رصد بالأقمار الصناعية.. المغرب يفكك خلية ارهابية تابعة لتنظيم أسود الخلافة    بورصة الدار البيضاء تعزز أرباحها عند الإغلاق    رئيس الاتحاد الموريتاني لكرة القدم يستقبل فوزي لقجع    البطل المغربي والعالمي حسن صاط يواصل تألقه بفرنسا ويستعد لأكبر نزال في شهر أبريل    منظمة (الألكسو).. تتويج التلاميذ المغاربة الفائزين في الدورة الثانية للبطولة العربية لألعاب الرياضيات والمنطق    نايف أكرد يغيب عن مواجهة برشلونة بسبب تراكم الإنذارات    مدارس الريادة نموذج تعليمي مبتكر لبناء جيل قادر على مواجهة تحديات المستقبل    الصيادلة يهدّدون باستئناف "التصعيد"    أوروبا تعلق عقوبات على سوريا    رئيس "الشيوخ الفرنسي" يجدد دعم مغربية الصحراء ويشيد بمبادرة الأطلسي    وزير العدل يؤكد في "مجلس جنيف" التزام المغرب بتعزيز حقوق الإنسان    بعد تفكيك خلايا إرهابية.. الاستخبارات المغربية تلاحق آثار مصادر الأسلحة    الكاتب الأول إدريس لشكر يهنئ الميلودي موخاريق بمناسبة إعادة انتخابه أمينا عاما للاتحاد المغربي للشغل لولاية رابعة    الملك يهنئ رئيس جمهورية إستونيا    توقيف مبحوث عنهما متورطين في تهريب سجين بفرنسا    الاستخبارات المغربية تتعقب مصادر الأسلحة الإجرامية إثر تفكيك "خلايا داعشية"    حريق يداهم الحي الجامعي بوجدة    دراسة.. ارتفاع معدلات الإصابة بجرثومة المعدة لدى الأطفال بجهة الشرق    ترتيب المحترفين المغاربة الهدافين في دوري الأبطال    غزة ليست عقارا للبيع!    "زمن الخوف".. الكتابة تحت ضغط واجب الذاكرة    الجبل ومأثور المغرب الشعبي ..    ميناء طنجة المتوسط يستقبل سربًا من مروحيات الأباتشي    ترحيل حلاق من إسبانيا إلى المغرب بعد اتهامه بتجنيد مقاتلين لداعش    بوبكر سبيك: التشكيك في العمليات الأمنية يُعدّ جزءا من العقيدة الإرهابية    تسجيل هزة أرضية خفيفة بالعرائش    طقس بارد نسبياً وأمطار متفرقة متوقعة غداً الثلاثاء    الدار البيضاء.. الأوركسترا السيمفونية الملكية تحتفي بالفنان الأمريكي فرانك سيناترا    سفير اسبانيا .. مدينة الصويرة تلعب دورا محوريا في تعزيز الروابط الثقافية بين المغرب واسبانيا    دنيا بطمة تعود إلى نشاطها الفني بعد عام من الغياب    لافروف: روسيا ستوقف القتال في أوكرانيا عندما تحصل على ما تريد من المفاوضات    نقابة الصحفيين التونسيين تدعو لإطلاق سراح الصحفيين المعتقلين مع التلويح بإضراب عام في القطاع    مراكش: توقيف زوجين يروجان مواد صيدلانية مهربة من شأنها الإضرار بالصحة العامة للمواطنين    رصاصة شرطي توقف ستيني بن سليمان    مع اقتراب رمضان.. توقعات بشأن تراجع أسعار السمك    المغرب يتصدر قائمة مستوردي التمور التونسية    دراسة تكشف عن ارتفاع إصابة الأطفال بجرثومة المعدة في جهة الشرق بالمغرب    فنلندا تغلق مكتب انفصاليي البوليساريو وتمنع أنشطتهم دون ترخيص مسبق    الذهب يحوم قرب أعلى مستوياته على الإطلاق وسط تراجع الدولار وترقب بيانات أمريكية    المهاجم المغربي مروان سنادي يسجل هدفه الأول مع أتليتيك بلباو    "كابتن أميركا" يواصل تصدّر شباك التذاكر في أمريكا الشمالية    انفجار يطال قنصلية روسيا بمارسيليا    المعرض الدولي للفلاحة بباريس 2025.. المغرب وفرنسا يعززان تعاونهما في مجال الفلاحة الرقمية    السعودية تطلق أول مدينة صناعية مخصصة لتصنيع وصيانة الطائرات في جدة    غوتيريش: وقف إطلاق النار في غزة "هش" وعلينا تجنب تجدد الأعمال القتالية بأي ثمن    الصين: "بي إم دبليو" تبدأ الإنتاج الضخم لبطاريات الجيل السادس للمركبات الكهربائية في 2026    الوزير يدعم المغرب في الحفاظ على مكسب رئاسة الكونفدرالية الإفريقية للمصارعة وانطلاقة مشروع دراسة ورياضة وفق أفق ومنظور مستقبلي جديدة    مناقشة أول أطروحة تتناول موضوع عقلنة التعددية الحزبية في المغرب بجامعة شعيب الدكالي    صدمة كبرى.. زيدان يعود إلى التدريب ولكن بعيدًا عن ريال مدريد … !    المغربي أحمد زينون.. "صانع الأمل العربي" في نسختها الخامسة بفضل رسالته الإنسانية المُلهمة    فقدان الشهية.. اضطراب خطير وتأثيره على الإدراك العاطفي    الشاذر سعد سرحان يكتب "دفتر الأسماء" لمشاهير الشعراء بمداد الإباء    التخلص من الذباب بالكافيين يجذب اهتمام باحثين يابانيين    رمضان 2025.. كم ساعة سيصوم المغاربة هذا العام؟    اللجنة الملكية للحج تتخذ هذا القرار بخصوص الموسم الجديد    أزيد من 6 ملاين سنتيم.. وزارة الأوقاف تكشف التكلفة الرسمية للحج    الأمير رحيم الحسيني يتولى الإمامة الإسماعيلية الخمسين بعد وفاة والده: ماذا تعرف عن "طائفة الحشاشين" وجذورها؟    التصوف المغربي.. دلالة الرمز والفعل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مقولة "المغاربة هم أذكى شعب في العالم" .. حقيقة أم أكذوبة؟
نشر في هسبريس يوم 19 - 05 - 2018


من أجل تصور وطني ل"الإنسان النوعي" "Quality Man"
النصف الأول من الحقيقة، التي قد تكون محرجة والتي أريد أن أشاركها مع القارئ الكريم، هي أننا نعاني في مغرب اليوم من مشكلة تدني مستويات الذكاء ومن مشكلة غياب ثقافة الإبداع والابتكار ومن مشكلة التواصل الفعال. والنصف الثاني من هذه الحقيقة هو أن هذه المشاكل قابلة للتجاوز إذا ما أسسنا بشكل واع ومسؤول لتعريف جديد ل"الإنسان النوعي" (quality man) الذي نريد نبنيه.
تتكون هاته المقالة من جزأين اثنين: سأحاول في الجزء الأول أن أعرف بثلاثة أبعاد من أبعاد نموذج "الإنسان النوعي" الذي أعتقد أننا نحتاج إلى تصريفه إلى سياسات تربوية ملموسة وشاملة ومندمجة. وفي الجزء الثاني، سأعرف بمبادرة "السوفت سكيلز" (Soft skills) وأنتقد بعض جوانبها هذه المبادرة التي تبنتها جامعة القاضي عياض أعتقد أنها نوع من الاستجابة إلى حاجة المجتمع المغربي ل"الإنسان النوعي".
هل نحن أذكياء؟
هل "المغاربة هم أذكى شعب في العالم" كما تدّعي قولة مشهورة دارجة على ألسن المغاربة أنفسهم؟ أقصد ب "الذكاء" هنا الذكاء الشامل لكل أنواع الذكاء التي درسها وصنفها ڭاردنر.
حسب دراسة أجراها عالم النفس البريطاني ريتشارد لين، أستاذ علم النفس بجامعه لاستر، بين سنتي 2002 و2006، مستوى الذكاء عند المغاربة متدنّ بشكل ملحوظ لا يتجاوز عتبة 84 في مقياس الذكاء، وهي المرتبة 23 ضمن 80 دولة.
ووفق الدراسة نفسها، تحتل دول مثل الأردن وأفغانستان وكولومبيا والباهاماس المستوى نفسه من الذكاء الذي بلغه المغاربة (أي 84 في مقياس الذكاء). وأعلى مستويات الذكاء، حسب هذه الدراسة، توجد عند سكان هونغ كونغ وسنغافورة (بمعدل 108) وكوريا الجنوبية (بمعدل 106) واليابان والصين (بمعدل 105). وتحتل بريطانيا التي منها الپروفيسور ريتشارد لين نفسه المرتبة السابعة (بمعدل 100)، وتحتل فرنسا المرتبة الثامنة (بمعدل 98). أقل الشعوب ذكاء، حسب هذه الدراسة، كينيا الاستوائية (بمعدل 43). (Lynn, Richard, Vanhanen, Tatu (2002). IQ and the wealth of nations).
لاحظت دراسات ريتشارد لين وأستاذ العلوم السياسة الفنلندي، تاتو ڤانهانن، أن هناك تلازما يصعب غض النظر عنه بين مستوى الذكاء عند الشعوب وأدائها الاقتصادي. الشعوب ذات معدلات الذكاء المرتفعة هي نفسها الشعوب ذات أكبر ناتج داخلي خام وذات أعلى معدل مدخول وطني وفردي.
فبينما بلغ مدخول الفرد الواحد سنة 2016 في سنغافورة 52600 دولار أمريكي، وبلغ في كوريا الجنوبية في السنة نفسها 25458 دولار أمريكي، وهذه هي الشعوب ذات معدلات الذكاء الأعلى في العالم، لم يتجاوز المدخول الفردي في المغرب 3151 دولارا حسب معطيات صندوق النقد الدولي (IMF : World Economic Outlook (WEO) Database, April 2018). ولم يتجاوز 749 دولارا في كينيا الاستوائية صاحبة أضعف مستوى للذكاء.
بغض النظر عن الانتقادات التي وُجهت إلى أبحاث لين وڤانهاتن (والتي من بينها نظرتهما العنصرية المتحيزة للعنصر الأبيض باعتباره أكثر ذكاء)، فإن معطياتهما الغزيرة جعلت العديد من منتقديهما يضطرون للتراجع عن النبرة النقدية الحادة لصالح نظرة أكثر اتزانا، اعترافا بالأهمية الأكاديمية لهذه المعطيات مهما كانت مؤلمة أو جارحة.
إلا الأبحاث التي ستعيد الأمل للشعوب التي تعاني من تدني مستويات الذكاء هي تلك التي قام بها الأمريكي جيمس فلين، أستاذ العلوم السياسية بجامعة أوتاڭو، الذي تخصص بشكل دقيق في ظاهرة تنامي ذكاء الشعوب، مما أدى به إلى اكتشاف ظاهرة اجتماعية نفسية أطلق عليها فيما بعد اسم "تأثير فلين" (Flynn Effect).
ومقتضي هذه الظاهرة أن الذكاء في الشعوب ازداد بين 1930 إلى اليوم بنسب متفاوتة قد تصل إلى 16 نقطة على مقاييس الذكاء المعتمدة، مما اضطر الخبراء إلى تعقيد الروائز التي يُقاس بها الذكاء. لذلك اقترح لين وديكنز سنة 2001 نظرية جديدة فحواها أن الناس الأكثر ذكاء ميّالون إلى انتقاء البيئات الأكثر تحفيزا لذكائهم، مما يؤدي، إذا اشتدّ التحفيز واستمر، تغييرا جينيا طفيفا يرتفع معه مستوى الذكاء.
ومن الدراسات التي حاوت تفسير تقدم الذكاء تلك التي نشرها روبيرتو كولوم في مجلة "Intelligence" سنة 2005 (الجزء 33، العدد 1) التي قارنت حالة عينة من الأطفال سنة 1970 مع عينة مكافئة 30 سنة بعد ذلك، لتخرج بنتيجة مفادها أن نسبة الذكاء تزداد ليس فقط بسبب التحفيز الذهني الذي تحدث عنه فلين، بل أيضا بسبب تحسن مستوى جودة التغذية. فكما أن طول الأطفال يزداد بتحسن مستوى التغذية، فكذلك يرتفع مستوى الذكاء بفعل هذا العامل وبتأثير منه.
خلاصة القول، على افتراض أن مستويات معدل الذكاء في المغرب منخفضة، فهذا لا يعني أن هذه المستويات واقع لا يمكن تجاوزه أو قدر لا يمكن الانفلات من قيوده: الذكاء ظاهرة اجتماعية متعلقة بما نضعه في محيط أبنائنا من عوامل تحفز ذكاءهم؛ بحيث كلما نما ذكاء الأجيال زاد سعيهم إلى مزيد من التحفيز. كما أنه ظاهرة صحية متعلقة بجودة التغذية وتحسن مستوياتها، فكلما ازدادت جودة التغذية التي تُوفَّر للأطفال قبل وبعد ولادتهم نما ذكاء الأجيال وارتفعت معدلاته.
الذكاء، بهذا المعنى، خاصية من الخصائص المُشكّلة للإنسان النوعي (quality man) الذي ينبغي أن نسعى إلى بنائه بواسطة منظومتنا التربوية.
هل نحن مبتكرون؟
من المؤشرات على ضعف القدرات الابتكارية عند المغاربة أن مؤشر الابتكار العام (Global Creativity Index) عند المغاربة يضع المغرب في المرتبة 120 من 139 دولة، تتجاوزنا فيه العربية السعودية (وهي في المرتبة 83!)، وأفغانستان (وهي في المرتبة 87!) ومالي (وهي في المرتبة 89!) وإثيوبيا (وهي في المرتبة 98!). تحتل المرتبة الأولى في هذا المؤشر أستراليا، تليها الولايات المتحدة الأمريكية، ثم نيوزيلاندا (2015 :Richard Florida Charlotta Mellander Karen King).
يفيد تقرير المؤشر العالمي للابتكار لسنة 2014 بأن عدد براءات الاختراع المسجلة بالمغرب سنة 2006 هو 910. هذا رقم محترم ... لكن المشكلة هي أن 80.10% من براءات الاختراع هذه هي لأجانب يفضلون تسجيل اختراعاتهم في المغرب نظرا لأن معايير التسجيل في المغرب لا ترتقي إلى المقاييس الدولية التي يصعب بلوغها. وفقط 19.90% من براءات الاختراع مسجلة باسم المقيمين بالمغرب. يمكن أن نسلط الضوء أكثر على هذا الواقع غير المريح إذا قارنا بين معدل براءات الاختراع التي يسجلها جميع المغاربة سنويا، وهو 9.1، مع معدل براءات اختراع مخترع واحد معروف في الغرب مثل ثوماس أديسون، وهذا المعدل هو 17.34!! هذا معطى محزن ومحرج في الوقت نفسه، لكن هل هذا يعني أن المغاربة غير قادرين على الاختراع؟
التقرير الدولي نفسه يذكر لنا حقيقة أخرى ذات دلالة قوية: 876 براءة اختراع سجلت باسم المغاربة في مناطق مختلفة من العالم بين سنتي 1995 و2011. أي ما معدله 54.75 اختراعا كل سنة. هذا يعني أن المغاربة، كغيرهم من الأجناس، قادرون على الاختراع إذا توفرت لهم الظروف المناسبة.
من المؤشرات على انخفاض مستويات القدرة الإاتكارية عند المغاربة أيضا أن تقارير المنتدى الاقتصادي الدولي دائما تجعل من غياب ثقافة التجديد والابتكار عند الشباب المغاربة عائقا من 16 عائقا للاستثمار بالمغرب، وأن نسبة الاستثمار في قطاع البحث والتطوير (وهو مؤشر على ثقة المستثمر في القدرات الابتكارية للشباب، الذي لا يتجاوز 0.73% من الناتج الداخلي العام) عادة ما يكون منخفضا جدا بالمقارنة مع الاستثمار في قطاع التربية والتكوين الذي قد يصل إلى 7% من الناتج الداخلي العام في المغرب.
هناك نظرية في منتهى السطحية منتشرة حتى بين المثقفين المغاربة تعتبر أن مفتاح الثقافة الابتكارية هو أن ترصد الدولة المزيد من السيولة النقدية في الميزانيات المخصصة للتربية والتكوين. الرفع من النفقات المخصصة للتكوين والبحث العلمي ضروري، لكنه غير كاف على الإطلاق. تنفق السعودية على كل تلميذ من تلاميذها 2916.7 دولار سنويا (قريبة من نيوزيلاندا سنة 2003! 3074.6 سنويا). بينما لا ينفق المغرب على كل تلميذ من تلاميذه سوى 365.9 دولار سنويا ... هل هذا الفرق جعل السعودية أكثر ابتكارية من المغرب؟ نتفاوت في النفقات ونتساوى في الجهل... الثقافة الابتكارية شأن قائم الذات، إما أن يكون صانع القرار عالما بأسراره وإما أن لا يكون كذلك.
يحتاج الفرد إلى اكتساب القدرة الابتكارية لأن المجتمع المعاصر يتطور بسرعة لم يكن يتطور بها سابقا، ولأن هذه السرعة تفرض على الفرد أن يتكيف أكاديميا وشخصيا ومهنيا مع جميع التغيرات المحتملة. الخبر السار، مرة أخرى، هو أن البحث العلمي المختبري الرصين، كسلسلة الأبحاث التي أنجزها أليكس أوزبورن ونشرها في كتاب له سنة 1979 عنوانه "Applied Imagination"، أثبت بما لا يدع مجالا للشك أن القدرة على الابتكار كفاية قابلة للتعليم والتعلم. فالابتكار ليس سوى حزمة من المهارات التي ينبغي أن يتدرب المتعلم على استعمالها تمكنه من تطوير أدوات عمله أو بحثه مهما كانت طبيعتها ومهما كان مستوى تعقدها.
ولا ينبغي الخلط بين "الموهبة" و"القدرة الابتكارية". "الموهبة" قدرات عالية يختص بها بعض الأفراد، أما "القدرة الإبتكارية" فمهارات مستبطنة (= نفسية داخلية تعبر نفسها من خلال السلوك) يمكن أن يطورها أي طفل منذ نعومة أظافره. فإما أن تشجعها الأسرة والمدرسة والمحيط الاجتماعي، وإما أن يخنقوها أو يقتلوها. لقد ثبت منذ سبعينات الماضي (راجع كتاب "الخيال التطبيقي" لصاحبه داڤيد أوزبورن) أن هناك تداريب فعالة تساعد الفرد على تنمية قدرته الابتكارية بما ينفعه في دراسته وتكوينه المهني وحياته الشخصية.
بهذا المعنى، فإن القدرة الابتكارية هي أيضا جزء من حزمة الخصائص النفسية والتربوية التي ينبغي أن نسعى إلى إدماجها بشكل سلس وعميق في البناء النفسي ل"الإنسان النوعي" (quality man) الذي تساهم المنظومة التربوية في بنائه.
هل نجيد التواصل؟
الذكاء التواصلي هو قدرة الفرد على فهم العبارة اللسانية وما يتعلق بها من أنماط تواصلية، كحركة اليد وتعابير الوجه وغيرهما، مهما كان تعقد هذه العبارة، ورصد الفعل الكلامي للمتكلم مهما كان خفاؤه ومهما كانت لطافة إشارته، والاستجابة لمضمون هذه العبارة اللسانية وما تدل عليه من فعل كلامي بشكل ملائم.
فإذا قال متكلم لصاحبه مثلا: "لقد حاولت قدر المستطاع أن أتصل بك لأخبرك بأنني قضيت وقتا طويلا أبحث فيه عن وكالة بنكية مفتوحة لأسحب منها بعض النقود، لكنني لم أجد أي وكالة مفتوحة اليوم ولست أدري لماذا تكون هذه الوكالات أحيانا مغلقة إذ يكون المرء في حاجة لها ..."، فلا يكون المستمع في هذه الحالة ذكيا تواصليا إلا إذا فهم معنى هذه الجملة رغم طولها وتعقدها المبالغ فيهما، وأدرك أن الهدف المحتمل للمتكلم هو أن يقترض منه مالا بسبب ما يدعيه من إغلاق الوكالات البنكية لأبوابها رغم الالتباس الذي قد يتعمد المتكلم استعماله ربما بسبب تحرّجه من التصريح برغبته في اقتراض بعض المال من مخاطَبه.
فقد بين اللساني الفرنسي ريتشارد كاين (1994) أن جوهر التعقد التركيبي في جُمل اللغات الطبيعية آلية تدمج الكلمات في بعضها البعض بشكل خطي تنتج عنه حوسبات ذهنية معقدة تختفي معه العلاقات الخطية وتُعوض بعلاقات ذهنية هي أقرب إلى تعقد الكائنات البيولوجية هي أصل إبداعية اللغة وقدرتها على توليد المعاني والأفكار. لذلك، فإن الذكاء التواصلي لمستعمل اللغة يخترق تعقد الحوسبة اللسانية وغناها المعجمي ليدرك معاني الجمل، ويربط بينها ربطا يؤهله إلى بلوغ مقاصد المتكلم وطبيعة أفعاله الكلامية التي كان يتحدث عنها الفيلسوف الأمريكي أوستين.
وقد سبق لكاتب هذا المقال أن كتب مقالا آخر نشرته هسبريس تحت عنوان "نمط التواصل اليومي في المجتمع المغربي .. عتَب وعصبية وصخب"، يسلط الضوء على بعض مظاهر الاختلال في الأنماط التواصلية للمغاربة وعلى بعض نتائجها الهدامة. فذكر من مظاهر الاختلال هاته ما سماه ب"نقل الكلام بشكل موجه" (المبالغة في أمْثَلَةِ كلام الذات وتعييب كلام الغير) و"النفي الموقفي" (الميل إلى رد كلام المخاطَب بدون إدراك معناه بشكل كامل) و"الالتباس المعجمي" (استعمال الألفاظ الحمالة لأوجه متعددة من المعنى دون الوعي بذلك). فهذه الأنماط التواصلية خطيرة بالنظر إلى نتائجها لأنها تشجع على الكذب، وعدم الدقة في التعبير، والالتباس، والغموض، والتعميمات غير المبررة، وعدم الانتباه، والكسل الذهني، وتوتير العلاقات الاجتماعية، وغيرها من الأمراض الاجتماعية.
واقترح صاحب المقال أيضا حلا شاملا ومندمجا قد يساهم بشكل فعال في الحد من هذه الأمراض التواصلية ويصححها. فكان الحل المقترح هو أن يصوغ صانع القرار منهاجا دراسيا يجمع بين ثلاثة محاور هي "الفكر النقدي" و"الثقافة الابتكارية" و"التواصل الفعال"، وأن يكون هذا المنهج تصحيحيا (corrective)، بمعنى أن تكون مضامينه مصححة للاختلالات التواصلية التي يعاني منها المجتمع لا مجرد صيغ مجردة لا علاقة لها بالمشاكل التواصلية للناس، وأن أن يصوغ صانع القرار منهاجا تكوينيا لتدريب المدرسين في معاهد تكوين المدرسين على قيم "الفكر النقدي" و"الثقافة الابتكارية" و"التواصل الفعال".
وكل هاته الأنماط التواصلية المختلة تشير إلى أننا نعاني في المغرب من أزمة تواصل تماما كما نعاني من أزمتي الذكاء والثقافة الابتكارية. لذلك، فلا بد من إدماج التواصل الفعال المبني على تصحيح الاختلالات التواصلية المتفشية بين المغاربة، ولا بد من إدماجه في إطار تعريف شامل ل"الإنسان النوعي" (quality man) الذي نريد بناءه في مغرب اليوم.
خلاصة
خلاصة الكلام أننا نحتاج إلى بناء تصور جديد ل"الإنسان النوعي" الذي يجمع بين الذكاء (القابل للتنمية) وثقافة الابتكار والفعالية في التواصل. ينبغي أيضا أن نضيف إلى تحديدنا الوطني ل"الإنسان النوعي" أبعادا أخرى كالتربية على استعمال المعلومة (literacy education) وتربية الشخصية (character education) والتربية على المواطنة (citizenship education)، وغيرها من الملامح المحددة لإنسان حضارة الألفية الثالثة وما بعدها.
سأتناول في الجزء الثاني من هذا المقال مبادرة مهمة ما تزال غير معروفة تبنتها جامعة القاضي عياض تسمى بمشروع "السوفت سكيلز" (Soft skills) أعتقد أنها تستجيب على الأقل جزئيا لمتطلبات بناء الإنسان النوعي. سأعرف بهذه المبادرة كما سأنتقد بعض جوانبها التي قد تعوق تحقيق غاية بناء الإنسان النوعي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.