في «لسان العرب» أصل السياسة من السوس بمعنى: الأَصل والطبْع والخُلُق والسَجِيَّة. يقال: الفصاحة والكرم من سُوسِه أَي من طبعه. وفلان من سُوسِ صِدْقٍ أَي من أَصل صدْق وهي تعني أيضاً الرياسة والقيادة، والسياسةُ من فعل السائس. يقال: هو يَسُوسُ الدوابَّ إِذا قام عليها وراضَها، والوالي يَسُوسُ رَعِيَّتَه و سَوَّسَ فلانٌ لفلان أَمراً فركبه كما يقول سَوَّلَ له وزَيَّنَ له. وقال غيره: سَوَّسَ له أَمراً أَي رَوَّضَه وذلَّلَه ، وفي «محيط المحيط»: ساس فلان الدواب، يسوسها سياسة، قام عليها وراضها وأدبها، وساس السلطان الرعية تولى أمرها ودبرها. وترجع استعمالات المصطلح العامة في الثقافة العربية، إلى أخبار الحكام وأفعالهم وقدراتهم وطبائعهم ونزواتهم، لأن الفاعل فيها ليس سوى الحاكم والمحكوم مفعول به دائما. "" الحال تختلف في الفرنسية، حيث ترجع لفظة politique إلى polis من اليونانية وهذه الأخيرة تعني الدولة أو المدينة والمواطنين الذين تتألف منهم المدينة، و politico اليونانية تعني الدولة والدستور والنظام السياسي والجمهورية والسيادة وتشمل أيضا مفهوم المواطنة، أي وجود مواطن، شارك في الحياة السياسية واكتسب حقوقاً والتزم بواجبات. ولقد تبلور مفهوم السياسة على مر السنين كنشاط محوره الإنسان، إذ تعتبر علاقة الحاكم بالمحكوم بمثابة الصفة المميزة للنشاط السياسي عن غيره من النشاطات الإنسانية، وهي علاقة إنسان بآخر غايتها الحقيقية تحقيق إنسانية الاثنين معاً وصيرورة الإنسان في العالم هي الأساس الذي تتخذه السياسة أكثر فأكثر محوراً لها. و تفترض التدابير السياسية إذن إدارة الشأن العام، إدارة عيش الأفراد المشترك ويقال «إسعاد الأفراد» وطبعاً، تدارك الأزمات التي تعيق إدارة وتفعيل الشأن العام ، و السياسة إذن هي علم تدبير شؤون المجتمع تدبيرا عقلانيا. وإذا كان الأمر كذلك فان الأسئلة التي يمكن طرحها هي: هل ما يجري اليوم في المغرب جدير بمفهوم السياسة؟ هل السياسة التي قيل أنها أنبل العلوم وأشرف المهن وأخطرها وكلف بها أفلاطون الحكماء والفلاسفة يمكن أن تكون بهذا التردي ؟ هل هذه سياسة بالمفهوم العصري أم أن التجربة المغربية أقوى من كل المفاهيم والمبتكرات والخبرات الإنسانية؟ قبل الإجابة على هذه الأسئلة ، يمكن القول أن ما بين التعريفات الآنفة الذكر والواقع السياسي المغربي اليوم مسافات ضوئية لأن ما بات يميز العمل السياسي بالمغرب في الآونة الأخيرة هو الانفصام الخطير بين الممارسة السياسية والمبادئ الأخلاقية كما لا يمكن أن نسمي الأداء اليومي لأغلب السياسيين والأحزاب السياسية المغربية بالفعل السياسي لأن كلمة السياسة تشير إلى الإبداع والتخطيط والبرمجة والانجاز والإتمام والإتقان في حين فان ما نراه في الواقع المعيش هو الارتجال والتردد والتذبذب وفقدان البوصلة وغياب النظرة الاستشرافية وسيطرة نزعة أنانية ضيقة وانتشار ذرائعية مقيتة لم ترتقي إلى مستوى التنظير السياسي البراغماتي الذي ينشد إحراز المنفعة للجميع وتمتع فئة قليلة بالنفوذ والقدرة على ممارسة السلطة وتحكم أقلية في مصائر الأغلبية، ويسمى هذا الداء بالسياسوية وهو مرض عضال يعاني منه العمل السياسي ببلادنا ويؤدي إلى اتخاذ قرارات غير أخلاقية وغير إنسانية في الفضاء العمومي وإتباع سلوك سلطوي لا يرحم ولا يشفق على الضعفاء والأجيال المقبلة لأن الغرض هو احتكار السلطة وتراكم الثروة وتحقيق بعض الرغبات حتى وان كان ذلك بوقوع الضحايا وحرمان الآخرين وتخريب الوطن والوقوع في الاستبداد والطغيان لأن الغاية تبرر الوسيلة وما دامت الأهداف غير نبيلة فلا يهم استعمال جميع الوسائل غير المشروعة للوصول إلى هذه الغايات القذرة : السرقة وغسل الأموال والمتاجرة بالبشر ، وكلها وسائل ذات صلة بالسياسوية وليس بالسياسة الحكيمة والإنسانية لأن جوهر السياسة هو الحق وليس القوة ، التسامح وليس التعصب، الاتفاق وليس الخلاف، العدالة وليس الظلم، الصداقة وليس العداوة. إن هيمنة الانتهازية والشعوذة السياسية ورجال المال وتراجع دور الساسة وعدم الاحتكام إلى المبادئ والثوابت في اتخاذ القرارات المصيرية وإتباع الهوى والانفعالات والابتعاد عن صوت الضمير وعدم الاهتداء بنور العقل كل ذلك أدى إلى انقلاب السياسة المغربية إلى "سياسوية" مما أدى إلى ظهور مجموعة من المتزلفين المتعطشين إلى السلطة وممارسة الطغيان وقلة احترام للتقاليد والرموز الحضارية.لقد أصبح العمل السياسي ملتصقا بصفة الشطارة والانتهازية بمعنى الشاطر بشطارته كما يقال أي الذي يعرف كيف يتدبر أمره، و يعرف من أين تأكل الكتف أي الوصول إلى مبتغاه بأي طريقة وسلوك، قبل غيره من أصحاب الأمور والحقوق والشاطر بشطارته، أي الذي يعرف كيف يتصدر مقاماً أو موقعاً ولا يعرف كيف يقدم مقالاً يتلاءم مع المقام، وموقفاً يتلاءم مع الموقع... حتى تراجعت المواقف واهتزت المواقع! وهكذا باتت الصفة الملازمة للعمل السياسي هي الانتهازية والوصولية، بل باتت العلاقات السياسية والحركة السياسية مبنية على الانتهازية والمصالح بعيداً عن الآداب والأصول والمبادئ ولو بحدّها الأدنى بعيدا عن أية مراقبة ومحاسبة لأنه ليست ثمة معايير ثابتة وواحدة يحاسب على أساسها بشكل عام كل شيء عرضة للاستنساب. إن انتصار السياسوية وشهوة الحكم وسيطرة رجال المال والأعيان ومضاربي السوق على الساحة السياسية ببلادنا خاصة في السنوات الأخيرة هي علامة على هيمنة لاعقلانية السوق على العمل السياسي حيث باتت أغلبية الأحزاب السياسية بالمغرب محكومة ببنية وعقلية ومصالح وامتيازات ريعية ومافيوية طبقية جشعة ، تمنع عليها حتى مجرد التفكير بالتجديد والتغيير بأبعاده الإيجابية الوطنية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية ، وهذه اللاعقلانية جعلت أغلبية المغاربة شبابا وشيوخا يعزفون عن العمل السياسي. ومن أجل رد الاعتبار للعمل السياسي لا بد من أن نلعن اللاعقلانية ونلطم السياسوية حتى يعود الناس إلى رشدهم وتتجه كل ممارسة سياسية و إنسانية نحو مقاصدها الحقيقية وواجب على رجال السياسة أن يحكموا ضمائرهم في قراراتهم ويهتدون بالحكمة والعقلانية ويضعون مصير الوطن نصب أعينهم ، كما يجب علينا أن نجعل من العمل "السياسي" أشرف الآداب أخلاقاً، لأن كل تدبير لأمر مادي أو معنوي هو سياسة في المعنى الصحيح للكلمة. وفي هذا القصد، كان يعتبر الفلاسفة الإغريق أن الاقتصاد السياسي هو سياسة تدبير الأشخاص والأشياء وإدارتها. ولا ينفصل الأشخاص في تدبيرهم عن الأشياء، وكذلك العكس، لاستحالة فصل المدرك عن الغرض المدَرك في مجلس العيش وانفعال الإنسان بالمجتمع وبالحياة. فالسياسة إذن ليست شطارة ولباقة، وشعوذة وانتهازية، أو لعباً على الحبال، كما يتصور ذلك بعضهم في مغرب اليوم ، ولو أن اللباقة والشطارة المهذبة المخلصة والذكاء الصادق تدخل من ضمن اللعبة السياسية وتذكيها، كما يعدّل الملح والتوابل مذاق الطعام، على أن الإنسان لا يستطيع أكل الملح والتوابل صرفاً وحدها... إن السياسة مسلك شريف لأن لها علاقة بقيادة الرجال وتوجيههم... والسياسة فيها أدب ولها أصول وقاعدتها الأخلاق. ولذلك نحن قادرون على التقاط أنفسنا وتعويض ما فاتنا وإعادة بناء مؤسساتنا وتطوير أوضاعنا السياسية، إذا ابتعدنا عن ممارسة السياسوية والانتهازية. إن السبيل الوحيد لرد الاعتبار للعمل السياسي يتجلى في استرجاع مصداقية الأحزاب السياسية - كفاعل أساسي -عبر ضمان فعالية تنظيماتها ووضوح شعاراتها وبذلها مجهودا كبيرا لكي تتصالح مع المواطنين وذلك بواسطة إحداث قطيعة مع المفاهيم القديمة في مقاربتها للشأن الانتخابي واعتمادها برامج ملموسة، تجد لكل قضية مطروحة حلا آنيا، وهذا هو السبيل الذي سيعيد الثقة في المواطن وجعله يساهم بدون تردد في المشهد السياسي، فاسترجاع الأمل هي نقطة الارتكاز التي قد تذيب الجليد بين الأحزاب السياسية والمواطنين، وتجعلهما في اتصال وتواصل دائمين يمكنانهما من المساهمة جنبا إلى جنب في المسيرة التنموية وبناء المغرب الذي نريده جميعا، لأن عدم تواصل الأحزاب مع المواطنين يقوض كل الحركة السياسية ويقتلع جذور الوطن ويؤدي إلى انهيار الذات الوطنية و انجازاتها التاريخية التي يجري العمل لأجلها ولأجل بلورتها وصيانتها وجعلها تنسج قوام المجتمع وتخليصه من الأمراض التي تنخره . فمعظم هذه الأحزاب لاتسعى لخدمة الوطن وإنما طبقا لمصالحها الخاصة، وأن زعماءها مجرد باحثين عن مصالح شخصية آنية، وليس همهم النضال من أجل قضايا الوطن والمواطنين كما كان يدعي بعضها في الماضي، وما يقع عند كل مناسبة انتخابية بخصوص تزكية بعض المرشحين خير شاهد على ذلك، كما أن الأوضاع الاجتماعية المزرية التي مازال يتخبط فيها المواطنون تدل على ما نقول، حيث تتجاهل الأحزاب السياسية ذلك، ولا تنشغل إلا بأمورها الخاصة. بالإضافة إلى ذلك، لابد من إعادة الاعتبار للممارسة الشفافة والمسؤولة داخل الأحزاب وكذا تجاوز ما اعترى الممارسة الحكومية من فتور وتدني الإشعاع على اثر التراجع الذي أصاب تطبيق المنهجية الديمقراطية من حيث الشكل. إن مغرب اليوم في أمس الحاجة إلى حكومات ومؤسسة تشريعية ومجالس جماعية قوية ومسؤولة تعتمد مقاييس الكفاءة والقدرة على ترجمة التمثيلية السياسية كبرامج قابلة للمحاسبة الديمقراطية . وعليه فان كل الأطراف الفاعلة في الحياة السياسية المغربية باتت مطالبة بأن تجعل من اقتراع 12 يونيو 2009 محطة تحول نوعي في الممارسة السياسية النزيهة والمسؤولة، وإعلانا عن القطيعة مع الماضي، ليس فقط من زاوية ما كان يشوب الانتخابات من إفساد، بل أيضا، وهذا هو الأهم، من حيث تحول التشكيلات السياسية من كائنات انتخابية إلى قوة اقتراحيه فعالة، سواء في المجالس الجماعية ، أو في البرلمان بغرفتيه ،وذلك على أساس البرامج والإنجازات. فلقد عانى المغرب لعدة عقود الكثير من مظاهر التزوير والتزييف والتدليس، وكشفت التجربة حجم مخاطر العبث بإرادة الشعب، الذي كان يفضي إلى الفشل في تمكين البلاد من مؤسسات محترمة وقوية وقادرة على تحقيق إصلاحات جوهرية في البنيات الأساسية، إذ أن المؤسسات، التي تتشكل بالغش والتدليس، لا يمكن أن تنتج إلا كائنات فاسدة مغشوشة، والبضاعة الفاسدة لا يمكن الاعتماد عليها في قيادة البلاد نحو إصلاح جوهري ، من هذه الزاوية، ندرك جيدا أبعاد ودلالات الحرص على مسألة النزاهة، وتحميل الجميع مسؤولية التصدي لأعداء الديمقراطية. فبضمان المصداقية والشفافية واحترام القوانين، نضع البلاد على سكة التغيير الديمقراطي نحو الحداثة والتقدم والتنمية الشاملة. فالهدف الأسمى للديمقراطية، يتجلى إذن في تكريس مصداقية المؤسسات وجعلها أداة فعالة للتأهيل السياسي والنهوض الاجتماعي والإقلاع الاقتصادي، وجلب الاستثمار وحفزه، وإيجاد ثروات جديدة, وبكلمة أخرى جعلها دعامة قوية لكسب رهانات التنمية الشاملة. [email protected]