- نداء المحبة صرخت لويزة صرخة عالية تردد صداها خارج الفيلا التي تقطنها منذ سنوات على شاطئ البحر. تغير لونها بسرعة ولاحت هائجة وهي تستنجد قائلة إن روحها ستزهق إن لم يسرع أحد إلى إنقاذها. كانت ترتعش على نحو غير معهود حينما دخلت عليها الخادمة. ضمتها إلى صدرها مثل صبية وسألتها عما بها. ردت في ارتباك أن الفأر اللئيم قد عاد إلى البيت وهي رأته بعينيها يخرج من تحت الأريكة ويمشي مزهوا مثل عريس، لكنها لم تعرف أين اتجه وتخشى أن يكون قد دخل إلى غرفة نومها. بإمكانه أن يختفي حيثما شاء دون أن تعلم. الفيلا واسعة، بناها زوجها على الشاطئ كما رغبت. لم يتأخر في بنائها. خلال أشهر قليلة كانت جاهزة على قرب من ماء البحر ورماله اللامعة. لويزة تحب الحياة. كانت دائما تتمنى أن تقيم بالقرب من الشاطئ كي تنعم بالهدوء الذي لم تعثر عليه حتى في الأحياء الراقية التي سكنتها. لكن ما أن استقرت بها أياما حتى فاجأها الفأر البغيض فأفسد راحتها. أسبوع كامل يأتيها بلا موعد، وفي آخر يوم ظنت أنه مات ولن يعود أبدا، و قد رأت الخادمة ذات مساء تدفعه بالمكنسة مثل خرقة ثوب صغيرة رثة ثم تدفنه داخل كيس بلاستيكي أسود وتلقي به من فوق سور الفيلا كأنها تلقي به فوق مزبلة. كانت ما تزال مرتابة فسألتها: - هل الفئران تموت حقا؟ أجابت بيقين تام: - طبعا سيدتي، إنها مخلوقات ضعيفة.ألم تري أن الرجل ما أن وجه إليه ضربة خفيفة حتى همد ولم يتحرك، وأنا رميته بعيدا، والآن قد تكون القطط وزعت أطرافه في ما بينها. - أنا أشك. - لا سيدتي، ثقي في كلامي، أنا متأكدة. إن الفئران تموت كما تموت باقي الكائنات الحية. - و إذن فهي لا تموت بسرعة، لابد لها من وقت طويل كي تموت. - ربما، إنها تتوالد وتتكاثر بسرعة ، كما أنها، وهذا أمر غريب، دائما تفلت من كل محاولات بني آدم حينما يتحايل عليها ليقتلها. ثم أضافت وهي تصغي إليها حائرة: -الفئران عائلة واحدة، إنهم إخوة وأصدقاء وأزواج وكل شيء. توقفت برهة ثم طلبت منها أن تأخذ قسطا من الراحة لتستعيد أنفاسها. الخوف لا محالة سيأتي على حياتها في يوم ما. لم تكن تتوقع أن فأرا صغيرا سيزعجها إلى حد أنها اقترحت على زوجها أن يتركا الفيلا ويعودا إلى الحي الذي كانا يقطنان فيه .هناك، البيت أقل مساحة وعلوا، لكن الفئران لا تدخله . قالت لأنها ربما هي أيضا تفضل الإقامة قرب شاطئ البحر، غير أن الخادمة لم تردد لتصارحها أنها مثل باقي الكائنات تعيش في أي مكان تتعود عليه. زوجها تملكه الغضب وبدا أنه لم يحتمله. سألها مرة أخرى أين اتجه الفأر لعلها تتذكر، لكنها أدارت بصرها يمنة ويسرة وارتعدت كأنما رأت الفئران تلهو في كل الجهات. قالت بعد تفكير طويل لا شك إن اللئيم دخل إلى غرفة النوم. إرتج بقوة وبدا مصفرا عاجزا عن الكلام. - سيد البيت فأر يافع في عز أيامه، أشقر، مليح العينين، ناعم الشعر، حينما رأته الخادمة ابتهجت. كانت بمفردها في الفيلا. قالت له بصوت هادئ ‹› مرحبا بك سيدي، البيت بيتك و أنا خادمتك›› . لم يصبها رعب، بل بدا على ملامحها الاطمئنان واضحا كأنما قدم ليؤنسها. ألقت أمامه جبنة مدورة بيضاء. هو أيضا لم يصبه رعب. مكث واقفا كأنه سمعها ترحب به فارتاح لها. ربما استغرب، لكنه لم يهرب كما تفعل فئران أخرى. سألته إن كان يرغب في فنجان قهوة، فلم يرد عليها أو لعله رد ولم تفهمه، و هي تعلم أن الحيوانات لا يفهم لسانها أحد سوى سيدنا سليمان عليه السلام. قربت منه الجبنة وتراجعت خطوة. رفع رأسه إليها فرأت عينيه اللامعتين. ابتسمت ورددت بسعادة فائقة ‹› مرحبا بك سيدي ، البيت بيتك و أنا خادمتك›› ، و خطت نحوه منحنية كأنما لتقبل رأسه، لكنها سرعان ما أعرضت و عادت لمكانها ببطء. دوى صوت هادر خارج الفيلا. اهتزت الخادمة وجعلت ترتعد وتنظر إلى الفأر الذي لبث جامدا دون أن يعبأ بالصوت الذي شق رأسها فأمسكته وظلت تنصت بانتباه. لم تعرف ماذا حدث. نظرت إلى النافذة ولم تفتحها كي ترى. انتظرت أن يتكرر الصوت فلم يتكرر. ربما حدث ذلك بعيدا، هناك مراكب منتشرة فوق سطح الماء يصطاد أصحابها السمك وأخرى تراقب البحر. عادت لتنتظر إلى الفأر. مازال رابضا بمكانه. تحرك حينما أطالت النظر إليه وتقدم نحو الجبنة وأخذ يقضم أطرافها بخفة. سألته ثانية إن كان يرغب في فنجان قهوة، لم تنتظر جوابه و حاولت أن تعرف من نظراته إن كان يرغب في قهوة أم في شيء آخر. آه.. غاب عنها أنه الآن متعب ويرغب في النوم، ماذا تفعل إذن؟ فأر هادئ وديع، أمثاله نادرون من الحيوانات التي تأتي ضيوفا على بني آدم . هل تفتح له غرفة نوم لويزة؟ هربت بعينيها نحو الباب وجعلت تفكر. بعد لحظات هرعت إلى المطبخ بدل غرفة النوم. لا شك أنه جائع لم يتناول طعاما منذ يوم أو يومين .أحضرت له طبقا من خضر قطعتها إلى أجزاء صغيرة ورشتها بالملح و الخل. وضعته أمامه ورمته بنظرة عطف. بدا مطمئنا وهو يتقدم باعتزاز نحو الطبق. جعل يأكل وهي تراقبه، ولما توقف أخذت تحكي له عن الفئران الذين تعرفت عليهم، فيهم من مات وفيهم من كان صغيرا قد يكون الآن كبر وشاخ. كانت تراهم في بيت والدها الذي تزوره في الأعياد لتزوده ببعض المال، لكنها لم تكرم أحدا كما أكرمته الآن. لم تعرف إن كان فهمها أم لا ، ومع ذلك حذرته من لويزة وزوجها قائلة إنه ضابط له عصا وحذاء أسود ثقيل إذا ضغط عليه يكون كما لو دهسته دبابة فيتحول في رمشة عين إلى عجين، ثم فتحت له باب الغرفة. صدر منه صوت راجف وهو يرى سرير النوم الواسع الأثير وينظر بإعجاب إلى الأواني والستائر والمرايا اللامعة. تسلق الأغطية وأخذ يقفز من ركن لآخر. إبتسمت و ذكرته أنه إذا ما وقع تحت قدم الضابط حوله إلى عجين، ثم تركته وأغلقت عليه باب الغرفة. - محاولة اغتيال كان الضابط قاعدا في الصالة الفسيحة وهو يتصفح جرائد الصباح. عادة يقرأ الإعلانات الادارية وأخبار الجرائم التي تقع بالأحياء النائية. تأخرت الخادمة في إحضار الفطور فنادى عليها بصوت قوي. ردت مرتعبة أنها في أقل من دقيقة ستجهز المائدة. سمعت صرير أسنانه( لاشك فقد صبره) فحملت صينية صفراء مضيئة عليها إبريق قهوة وأطباق حلوى وعسل وزيت الزيتون الذي يجلبه دائما من القرى الجبلية. وضعتها فوق المائدة وابتعدت عنه قليلا ووقفت لعله يطلب منها شيئا آخر. في هذه الأثناء ارتفع صوت لويزة داخل غرفة النوم. رمى الضابط بصره نحو الباب ثم غادر مقعده مسرعا. فتح الباب فرآها تقفز مثل جدي مذعور وتصيح : -فأر..فأر.. -أين هو؟ -لا أعرف. -هل اختفى بين الأغطية؟ -ربما.. مكث يحدق فيها صامتا والخادمة تراقبه دون أن تقول كلمة. ربما تضحك في سرها ساخرة. رأته يدنو من زوجته ويداعبها قائلا إنه لن يتهاون في عقابه واستغرق يلعنه إلى أن ارتدت ملابسها ورافقته إلى الصالة وقد شحب وجهها من شدة الفزع. بدت راضية وهي تصغي إليه يحدث شرطيا ويطلب منه الحضور إلى الفيلا فورا. في رمشة عين وقف شرطي هزيل منتصبا أمامه بلياقة. أخبره بما حدث وأمره بأن يحرص كل المنافذ حتى لا يغدره الفأر ويفلت من العقاب. كانت لويزة ما تزال شاحبة الوجه وهي تحسو قهوة الصباح ببطء والخادمة تذهب وتجيء دون كلام. قام الضابط وهو يشتم الفأر قائلا: - ملعون، يظن الوقح أن بيتي مزرعة تركها له أبوه. ثم تقدم نحو الغرفة مضيفا: - لا يا وقح..بيتي ليس مزبلة . هنا ستكون نهايتك. وراح يفتش عنه. قلب كل أثاث الغرفة. كانت الخادمة تساعده. بغتة نط الفار من بين قدميها فصرخت.إلتفت بسرعة فرآه يندس تحت صوان صغير. حرك الصوان فخرج الفار وحاول أن يفر، لكن الضابط مد حذاءه بدقة عالية وضغط عليه، ثم نظر إليه فرآه هامدا ملطخا بالدم. لم يعد لامعا كما كان بالأمس، لذلك كانت الخادمة حزينة وهي تطرحه خارج الفيلا. - خيبة أمل ضحكت الخادمة هازئة وثبتت بمكانها حتى انفتح الباب. لم يفاجئها الصوت هذه المرة. كان أقل قوة لكنه ملأ كل أرجاء الفيلا. تنهدت وهي تنظر حواليها و تقول بنبرة مرتبكة : - أنا لا أصدق، بدون شك سأجن إذا استمر هذا الوضع في بيتي. اهتزت الخادمة وسألتها عما حصل، ثم راحت تصغي إليها تقول وعيناها مفزوعتان إن الفأر لم يمت وهي رأته يلهو داخل الغرفة. بدا عليها الارتياب وهي تؤكد لها أن الضابط دعسه بحذائه وحوله إلى عجين، و أضافت بعد برهة: - ربما هذا فأر آخر . - لا أظن، إنه هو، أنا عرفته من لونه ونظراته. - هل نام بفراشك؟ - أجل، لقد استغل غياب زوجي ونام قرب رجلي ولم أفطن به، إنه مستهتر، لكنه لين وناعم. ابتسمت الخادمة قائلة: - عجيب أمر هذا الفأر، أمثاله قليلون، لقد بدأ هذا النوع من الفئران في الانقراض، وما تبقى منها لجأ إلى شاطئ البحر. - هل أنت متأكدة؟ - أجل، أنا أعرف أن الناس يصطادونه باستمرار. - هل يأكلون لحمه؟ - لا يا بنتي..إنهم يستعملونه في عمليات السحر. رأت الفأر يطل من باب الغرفة فهربت إلى حضن الخادمة التي طوقتها بذراعها قائلة: - لا تخافي، تعالي لتجلسي هنا وسأتولى أمره. - أطلبي زوجي بالهاتف حالا، لا بد من قتله. - سيدي الضابط قام بواجبه. - ماذا نفعل إذن؟ - لا تقلقي. كان واقفا كما يقف رجل لا يشغل باله شيء. يبدو بالفعل لينا و ناعما. ظل ثابتا بمكانه دون حركة. دنت منه الخادمة وقدمت له قطعة جبن كما فعلت في المرة السابقة. لم يعبأ بها. تأملته لويزة لحظات ثم قالت: - عادة الفئران تخاف، لكن هذا الفار لا يخاف ولا يستحيي.. بدت فجأة متوترة وصدعت بصوت عال: - هذه المرة سأقتله أنا بنفسي. اهتزت و تقدمت منه وهي ما تزال في منامتها الخفيفة . طلبت منه بانفعال أن يغادر البيت قبل أن تقتله. لم يبال بها. حملت عصا وحاولت أن تهوي بها على رأسه، لكنها عدلت ورجته مرة أخرى أن يترك البيت، ومكثت تدور حوله وتهدده إلى أن أوقفتها الخادمة ودعتها إلى أن تنظف أطرافها وتغير ملابسها. أذعنت لها ومضت متدمرة إلى الحمام. كانت تلهث. في هذه اللحظة اقترب الفأر من الجبنة وأخذ يقضمها وهو ينظر في حذر إلى الخادمة مخافة أن تخدعه . بدا لها أنه فقد ثقته فيها، فظلت تراقبه حتى انتهى وأخذت تدنو منه ببطء ، لكنه اهتز وأرسل أزيزا طويلا متصلا واختفى. بحثت عنه طوال النهار، وفي الأيام التالية دون أن تعثر عليه. كانت فضلاته وحدها على هيئة حبات صغيرة سوداء متناثرة في أركان الفيلا، وهي تكنسها وتلقي بها خارج الفيلا كل صباح.