وزارة الداخلية تكشف عن إجراءات حاسمة لإنهاء الفوضى بقطاع "التاكسيات"    أنفوغرافيك | أرقام مخيفة.. 69% من المغاربة يفكرون في تغيير وظائفهم    منع جمع وتسويق "المحارة الصغيرة" بالناظور بسبب سموم بحرية    صانع المحتوى "بول جايك" يهزم أسطورة الملاكمة "مايك تايسون" في نزال أسطوري    تصفيات "كان" 2025... بعثة المنتخب المغربي تحط الرحال في وجدة استعدادا لمواجهة ليسوتو    أنفوغرافيك | ⁨لأول مرة.. جامعة الحسن الثاني تدخل تصنيف "شنغهاي" الأكاديمي العالمي 2024⁩    مشروع نفق جبل طارق.. خطوة إسبانية جديدة نحو تجسيد الربط مع المغرب    ارتطام وأغدية متطايرة.. حالة من الرعب عاشها ركاب طائرة    فيضانات فالنسيا.. المديرة العامة للوقاية المدنية الإسبانية تعرب عن امتنانها للملك محمد السادس        الملاكم مايك تايسون يخسر النزال أمام صانع المحتوى بول        فريق الجيش الملكي يبلغ المربع الذهبي لعصبة الأبطال الإفريقية للسيدات    السوق البريطاني يعزز الموسم السياحي لاكادير في عام 2024    الوزيرة أشهبار تستقيل من الحكومة الهولندية والمعارضة تعتبره "موقفا شجاعا"    "طاشرون" أوصى به قائد يفر بأموال المتضررين من زلزال الحوز    كيوسك السبت | 800 مليار سنتيم سنويا خسائر الكوارث الطبيعية بالمغرب    توقعات أحوال الطقس اليوم السبت    دراسة تكشف العلاقة بين الحر وأمراض القلب    الأمم المتحدة.. تعيين عمر هلال رئيسا مشاركا لمنتدى المجلس الاقتصادي والاجتماعي حول العلوم والتكنولوجيا والابتكار    مغاربة يتضامنون مع فلسطين ويطالبون ترامب بوقف الغطرسة الإسرائيلية    إقصائيات كأس إفريقيا 2025.. المنتخب المغربي يحقق فوزا عريضا على مضيفه الغابوني (5-1)    توافق وزارة العدل وجمعية المحامين    حملات تستهدف ظواهر سلبية بسطات    "باحة الاستراحة".. برنامج كوميدي يجمع بين الضحك والتوعية    السكوري: الحكومة تخلق فرص الشغل    السكوري يبرز مجهودات الحكومة لخلق فرص الشغل بالعالم القروي ودعم المقاولات الصغرى    "طاقة المغرب" تحقق نتيجة صافية لحصة المجموعة ب 756 مليون درهم متم شتنبر    مقابلة مثالية للنجم ابراهيم دياز …    لقجع: في أجواء التوترات الجيوستراتيجية التي تطبع العالم مافتئ المغرب يؤكد قدرته على التعاطي مع الظروف المتقلبة    حماس "مستعدة" لوقف إطلاق النار في غزة وتدعو ترامب "للضغط" على إسرائيل    سانشيز يشكر المغرب على دعمه لجهود الإغاثة في فالنسيا    مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2025    وزيرة مغربية تستقيل من الحكومة الهولندية بسبب أحداث أمستردام    جائزة المغرب للشباب.. احتفاء بالإبداع والابتكار لبناء مستقبل مشرق (صور)    شراكة مؤسسة "المدى" ووزارة التربية    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    زخات مطرية مصحوبة بتساقط الثلوج على قمم الجبال ورياح عاصفية محليا قوية بعدد من أقاليم المملكة    جورج عبد الله.. مقاتل من أجل فلسطين قضى أكثر من نصف عمره في السجن    خناتة بنونة.. ليست مجرد صورة على ملصق !    المغرب: زخات مطرية وتياقط الثلوج على قمم الجبال ورياح عاصفية محليا قوية اليوم وغدا بعدد من الأقاليم    المهرجان الدولي للفيلم بمراكش يكشف عن قائمة الأسماء المشاركة في برنامج 'حوارات'    حماس تعلن استعدادها لوقف إطلاق النار في غزة وتدعو ترامب للضغط على إسرائيل    "السودان يا غالي" يفتتح مهرجان الدوحة    اقتراب آخر أجل لاستفادة المقاولات من الإعفاء الجزئي من مستحقات التأخير والتحصيل والغرامات لصالح CNSS    هذه اسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    كارثة غذائية..وجبات ماكدونالدز تسبب حالات تسمم غذائي في 14 ولاية أمريكية    الطبيب معتز يقدم نصائحا لتخليص طلفك من التبول الليلي    "خطير".. هل صحيح تم خفض رسوم استيراد العسل لصالح أحد البرلمانيين؟    وكالة الأدوية الأوروبية توافق على علاج ضد ألزهايمر بعد أشهر من منعه    مدينة بنسليمان تحتضن الدورة 12 للمهرجان الوطني الوتار    ارتفاع كبير في الإصابات بالحصبة حول العالم في 2023    ترامب يواصل تعييناته المثيرة للجدل مع ترشيح مشكك في اللقاحات وزيرا للصحة    الإعلان عن العروض المنتقاة للمشاركة في المسابقة الرسمية للمهرجان الوطني للمسرح    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لغز الخزانة المسروقة
نشر في هسبريس يوم 10 - 05 - 2018

وسط غرفة استقبال رفيعة راقية بتأثيث جميل متناسق في مستوى الذوق الراقي الشفيف شِفَّ الحس الأخاذ الذي يأخذك إلى الإعجاب والإبهار بهذا التناسق المرتب المتكامل في أبهى نهاية كماله، صاغته سيدة القصر بذوقها العذب اللائق كأنما نسخته أو نسجته من عذوبة أنوثتها وفورة شخصيتها ومعسول حديثها، داخل هذه القاعة أخذ الزوج صاحب القصر مقعده الوثير وأسند ظهره إلى الخلف إزاء سند المتكأ وقد أخذ غليونه بين أصبعيه يسحب منه نفسا عميقا ثم يُخْرجه دوائر دخان متطايرة في تصاعد كأنما هي قصاصات سحاب تتلاشى في أثير لا متناه، وكانت عيناه متحجرتين في مستوى تلك الدوائر المتصاعدة..كأنما يهفو عبثا إلى معرفة آخر مصيرها.
وكان الصمت يخيم على الجو، هدوءٌ مطبق لا يتبعه همس ولا تحس منه رِكْزاً.
دخلت السيدة ليلى إلى حيث يوجد زوجها السيد ابراهيم، وعند اقترابها منه عند محاذاة المقعد رفع إليها نظره بعينين متثاقلتين وببسمة طفيفة شاحبة بادرها بقوله: "اعذريني عزيزتي، لقد أخذ الجهد من قدرتي نصيبا كبيرا وجرى مجراه في جل مفاصلي وأطرافي، كأني أحس بعدم القدرة على المقاومة بالنهوض لأتخلص من شرك هذا المقعد. لقد أجهدني العمل اليوم ولعل هذا الجهد هو سبب عنائي وإعيائي، فالمستخدمون أضربوا عن العمل واعتصموا بباب المعمل طالبين رفع أجورهم، فما كان لي لتهدئتهم إلا أن استجبت لبعض مطالبهم تفاديا لهذا الاعتصام المتكرر وهذا الإضراب المضني".
وبانحناءة منكسرة ذليلة استلقت زوجته بخصرها بتؤدة وحنو على جنبه وغاصت بعنقها العاجي بين كتفيه ثم رفت في مسمعه بهمس طيع سلس: "لا بأس يا عزيزي، قم واخلع ثياب عملك، وارتدْ منامتك وسآتيك بكوب من عصير الليمون لتنعش برشفه بدنك، ثم في الغد صباحا نناقش موضوع صباغة جدران المسكن، لاسيما جدران غرفة الاستقبال حتى يتلاءم لون الصباغة مع ستائر النوافذ الجديدة التي اقتنيناها مؤخرا". فانقاد السيد ابراهيم مستسلماً لاقتراح زوجته وهز نفسه هزا متثاقلا مضنيا كأنما يهز بدنا مشلولا تحامل عليه بثقله دون حركة أو حياة، فمدت هي يدها تنتشله من هذا الضَّنَى الذي يرزح تحت عبئه ثم ساعدته على ارتداء منامته واندس في فراشه تحت غطائه دون أن ينبس ببنت شفة، وإنما اكتفى بابتسامة خفيفة من طَرْف شفتيه ثم غط في نوم عميق.
وفي الغد كانت الزوجة مستيقظة مع أول شروق الشمس هي والخادمة حليمة وبعض الأعوان الذين يخدمون السيد ابراهيم للعمل على إفراغ كل مرافق الفيلا من الأثاث والرياش والطنافس والأعلاق وغيرها، وتوضيبها في زوايا خاصة حفاظا عليها من كل إزعاج يصيب جودتها وللسماح لعمال الصباغة بالقيام بأشغالهم.
كان ميمون من ضمن المشتغلين بأعمال الطلاء في الفيلا، شاب في مقتبل العمر تظهر عليه مظاهر القوة وشدة العضلات، أثار انتباه الخادمة حليمة، فتاة يافعة نصيبها من الجمال وافر كثير، إذا مرت بجانبه غادية أو رائحة بدلالها المتأنق في حركاتها تكون مسبقا قد تهيأت لذلك بإلقاء نظرة عجلى على هيئتها تشد ثيابها إلى جسدها وتسوي من هندامها وصاحبنا الشاب يعشى بصره ويزيغ نظره فيرتبك ويحتار بعد أن قصفته حليمة بشدة وبدون رحمة بنظرتها المفتونة وببسمتها الفاتنة القاضية.
فكان هذا الإغراء المبهر للعقل كافيا لتشجيع الشاب ميمون على الاقتراب منها والتحدث إليها بأي وجه كان وفي أي شأن كان، فكان لهما ذلك، فالتحمت العلاقة خفية بالمغازلة والمداعبة، كلاهما يشد الآخر إليه.. ومرت الأيام والأعمال متتابعة وقد أشرف العمال على إنهائها.
وكانت السيدة ليلى لماما ما تغادر قصرها إلا ما توجبه الضرورة لإشرافها المكثف على أشغال العمال ومراقبتهم وإبداء ملاحظاتها بخصوص نوعية الطلاء وألوانه وتجانسها، من غير أن يحصل تباين أو تنافر في هذا التجانس يضيق خاطرها ويشعل أعصابها، فالسيدة تحرص حرصا دقيقا على أن تتم صناعة الطلاء صناعة فنية بأساليب التجديد، توجب الإعجاب وتليق بافتنان قصرها الفخم حتى يتم التجاوب بين فن الصناعة وسحر هندسة القصر.
وحدث يوما أن تلقى الزوجان استدعاء إلى حفلة خيرية سيلتقي فيها كبراء المجتمع وشخصيات معروفة، وفي موعد الحفلة ارتدى الزوج رداء السهرة، واستعدت السيدة ليلى لزينتها فارتدت أغلى ما ترتديه امرأة مثلها من لباس يليق بمركزها الاجتماعي، فزادها زهوا واختيالا.. إلا أن القدر أعد للزوجين مفاجأة وأمرا لم يكن متوقعا لديهما في هذا الظرف السعيد، إذ طلعت من الزوجة صرخة ثاقبة بعدما أقبلت على الخزانة وفتحتها لتنشد حليها وجواهرها للتزين بها، إذ بوغتت بما لم تكن تتوقعه، اختفاءُ جل حليها الذهبية ومبالغ مالية محترمة، وما زاد الغرابة في ذهنها وما حاد عن مفهوم عقلها أنها الوحيدة التي تحتفظ بمفتاح الخزانة دون أحد من غيرها، فتساءلت في نفسها: "كيف حدث هذا؟"، هذا غموض خارج عن المألوف !!إذن فمن السارق؟.
الحادث حال دون الذهاب إلى الحفلة الخيرية، انقلب الأمر من جو بهيج إلى جو آخر مُضْنٍ بغيض؛ فالسيدة ليلى رأت أن الموقف معتم لا يبشر ببصيص خير، فالخزانة ليست بها خدوش أو أثر من آثار العنف ولا حتى في مستوى ثقب القفل وهي الوحيدة التي تحوز المفتاح، وفي محاولة يائسة منها نادت على خادمتها حليمة واختلت بها وألقت عليها بعض الأسئلة في موضوع اختفاء حليها وصاغتها في قالب برئ بغية أن تعثر من إجاباتها على بصيص من النور، لكن لم يفتح لها ذلك أي سبيل للوصول إلى نتيجة ما. أما الزوج السيد ابراهيم فأمام هذا الحدث المفاجئ اعتراه دهش شديد وذهول مطبق حال دون تركيزه على موضوع معين أو مخرج لمواجهة هذا الطارئ، فقصره كما يراه حصن منيع وبمدخله حارس، وهو رجل شديد البنية مستيقظ مترصد غليظ الطبع يصعب معه على أي شخص أجنبي ما ولوج باب الفيلا إلا بعد التأكد من هويته مزيدا من الحذر والحيطة، فصاحب القصر يريد أن يأمن على نفسه وعلى عيلته لكونه يعلم أن بعض العمال يريدون الكيد له، ولهذا صعب على السيد ابراهيم أن يتصور غريبا دهم قصره إلى الداخل وكان من وراء اختفاء حلي زوجته، فاستخلص من هذا التصور أنه ليس في وسع أحد أن يدري كيف يحل عقدة هذه السرقة، غير أنه ما لبث أن استرجع هدوءه فأرسل يستدعي البوليس لتحري حقيقة الحادث، وسرعان ما حضر ضابط من رجال المباحث القضائية واطلع على وقائع القضية وظروفها بالاستماع إلى الزوجين والخادمة حليمة، وعاين المكان، ولم يخرج من ذلك ولا من فحص الخزانة بنتيجة تذكر، فالخزانة ليس بها عنف أو خدش ودوَّن ذلك في محضر بتوقيعه وتوقيع الأطراف المستمع إليهم دون أن يختمه أو يحفظه، فالقضية في رأي الضابط لها ذيول مطمورة في عمق اللغز يتعين معها القيام بالبحث والتحري المتواصل للكشف عن سرها ولو أخذ ذلك من الوقت الطويل.
وقُدِّرَ للسيد ابراهيم - بعد أيام قليلة - أن تتفتح له السبل لحل لغز الخزانة، فالمصادفة قد تقترن بها أسباب حاسمة لشق سبل مختفية تحت ستار الأقدار فتجليها واضحة مرئية لتنكشف معها حقيقة الأشياء وينفك عنها ما التف حولها من خيوط اللبس والغموض، فقد حدث في عشية أن استعد السيد ابراهيم لمغادرة مكتبه فأخرج من جيبه حلقة من سلك معدني رقيق مستدير تُعَلق به المفاتيح ليلتقط منها مفتاح باب المكتب لسده وقفله، فإذا بالحلقة تسقط وتنزلق من أصابعه فتتعرض للكسر وتتفرق المفاتيح على الأرض هنا وهناك، ليتجشم عبء جمعها ويدسها متفرقة في جيبه، ثم أقفل باب المكتب وانصرف متوجها مباشرة إلى محل خصيصا لبيع أمثال تلك الحلقة (قِطع العقاقير المعدنية) والذي يشرف عليه ويباشره الشيخ جلال، وهو محل يوجد بذات الشارع الذي يقيم فيه السيد ابراهيم. وبمجرد أن أشرف هذا الأخير على المتجر ورسا سيارته قبالته حتى هب إليه الشيخ جلال مرحبا به لسبق المعرفة بينهما وبحكم قربهما من نفس الشارع فبادله السيد ابراهيم التحية وكشف له عن غرض مجيئه، فضحك جلال قائلا: "ولئن كان مجيئكم يشرفني ويسعدني سيدي ابراهيم أَمِنْ أجل هذا الطلب البسيط طلب حلقة معدنية تجشمتم عناء الطريق من معملكم إلى محلي هذا، وتحملته على مشقته، فالإرهاق كما يبدو قد أخذ منكم مأخذه، وهذا باد على سحنة وجهكم، فكان من الأفضل تفاديا وتحاشيا لهذا الإرهاق أن تبعثوا خادمتكم حليمة لهذا الشأن كما فعلتم سابقا حين بعثتموها لنسخ أحد المفاتيح"؛ فانطلقت تعابير الدهشة على تقاسيم وجه السيد ابراهيم واحتدم وجهه حمرة وارتجت مفاصله رقصا خفيا كأنما تتجاوب انسجاما وتوافقا مع نبضات القلب ودقاته، غير أنه بقي ثابت الجنان ولم يدرك الشيخ جلال من ذلك شيئا فمد يده إلى حلقة وناولها للسيد ابراهيم الذي نقده ثمنها واستقل سيارته عائدا إلى الفيلا وقد عادت إليه غبطته، فقد تفتحت له فعلا السبل لحل معضلة الخزانة، فذهابه إلى محل الشيخ جلال كان تقدما حثيثا في القضية فردد بينه وبين نفسه: "إنها حليمة".
ولج السيد ابراهيم بيته ومباشرة قصد زوجته وقبلها وبشائر وجهه توحي بجديد أدركته الزوجة من خلال انتباهها إلى حركاته وتقاسيم محياه، فبادرته: "ما وراءك؟ أراك خفيفا جذلانا"، فرد عليها منشرحا وهو يلفها حضنا بين ذراعيه: "إنها حليمة صاحبة لغز الخزانة"، فصرخت مرددة مندهشة: "كيف؟". تفاجأت الزوجة بالأمر وبوغتت بما لم تكن تتوقعه، فقص عليها زوجها ما كشف له الشيخ جلال عن سر المفتاح.
ورددت الزوجة: "يا ملعونة هذه ليلتك"، فبادر إليها زوجها: "لا ليس هكذا، اتركي الأمر سرا بيننا، لا تفاجئيها بشيء ما، كلانا يجب أن يعمل في الخفاء بدون أن تتوقع شيئا وإلا سيذهب جهدنا سدى، سنتواصل مع الضابط ونخبره بهذا الظرف الجديد في القضية ليقوم ببحثه في غاية من السرية، فهو أدرى بمهامه وعلينا نحن أن نكون جاهزين لتقديم أي مساعدة له"، فرضخت الزوجة لاقتراحه وهي تشتط غيظا وغضبا.
وفي صباح اليوم الموالي اتصل السيد ابراهيم بالضابط هاتفيا معلنا له حدوث ظرف جديد في القضية، وأبلغه أنه سيوافيه حالا إلى مركز الشرطة، وهناك أنهى إليه تلك المعلومة التي استقاها من الشيخ جلال، فرد عليه الضابط بالقول: "هذه المعلومة جيدة، بل هي قرينة ثابتة بيقين عن كون الخادمة هي الفاعلة. وسنُدوِّن هذا الدليل بالمحضر بالاستماع إلى الشيخ جلال. غير أن هذه القرينة يمكن تعزيزها بدليل أكثرَ حسماً واعتباراً هو الحصول على المفتاح المستنسخ من الجانية ولا يكون إلا ببحث مكان إقامتها"، فرد عليه السيد ابراهيم: "إنها تقيم في مسكني، حيث هيأت لها زوجتي غرفة تقيم فيها وتضع بداخلها كل خصائصها، وأنا آذن لكم بالدخول إلى مسكني للبحث والتفتيش طبقا لما يقتضيه القانون".
وأمام هذا الوضع المتقدم في مراحل القضية أقدم الضابط على إخبار النيابة العامة بظروف الحادث وتطوراته فتلقى منها التعليمات المستلزمة لطبيعة الواقعة، فتحولت عناصر الشرطة بعد ذلك إلى التنقيب في مسكن السيد ابراهيم، فعنيت بالتحري عن مشمولات الغرفة التي تقيم بها الخادمة حليمة، وكان الضابط يسترق النظر إليها، يرقب حركاتها وسكناتها، فكان جسمها يرتعد وقد اعتلى لون بشرتها بصفرة ممتقعة هلعا، واضطربت شفتاها في اهتزاز مرتج كأنما كانت تود أن تتساءل بكلمات لم تجرؤ أن تنبس بها بفعل الجزع ورهبة الموقف. وبعد فترة زمنية غير طويلة أسفر التحري والبحث الدقيق عن العثور على المفتاح مدسوساً في حشو وسادة، فاستله الضابط ومدَّهُ بيده إلى يد سيدة القصر ليلى، وطلب منها فتح الخزانة به للتأكد من استنساخه فعالجت به السيدة قفل الخزانة فانفتح، فتأكد للجميع أنه المفتاح المستنسخ، فتحول الضابط إلى حليمة ساخرا: "من غبائك أنك احتفظت بهذا المفتاح بحوزتك إلى حد الآن ولم تعمدي إلى التخلص منه، وهذه هي الثغرة".
وتم إلقاء القبض على حليمة واقتيدت إلى مركز الشرطة قصد الاستماع إليها، وهناك بدأ الضابط يستفسرها عن كيفية وصول المفتاح إلى حوزتها وواجهها به من جديد، وانهال عليها بكل أنواع الأسئلة عن مصدر هذه الحيازة، فأنكرت وصرحت بأنها تجهل كيفية وصول المفتاح إلى غرفتها بتلك الطريقة وقد يُحْتَمل أن يكون أحد أراد توريطها في هذه القضية فدس المفتاح في الغرفة بتلك الطريقة، لقد أبى عليها عنادها أن تستسلم لأقوال الضابط، غير أن الأخير لما واجهها بالشيخ جلال صاحب محل بيع العقاقير المعدنية وصانع المفاتيح واستنساخها، والذي أكد أن الماثلة أمامه حليمة جاءته يوما وطلبت منه بأمر من سيدتها ليلى استنساخ مفتاح لها وناولته إياه، فعمل على استنساخه دون أن يكون في علمه أن طلب حليمة كان من نسج مكرها وكيدها لسيدتها والاحتيال عليها، فلو شك في ذلك ما أقدم عليه. إثر هذه المواجهة سُقِط في يدها وانهارت، فلا سبيل لها ولا محل للمناورة والمراوغة.
وهكذا استطاع الضابط أن يعرف من تصريحها أنها تعمل بفيلا السيد ابراهيم منذ أكثر من سنة، وقد استقدمها هذا الأخير من عمها الذي كان يكفلها لكون والديها توفيا في حداثة سنها، وتضيف رغم أنها تعيش حياة مستقرة إلا أنها تجد نفسها وحيدة منطوية بشعورها بالفارق الشاسع بين نفسها وبين من هم حولها من أسياد تخدمهم ذليلة منقادة، وهذا كان يحز قلبها ويبث في نفسها الضَّنَى، تستقبل الأوامر والنواهي كنواتئ الأحجار تتكسر على ظهرها فترضخ لها قسرا أو طوعا.. وفي آخر الشهر يرضخون لها من مالهم، يعطونها القليل من كثيره..
إلى أن جاء ميمون من ضمن عملة الصباغة والطلاء ليملأ بئر وحدتها بمعين أنسه فعرفت منه الحب، ونسَجَهُ في نفسها فتلة..فتلة، وربطه في قلبها عقدة..عقدة.. فتوثق الرباط بين قلبيهما في علاقة غرامية مستترة، فتقبلته بكل حسناته وسيئاته، فهي مطبوعة على الرضوخ. فصارحته بكل ظروفها فتقبلها بالأسى والأسف، فتمادت معه في علاقتها حتى أسلمته أعز ما تمتلكه العذراء، فخشي هو من نقمة أسيادها وسارع إليها بالبوح بالاستعداد بالزواج بها وبإخراجها من قيود القصر وإنجادها من أوامر ونواهي أسيادها والابتعاد بها إلى خارج الوطن، فهناك يوجد من يضمن لهما العيش الرغيد من معارفه، وأوضح لها أن هذا يتطلب شيئا من الصبر والتفكير والحاجة المُلِّحة إلى المال، وراح يسعى أمامها في دأب وإلحاح لتحقيق مراده، وهو ما دفعها تقبلا لفكرته وضالته، فشرع ذهنها يصور لها السبل والطرق للخروج من قيود القصر طالما وجدت في الشاب ميمون الرجل الذي يتفق وأحلامها.
وتضيف حليمة في تصريحها أمام الضابط أن حدث يوما وأشغال الطلاء في أوجها أن رن جرس التليفون فأسرعت السيدة ليلى إلى مسك السماعة واستقبلت المكالمة من الجانب الآخر، وشاهدتها وهي تنصت مشدوهة مرتجفة، ثم وضعت السماعة بيد مرتعشة فكان وجهها شاحبا كوجوه الموتى، وكانت خطواتها متعثرة مترنحة؛ وقد علمت من الحديث الذي شاع في أطراف القصر أن شقيقة السيدة ليلى تعرضت لجلطة دماغية ونقلت على وجه السرعة إلى قسم المستعجلات وهي في حالة غيبوبة. إثر هذا الخبر تهيأت السيدة في تَسرُّعٍ واندفاع لمغادرة الفيلا وبادرت في عجلة إلى فتح الخزانة وسحبت من داخلها مجموعة من الأوراق المالية ودستها في جيب ثوبها وسدت الخزانة في تسرع وأسرعت تغادر الفيلا، وسهوا منها وهي في ذلك الاندفاع تركت المفتاح معلقا في ثقب القفل فخرجت مستقلة سيارتها، أما هي فلبثت متسمرة جامدة في مكانها بعد مغادرة سيدتها، ولكن بحس اندفاعي، تلقائي وباطني، الْتفَتَتْ تُحَمْلِقُ بنظراتها في المفتاح، وهنا تَصوَّرَ الضابط نظراتِها كأنما هي حبال ممتدة ملتمعة انطلقت من عينيها لتلتف حول مفتاح الخزانة كما يلتف الأفعوان الأرقش الدقيق على الفريسة أو كحرباء داهية انطلقت بلسانها اللزج لتلتقط به حشرة أو هامة من الهوام، ثم تابعت قائلة إنها أطرقت تفكر هل تقدم أم تحجم، إن نفسها تسعى بها شرا وكلمات ميمون لازالت كالرنين يثقب مسمعها دويا أنه في حاجة مُلِحَّة إلى المال، فقصدت الخزانة وبعجلة سحبت المفتاح وأسرعت به إلى ميمون حيث عمال الطلاء يشتغلون، وبإشارة معلومة منها هب إليها فأطلعته على المفتاح وأنه يخص خزانة سيدتها، وببديهيته أخذ يغريها بأخذه واستنساخه بآخر، منبها إياها أن تعيد المفتاح الأصل إلى ثقب القفل على حالة الوضع التي كان عليها عند مغادرة سيدتها، وعلى ألا تمس شيئا من محتويات الخزانة فالسيدة أكيد حين عودتها ستلاحظ بقاء المفتاح معلقا بباب الخزانة فستتحرى الوضع بالبحث والتنقيب للاطمئنان على ممتلكاتها، وقد طمأنها ميمون أنها لن تتعرض لأي ريبة أو شك طالما أن المفتاح الأصل لازال بحوزة سيدتها ولا علم لها باستنساخه، وأخذ يناشدها أن تبادر إلى معونته حتى يتمكن من الزواج بها والسفر بها بعيدا، فرضخت كالعادة لرغباته.
وانطلقت حليمة مسرعة إلى دكان الشيخ جلال وناولته المفتاح للحصول على بديل مستنسخ منه، مدعية أن ذلك بأمر من سيدتها، فالشيخ جلال- كما تقول- لا يساوره شك في ذلك، فهو على معرفة جيدة منا ونتعامل معه في قضاء الأشياء المرغوب فيها من طرف أهل الفيلا، وعادت توا إلى القصر ووضعت المفتاح الأصل في ثقب القفل كأن شيئا لم يحدث.
وتضيف حليمة أنه في ساعة متأخرة من ذلك المساء سعى إليها ميمون، وكان اجتماعهما في هذه المرة تهييئاً لعملية الاختلاس بوضع التصميم الناجع ليسهل عليها التنفيذ دون أن تتعرض لرقيب أو أن يحدث شيء من انتباه السيدة صاحبة الخزانة، فصمما أن يتم الاختلاس على فترات ويتجدد باستمرار من ليلة إلى أخرى وأهل القصر نيام دون أن ينصب على كل محتويات الخزنة، فاختفاء المبالغ أقساطا أقساطا والحلي قِطعا قِطعا من حين إلى آخر هو عملية لا تثير الشك والارتياب ويصعب معه وقوع الافتضاح.
وخرج الاثنان بهذا التصميم، وشرعت هي في تنفيذ السرقة على مسالك وخطوط التصميم المدروس، وكان ميمون يتسلم من حليمة المسروقات على دفعات كما اتفق عليه أمرهما، ويسعى إليها في دأب وإلحاح مبديا لها مساعيه الجدية للزواج بها وتخليصها من وضعها الحالي.
وأمام هذا الاعتراف من حليمة حمل الضابط الفصل الختامي للقضية، خاصة وقد اهتدى بتنقيبه إلى الاسم الكامل للشريك، وهو ميمون عباس، فعني بالتحري عن ماضيه وسوابقه، حيث مارس كل صلاحياته للبحث عنه في جميع دوائر الشرطة القضائية بعد إشعار النيابة العامة وإنجاز مذكرات البحث في حقه، فتم القبض عليه من طرف رجال شرطة الحدود بالمطار وهو يهم بمغادرة التراب الوطني وتهريب الذهب وأموال من عملة وطنية بطريقة التحايل على التشريعات المعمول بها، فحُجِز منه ذلك.
واستمع ضابط الشرطة إلى ميمون فعرف منه جميع الوقائع والأحداث التي طرحتها له حليمة بكل جزئياتها وتفاصيلها، موضحا أنه استعمل معها طرق وأساليب الاحتيال، إذ استثمر كل طاقاته من أجل التغرير بها وإسقاطها في وَحَل الوهم بتأكيدات خادعة ووعود كاذبة فمكنته من نفسها ومن الحصول على المال والذهب من خزانة سيدتها.
فقفل الضابط محضر البحث، وأحيلت القضية على المحكمة.
وأمام قاضي التحقيق وقفت سيدة القصر ليلى لتعلن أمامه أنها استردت كل حليها الذهبية وجل أموالها لتسترعي انتباه القاضي وتثير دهشته أنها تعفو عن خادمتها حليمة لظروف قاهرة مرت بها، إذ اكتشفت أنها كانت ضحيةَ احتيال واستغلال ماكر من الجاني ميمون وفريسةً بين براثنه، فما كان من القاضي بعد الدرس والتمحيص وسلوك المسطرة المتبعة قانونا إلا أن يقدر الشعور الجميل الصادر من السيدة وقِلَّة حيلة الخادمة ليُفرِج عنها بأمره بالسراح المؤقت، فخرجت وهي تحمل في غيظ كظيم ثمرةَ الزلة في أحشائها التي أنتجتها من طيشها وطيش شاب من حثالة المجتمع.
*رئيس غرفة بمحكمة النقض سابقا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.