبهة بوليساريو.. من حلم التحرر إلى أوهام الانفصال" معطيات تاريخية وسياسية لعبت أدوارا جوهرية في جعل قضية الصحراء تصبح على وجه التعقيد الذي هي عليه اليوم. في المرجعيات الأولى التي كان يحتمي بها الشبان الصحراويون، المشتعلة رؤوسهم بأحلام الحركة الماركسية اللينينية وتجربة الفيتكونغ والأفكار الماوية، الذين شكلوا اللبنة الأولى للبوليساريو، كان الهدف يكمن في تحرير المناطق الصحراوية من الاستعمار الإسباني، وكان طبيعيا بالنظر إلى سلامة وأهمية مواقف من هذا النوع أن يكون ذلك الهدف مغريا ومشجعا وموقظا لأحلام ونزعات كبرى. بيد أنه بعد تحقيق هذا المطلب عام 1975، لم يبق أمام جبهة بوليساريو أي مبرر في الاستمرار، لكن الأدهى من ذلك أن استمرارها وقد انتفت بواعثه الموضوعية، سيقترن بتنفيذ سياسات معادية لا علاقة لها بحوافز التأسيس؛ إذ تحولت إلى مجرد أداة طيعة في مختبر التشويش على المسار الطبيعي الذي آلت إليه المواجهة بين المغرب وإسبانيا من جهة، والمغرب والجزائر من جهة ثانية. وهنا يأتي المخطط المعدل في الدهاليز السرية بين الجزائر وإسبانيا اللتين تختلفان حول الطحين لكنهما تتفقان غالبا حول العجين المشترك، المتمثل في إعادة خلط الأوراق بالمنطقة، ووضع الكثير من الأشواك في القدم المغربي؛ إذ كرد فعل على النزيف الداخلي لبوليساريو الخارج، تم اللعب في مطبخ الأقاليم الصحراوية، وإن بملاعق طويلة، لإخراج "بوليساريو الداخل" إلى حيز الوجود. واستغلت في ذلك لحظة انتقال السلطة في أعلى هرم الدولة، وانشغال المغرب بتأثيث بيته الداخلي بعد إعلان المصالحة مع ماضيه وعزمه على تحقيق انفتاح أوسع في مجال ممارسة الحريات، وكل هوامش الحرية والانفتاح من يافطة حق التعبير إلى حق الاحتجاج والتجمعات، ومن حرية الصحافة إلى تأسيس الجمعيات المدنية ذات الحمولة الانفصالية التي كشفت عن نفسها منذ أحداث العيون في ماي 1999، وما تلاها من تطورات، وصولا إلى أحداث العيون في نونبر 2011. ثمة تلاقٍ آخر على مستوى نشأة بوليساريو الخارج وبوليساريو الداخل برغم اختلاف السياق الزمني، يرتبط بسوء تقدير القوى الحاضنة والداعمة على السواء. غداة تأسيس بوليساريو الخارج، كان الاعتقاد السائد هو أن النظام المغربي يعيش في عزلة تامة وأنه على وشك الانهيار، وأن الوضع الداخلي مهيأ للانفجار، خاصة بعد المحاولتين الانقلابيتين. تحكي الكاتبة "أنيا فرانكوس"، في مؤلفها "جزائري اسمه بومدين"، واقعة ذات دلالة في هذا السياق، قائلة: "حينما كنا مطمئنين على أن الحسن الثاني يعيش معزولا في قصره معرضا لانتقادات ضباط جيشه، مشكوكا في حب الشعب له، تغير الوضع في رمشة عين، وأصبح رجلا قويا في منطقة المغرب العربي، والجزائر مشغولة بدعم الشعب الصحراوي، تجد نفسها معزولة وحدها لتقول التقارير الدولية إنها نهاية هواري بومدين". وتضيف: "أعلن الحسن الثاني المسيرة الخضراء وضحك كل الجزائريين، وقالوا إنها مهزلة، إطلاق 350 ألف مغربي بالقرآن في أيديهم لمواجهة مدافع وصواريخ الإسبان، وقلنا في الجزائر إنها حسابات مكيافيلية وسيناريو هوليودي، وصرح بومدين بلسانه: "إنها السينما"، لكن بومدين تجرع كأس المرارة عندما جاءه عبد العزيز بوتفليقة، رئيس دورة الأممالمتحدة، متحدثا عن حصوله على توصيات.. فقاطعه مندوب الجزائر في الأممالمتحدة، عبد الرحمان رحال، أمام الرئيس بقوله: "إنك يا بوتفليقة تمثل علينا مسرحية، فكل الدول العربية وكل دول عدم الانحياز وكل الدول الغربية اتخذت موقفا مؤيدا للمغرب، واحتفل المغرب بالصفعة التي تلقّاها تعنّتنا". وتتابع أنيا فرانكوس: "كان الحسن الثاني قد أقفل على بومدين بعد اتفاقية مدريد قفصا وأدخله في عزلة قاتلة، وعندما أعلن الملك الحسن الثاني في خطاب 15 فبراير 1976: "إني أنتظر فقط أن تعلن الجزائر الحرب على المغرب"، اجتمع مجلس القيادة الجزائري ليصدر بيانا يقول: "لا حرب مع المغرب من أجل بوليساريو ولا سلم مع المغرب بدون بوليساريو"، وقد تم سحب الجيوش الجزائرية التي تتدخل داخل الحدود المغربية (...) وزادت هزيمة الجزائر عندما أعلن الوالي رئيس بوليساريو انضمامه لوحدة مع موريتانيا يكون رئيسها المختار ولد داداه". "اتفاق الجزائر بين موريتانيا وبوليساريو، في 5 غشت 1979، والظروف الغامضة التي اكتنفت توقيعه، حيث كان إذعانا للجبهة التي فرضت انسحاب موريتانيا من تيرس الغربية - دون إخطار شركائها في اتفاق مدريد - في موعد رُتب له أن يكون سريا، لكن المغرب اطلع عليه، فبادر ب"احتلال" تيرس الغربية. ولم يحقق الطرفان الموريتاني والصحراوي أي مكسب". الخطأ نفسه في تقدير الأوضاع الداخلية بالمغرب سيتكرر مع نهاية التسعينيات عند رحيل الحسن الثاني؛ إذ تم ترويج الحديث عن تفكك مراكز القرار وهدم سلطة النظام بسبب ضعف هرم الدولة، وتم تصوير انفتاح المغرب واتساع الهامش الديمقراطي كأنه مجرد بداية لانفراط حبات سبحة السلطة المركزية، وأن استعمال سلاح حقوق الإنسان يمكن أن يُفكك بنية الدولة من الداخل كما جرى في العديد من دولة المنظومة الاشتراكية، وهو ما أبرز سوء تقدير الجزائر لتعقيدات الوضع الداخلي بالمغرب، لأن الافتراضات والتخمينات لا تكفي وحدها لفهم بنية نظام ضارب بجذوره في التاريخ. والدليل على ذلك أن انتقال المملكة في ظل محمد السادس من سياسة الدفاع إلى سياسة الهجوم، والإنهاء مع سياسة الكرسي الفارغ عبر اللعب في رقعة شطرنج الخصوم ذاتها، كانت كافية لسحب أكثر من 36 دولة لاعترافها بجبهة بوليساريو.. فالسياسة تُبنى على الوقائع لا على التوقعات والتخمينات!