بعد نيلهم الموافقة الملكية لمباشرة مهامهم داخل المؤسسات القضائية المغربية، جرى، مساء الاثنين بمقر محكمة النقض بالرباط، استقبال أول فوج من المسؤولين القضائيين يُعيَّن في عهد المجلس الأعلى للسلطة القضائية، ويتعلق الأمر ب19 مسؤولاً قضائياً جديداً معينين بمجموعة من المحاكم الابتدائية والاستئنافية، من بينهم أول امرأة مغربية في منصب وكيل عام للملك بإحدى محاكم المملكة. وشهد حفل استقبال أعضاء النيابة العامة الجدد، الذي نظَّمه المجلس الأعلى للسلطة القضائية، حضور عدد من المسؤولين البارزين، كان في مقدمتهم وزير العدل، محمد أوجار، وإدريس جطو، رئيس المجلس الأعلى للحسابات، ومصطفى الرميد، وزير الدولة المكلف بحقوق الإنسان، بالإضافة إلى محمد عبد النباوي، الوكيل العام للملك رئيس النيابة العامة، وإدريس الضحاك، القاضي الأمين العام السابق للحكومة، وعبد العزيز بنزاكور، وسيط المملكة، إلى جانب عدد من المسؤولين القضائيين والحكوميين. وفي هذا الصدد، قال الرئيس الأول لمحكمة النقض، مصطفى فارس، في كلمة له خلال اللقاء، "اليوم نُكرس قيماً مهنية وتواصلية ذات أبعاد مختلفة ومعان كبرى، تقليد جوهره الالتزام بالأخلاقيات وتكريس لمعان سامية لا مجال للتنازل عنها أو التفريط فيها تحت أي مسمى أو ذريعة"، مشيرا إلى أن "المكرمة الملكية تؤكد العناية الموصولة بأسرة القضاء وحرص جلالته على تفعيل كل آليات الإصلاح التي تكرس عدالة في خدمة المتقاضي وفي مستوى الانتظارات". وبعدما أكد أن "أسرة العدالة بالمغرب عرفت عبر التاريخ مسؤولين قضائيين أفذاذا عملوا بتفان وإتقان ونكران ذات بارين بالقسم، ملتزمين بجوهر رسالة القضاء"، عاد فارس ليوجه كلامه إلى المسؤولين القضائيين الجدد، داعيا إياهم إلى "العمل على الاستفادة من تجارب وخبرات من سبقهم في ميدان العدالة، من أجل تجويد منظومة العدل بالمملكة". وحول معايير انتقاء الفوج الجديد، أورد الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية أن "المجلس عمل على انتقائهم من ضمن العديد من الطلبات والاقتراحات وفق معايير تكافؤ الفرص وضوابط الأخلاق والحكامة والفكر المبدع الخلاق، وبعد لقاءات مطولة مع كافة المرشحين الذين تقدموا بتصوراتهم ومشاريعهم في أجواء جد متميزة تؤسس لمرحلة جديدة قوامها الحرص التام على تكريس الشفافية والكفاءة والجدية والمسؤولية"، وقال: "الأكيد أننا اليوم أمام جيل جديد من المسؤولين الذين يستحقون منا –بعد كل هاته الإجراءات والمساطر- الكثير من التقدير والدعم والتشجيع". وتساءل فارس قائلا: "من هو المسؤول القضائي الذي نريده اليوم؟"، ليجيب: "لا شك أن المسؤول القضائي الذي نريده اليوم مطلوب منه أن يكون قاضيا متمرسا محنكاً رزيناً، يؤطر العمل القضائي بدائرته ويكرس الأمن ويحمي الحقوق والحريات ويسهر على تطبيق القانون بشكل عادل وداخل آجال معقولة"، موردا في السياق نفسه أن "المسؤول القضائي اليوم ملزم بأن يكون ذا تجربة إدارية تؤهله لتدبير العلاقات مع كافة الفاعلين الإداريين والمؤسسات المشاركة في إنتاج العدالة، وتبسيط الإجراءات والمساطر والمساهمة في ورش التحديث بكل انفتاح وإبداع". وأكمل الرئيس الأول لمحكمة النقض بالقول: "اليوم لم يعد مقبولاً أو مستساغا ذاك المسؤول الذي يلازم كرسيه ويغلق عليه أبواب مكتبه"، ملفتا إلى أنه "لا بد أن يعبر المسؤول القضائي بمغرب اليوم عن إرادة حقيقية وتجاوب فعال مع كل الانتظارات، أي انتظارات المتقاضين والقضاة والمهنيين والمؤسسات وجميع الفاعلين"، وفق تعبير فارس. المسؤول القضائي ذاته توجه إلى المسؤولين القضائيين الجدد قائلا: "ابنوا جسورا للتواصل وحصنوا عملكم بالقيم والممارسات الفضلى، وكرسوا روح الفريق الواحد والأسرة الموحدة، رئاسة ونيابة عامة، قضاة وكتابة ضبط ومهنيي العدالة، فالرهان معقود عليكم اليوم، والأكيد أن ثقتنا كبيرة في قدراتكم ومؤهلاتكم وعزيمتكم، لتكونوا المسؤول القضائي الذي يستحقه مغرب التنمية والأوراش الكبرى". "إن المشاريع التنموية الكبرى التي يقودها جلالة الملك محمد السادس تطالبنا بأن تكون المحاكم اليوم فضاءات لإنتاج عدالة مسؤولة ناجعة فعالة، عدالة قريبة إنسانيا وجغرافيا من الانتظارات، عدالة مؤهلة لمواجهة كافة التعقيدات والصعوبات" يقول فارس، الذي عاد ليؤكد على أن "المحاكم يجب أن تكون محلا لفض النزاعات لا لتعقيدها، وفضاءات لتكريس الثقة والاطمئنان لا الشك والالتباس، وهي أهداف لن نصلها بالأماني أو التسويف والتراخي". وبلغة صارمة، قال المسؤول رفيع المستوى: "إننا أمام استحقاق كبير دقت فيه ساعة الحقيقة وولى فيه عهد اللامسؤولية، لا أحد أكبر من القانون ولا أحد فوق المحاسبة، ولا بد أن تتجند كافة السلطات والقطاعات للتعبير عن إرادة حقيقية من أجل تخويل السادة المسؤولين كل الاحتياجات وتذليل كل العقبات لأننا أمام مشروع مجتمعي يجب أن يساهم فيه الجميع بكل وطنية". وفي السياق نفسه، دعا وزير العدل، محمد أوجار، المسؤولين القضائيين إلى "مضاعفة العمل وتكثيف الجهد من أجل بلوغ الأهداف المسطرة في مجال الإصلاح؛ وذلك في إطار سياسة التعاون التي ستشكل نقطة الارتكاز في علاقة وزارة العدل ورئاسة النيابة والمجلس الأعلى للسلطة القضائية"، مشيرا إلى أن "هذا اللقاء يدفع إلى ضرورة التعاون والتنسيق المستمر بين المجلس الأعلى للسلطة القضائية ووزارة العدل من أجل تحقيق الرؤية المشتركة لمنظومة عدالة تقوم على مبادئ الحكامة الجيدة والنجاعة، عدالة تترجم إرادة الملك محمد السادس، رئيس المجلس الأعلى للسلطة القضائية، الذي وجه لجعل القضاء في خدمة المواطنين". وقال المسؤول الحكومي في كلمته: "إذا كانت استقلالية السلطة القضائية ورئاسة النيابة العامة تمثلان العنوان الأكبر لما أنجزناه إلى حدود اليوم، فإن التحدي الذي نرفعه خلال المرحلة المقبلة في وزارة العدل هو إرساء دعائم قضائية قوية هدفها خدمة المواطن"، قبل أن يلفت إلى أن "وزارة العدل تنكب على تنزيل برنامج طموح يرمي إلى بلوغ المحكمة الرقمية في أفق سنة 2021، حيث قمنا في إطار هذا التنزيل بتطوير منصة المحاميين للتقاضي عن بعد، وهي الخدمة التي انطلق العمل بها في المحكمة التجارية بالدار البيضاء، على أن يتم تعميمها على كافة المحاكم المغربية". وعاد أوجار إلى توجيه رسائله إلى المسؤولين القضائيين الجدد بالقول: "لقد تم انتقاكم من بين أمثل القضاة لما لمس فيهم من تميز وما عرف عليهم من استقامة ونظافة اليد، وما تبث عنهم من كفاءة ونزاهة وحيادية، وما أثير عنهم من خبرة على التأطير وقدرتهم على التواصل وحسن الإنصات لشكاوى المواطنين وحرصهم على التفاعل الايجابي اليومي"، مضيفا: "ستجدون في وزارة العدل ما يلزم من التعاون والتنسيق لتتمكنوا من أداء مهامكم". بدوره، خاطب محمد عبد النباوي، الوكيل العام للملك رئيس النيابة العامة، أعضاء النيابة العامة الجدد قائلا إن "المسؤولية تكليف وليست تشريفا"، مبرزاً أن "المرحلة الحالية تقتضي أن نكون جنودا مجندين وراء جلالة الملك لإتمام ورش إصلاح القضاء، كما تتطلب هذه المرحلة رجالاً ونساء من العيار الثقيل، للانخراط في ورش الإصلاح". واسترسل المسؤول القضائي قائلا: "يجب أن تكونوا قريبين من المواطنين وأن تفتحوا أبوابكم للاستماع لشكاواهم وتظلماتهم، وأن تعملوا على جعل القضاء مستقلاً بعيداً عن الحسابات، لأن المسؤول يجب أن يحل مشاكل التي تقع في دائرته". ويأتي هذا اللقاء التواصلي في إطار التأسيس لمرحلة جديدة من مراحل تدبير الشأن القضائي، وترسيخ الدلالة العميقة والمعنى الحقيقي لاستقلال السلطة القضائية بما يقتضيه تفعيل دستور 2011، وبناء على العزم الراسخ على استكمال لبنات إصلاح منظومة العدالة من خلال الدور المحوري للمسؤول القضائي، الذي يعتبر رقيبا على حسن تطبيق القانون وسلامة الإجراءات والعين الساهرة على مبادئ العدالة والإنصاف.