الاحتكارُ لا يَستثنِي أيَّ قطاع.. كلُّ القطاعات وصلَها وباءُ الاحتكارِ الاقتصادي والسياسي... وتُراقِصُ الرأسماليةَ المتوحّشةَ في الداخلِ والخارج.. إننا بين فَكَّيْ الاحتكارِ الاستبدادي المحلي والعالمي.. ومن محطاتِنا الاحتكارية ثلاثة: التعليم مَصْدرُ كلّ ما نحنُ فيه.. والثاني: مفهومُ الوَطنية التي يتفَرَّعُ منها التفاوتُ الطبقي.. والثالث: محاولاتٌ لتطويق المقاطعة الاجتماعية للموادِّ ذاتِ الغلاءِ الفاحش.. ومن السياسة التعليمية جاءتنا كلُّ الويلات، وتلقَّفَتها الجامعة، فصارت هي الأخرى تبيع وتشتري... ووصلَ الاحتكارُ إلى مفهوم الوطَنية: هذا وطَني، ذاك ليس وطَنيّا.. بالونات أنتجتها أحزابٌ ريعية، وُلِدت انتهازية، وعاشت في الانتهازية، وحاليا تحتضرُ على أسِرّةِ الانتهاز.. واليوم، نحن في مرحلة المقاطعة التي هي ثورة اجتماعية ضد احتكار الثروة، واستغلالِ السياسة، والاتجارِ في الدين.. والمقاطعة الاجتماعية المشروعة لا تكفُّ عن المطالبة بالحقوق الاجتماعية، وإلا فالمقاطعةُ مستمرة، وسوفَ تطالُ تدريجيا كلَّ مَواقعِ الاحتكار، حسب ما يتردد في مواقع التواصل الاجتماعي.. وليس عندنا لونٌ واحد للاحتكار.. ألوانٌ وأنواعٌ وأشكال، تُزرعُ في التعليم، وفي الشارع، وتَنبتُ في الأسرة، والمسجد، والمدرسة، والجامعة، وتعطي ثمارَها المُرّة في السلوك العام، تحت أضواء الحكومة والأحزاب والنقابات ومختلفِ المؤسسات... وأيضًا تصفيقاتِ أعيانٍ وأشرافٍ وحُجّاجٍ ومن يملكون في البر والبحر والجو، من أباطرةِ المخدرات وأباطرةِ التهريب، وأباطرةِ الإدارات... وجعلوا من هذه «الكائنات» الطُّفيلية نسخةً من بارونات الزمن الإقطاعي الغابر في أوربا.. ومن هذا الخليط، أتانا الخَلل.. ومن هنا، يأتينا الاحتكار.. ونحن للاحتكارِ مُقاطعون.. أجل! مُقاطعون للاحتكار.. كلِّ أنواع الاحتكار.. مقاطعون، وبمرارة، ومعاناة، ولكن بأسلوبِنا الحضاري.. وسلوكِنا المُسالم.. وبهذه السلمية، في اللفظ والسلوك، هي سلميةٌ مع الذات، ومع الآخر.. وليست تَبجُّحًا، أو مصدرَ استعلاء.. هذا أسلوب اجتماعي لبلادِنا، فردي وجماعي، لمواجهةِ عصابات الاحتكار التي استولت على الثروة والجاه، وتسرَّبتْ إلى «الإسلام السياسي»، والدينُ من هذا برىء، وصارت تتكلمُ إلى الناس، مُعبّرةً عن رأيِها.. هي تُعبر عن رأيها، ولكن باسم «رب العالمين»، وكأن ما تقولُه هي، كلامٌ مُنَزَّلٌ من السماء، ولا يجوزُ فيه أيُّ نقاشٍ.. ولا حتى طرحُ سؤال من قبيل: لماذا؟ وكيف؟...».. هي لا تقبلُ أيَّ سؤال.. فالسؤال يعني البحث في خبايا، وفي غيبيات، وهذه ممنوعاتُ «تُجّار الدّين»، لأن هذا يكشفهم وهم يخلطون بين الدنيا والآخرة.. أولاء يُحلّلُون ما يَستهويهم، ويُحَرّمون ويُجَرّمون ما يشاؤون، وكأنهم وحدَهم يعلمون، ويفهمون، ويعقلون.. وحتى العقل، هم ليسوا منه مُقترِبين.. وببساطة، في خطابتِهم سيناريوهاتٌ غيبية، بلا عقل، ولا تأمل.. هم بعيدون عن العقل.. وهؤلاء اشتَراهم تُجارُ السياسة، وشكّلُوا بهم مع المافيا المالية، شبكةً لتطويقِ أيّ تفكير في «مطالب اجتماعية مشروعة».. وهذه الشبكة المافيوزية، هي تسعَى للانتقالِ بالأذهان إلى اعتبارِ الإنسان شيئًا من الأشياء.. فأنتَ وأنا ونحنُ جميعًا لسنا من مصدرٍ إنساني، ولسنا إنسانا مِثلَهم، يعتبروننا مجرد أشياء.. أي من البضائع التي يَسمحون لأنفسهم باستخدامِها، على هَوَاهُم.. إقطاعيةٌ تستغلُّ الإنسانَ فينا، وتستغلُّ المواطَنة فينا.. وتحتكرُ الإنسانَ والمواطَنة والوطنية.. وكلُّ ما فينا، ومنّا، وحولَنا، هي تملكُه، وتستغلُّه، كما تشاء، وبالطريقة التي تشاء.. عصابةٌ من قُطّاعِ الطريق، والحقوقِ الإنسانية، وحقوقِ الوطنية.. وهذه، أحاطَت نفسَها بثُلّةٍ من «المثقّفين»، وأولاء ليس لبعضِهم من الثقافة إلاَّ «شهادات» من مؤسساتٍ اسمُها الجامعات.. وفي جامِعاتِنا بعضٌ لم تستقلَّ بذاتِها عن التَّبَعية لأحزابٍ هي قد صنَعت الخارطةَ الرسميةَ للتعليم الديني والسياسي والاقتصادي... وهذه التَّبعية انزلقَت بجامعاتِنا إلى التَّقَهقُر، وحوَّلَتها إلى عملٍ إداري لا يُفكر في تطوير الجامعة لتكون في مستوى ما هي عليه الجامعاتُ في العالم.. وتتحكمُ في جامعاتِنا اعتباراتٌ أخرى، على أساس التسلسُلِ الإداري، أي: التعليمات، والأوامر، وما يتماشَى مع السياسةِ العامة، حتى لا يقَع السادةُ العُمداء، والسيد وزير التعليم العالي، في أي محظور إداري أو سياسي.. السياسةُ هي تتحكمُ في الجامعات.. وعندما تتغيّرُ السياسة، تتغيّرُ المنهجيةُ وعقليةُ الأوامر، ويصبح الأعلى في أسفل. والأسفلُ أعلى.. ويكونُ الساقطُ ناجحا، والناجحُ ساقطا.. وهذه السياسةُ يُحدّدُها كلُّ حزب حاكم.. وكلُّ حزب يصلُ إلى الحُكم، هو يضعُ خريطةَ الممكناتِ والمحظورات.. وكل ما يُقرّره يتم تطبيقُه ولو كان خارجَ القانون.. والإداريون يقومون بتنفيذ التعليمات، ولو كانت على حساب العقل والمصلحة التعليمية.. وترى وزيرَ التعليم العالي يتكلمُ في البرلمان بأسلوب تقشعرُّ له النفوس: «أهذا نعتمدُ عليه في إنقاذ الجامعة من تكريسِ التخلُّف؟».. إنه سؤالٌ من الشارع.. يُردّده الناس، صغارا وكبارا.. وهذا ما تسبَّبَ في بيعٍ وشراءٍ في النُّقط للطلبَة.. وفي مساومات.. وابتزازاتٍ من بعضِ حمَلَة الدكتوراه.. وهذا السلوك ما زال منتشرا، وخاصة تحت الحكومة المتأَسلِمة.. شهادات عُليا تُباعُ وتُشترَى في المقاهي المحاذية لبعضِ الجامعات.. ومن رحاب الجامعة انتقلَ البيعُ والشراء إلى كل شيء.. وحتى التاريخُ أصبحَ عُرضةٌ لتبرير ما لا يُبَرَّر.. والوَطنيةُ نفسُها أصبحت تُحتَكَر.. ومفهومُ الوطَنية يُحتكَر.. ولا احتكارَ للوطنية! ومن يحتكرُ الوطنية، للهيمنة على الوطن، وما في الوطن، وثرواتِ الوطن، هذا ليس وطنيا.. هذا نمط شاذٌّ لبعضِ حمَلَة الشهاداتِ «العُليا».. وما أكثرهم في زمن الانتهازية، وتحت غطاء «وطنيةٍ مزعومة»! وجب الحذرُ من أي استخدام للوطنية في غير مكانها الصحيح، لأن الوطن لكل المواطنين، والوطنية عُمقٌ مشترَك لانتمائِنا وجذورنا.. والوطنيةُ تقتضي أن نتعامل مع بعضنا، ونحن من أرضية واحدة، وإلى أهداف مشترَكة، وبطريقة لا تخلو من نُبل في التعامل والسلوك.. وهذا هو مفهومُ الوطن والوطنية.. ومن واجبِنا ألا نقبل أيَّ احتكار للتاريخ، والجغرافية، والانتماء العِرقي، والجنسي، وغيرها، من أجلِ إضفاءِ امتيازاتٍ لاحتكار الوطن والمواطن، ومن ثمة الحيازة لمفهوم الوطنية.. وعندنا هذا الخلطُ قائم.. وترى فئاتٍ تزعم أنها وحدَها تمثّل الوطنية.. أحزابٌ واهية تُراهن على التخلف، لتمرير أفكار متخلفة، لاستغلال كائنات بعيدة عن المعرفة.. ويبقى الوطنُ للجميع.. والوطنية لا تقبل أيةَ مزايدة.. كلُّنا الوطن.. وكلُّنا الوطنية.. وعلى هذا الأساس المشترك، من واجبنا أن نقوم جميعا، كلٌّ في إطار مسؤوليته، ببناء وتطوير وحماية الوطن من أي انزياح عن حقوقنا وواجباتنا المشتركة.. وهذا المشترك يقودنا إلى ضرورة الاشتغال، يدا في يد، وعقلا مع عقل، ونحن فريقُ عمل واحد.. بلا مزايَدة.. ولا محاولة لسحب البساط من تحتِ أي قدم.. كلنا أبناء هذا الوطن.. وحُماةٌ لتعاوننا المشترك.. ومسيرتِنا إلى غدٍ أفضل.. [email protected]