تعتبر الكتابة القصصية شكلا تعبيريا أدبيا يميل في بنائه إلى التركيز على الحدث الواحد والكثافة اللغوية والإحياء والانزياح، أي أنه يقول الكثير دلاليا ولكن باقتصاد سردي... والمجموعة القصصية الموسومةُ ب "هيهات" للقاص المغربي محمد الشايب الصادرة سنة 2011. انتصرت لهذين المبدأين، حيث إن أغلب قصص المجموعة جاءت قصيرة الحجم، وقامت على الحدث الواحد الأساسي، الذي يعضده أحداث جانبية، وتعزز من دلالته وتشيده وتنميه. وقد جاءت المجموعة مكونة من عشر قصص متوزعة على خمسين صفحة من الحجم المتوسط. دراسة العتبات/ العنوان: إن القارئ للمجموعة القصصية ليشده _أول ما يشده_ العنوان، باعتباره العتبة الأولى التي تُسلمنا للنص/ الدار، العتبة التي تعطينا فكرة عمن يسكنه، وما يسكنه، وسنستعير في هذا الباب من الناقد سعيد يقطين قوله أثناء تقديمه لترجمة كتاب "عتبات" لجيرار جينيت." أخبارْ الدار عْلَى بابْ الدار، يقول المثل المغربي، ولا يمكن للباب أن يكون بدون عتبة. تسلمنا العتبة إلى البيت، لأنه بدون اجتيازها لا يمكننا دخول البيت". بناء على هذا المعنى، فإن العنوان يُعتبر مؤشرا خارجيا مهما لطرق النص وسبر أغواره. فما دلالة عنوان المجموعة القصصية؟ لقد جاء العنوان مكونا من لفظة واحدة غير معرفة، والنكرة في اللغة تفيد التعميم والاطلاق، أما على المستوى الدلالي، فإن العنوان يحيلنا على التحسر والخيبة والتمني، فحين يعجز المرء في تحقيق عمل ما ويراه بعيد المنال شائك السبل ملتويَ الشعاب، يجد نفسه يتحسر قائلا: هيهات أن أحقق كذا كذا...، وحين يقمعه الواقع الصَّخري ويكبتُ أهدافه حتى يؤمن بعسر تحقيق أحلامه، يَلفي الإنسان نفسه يقول: هيهات. وإذا ما نحن ربطنا بين دلالة العنوان التركيبية والدلالية، فإننا نستطيع أن نستشف أن العنوان يشير إلى أن شخوص المجموعة تتشارك في هذه الهيهات. فأي الأشياء كانت عصية التحقق على هذه الشخوص السردية يا ترى؟ حين نتجاوز العتبة/العنوان، ونلجُ المتن الحكائي، نجد أنفسنا أمام نصوص متعددة التيمات والرهانات، حيث إن الكاتب قد سلط الضوء، من خلال سارده على ما يتخبط فيه الإنسان من أزمات اجتماعية واقتصادية وعاطفية. فنجده في إحدى قصصه يعري عن العلاقات الأسرية ومكر الإخوة وتنكرهم للدم والآصرة، كما نجد في قصة "ريح يوسف" ونمثل لذلك بهذا الاقتباس. "في كل بيت يولد يوسف/ وفي كل بيت إخوة يلقون به في الجب". ص:5. ويبرز أيضا الفشل العاطفي المتمثل في الحلم بالمرأة المشتهاة، المرأة الحلم، المرأة القصيدة التي طالما حاول أن يمسكها، أن ينالها وأن يظفر بها، وأن يُفرغها قصيدة. " حاولت اللحاق بها، بعدما تسلحت بسلاحي، وتزودت بزادي لكن هيهات، هيهات... "ص: 13. عالجت تيمة الحب في زمن الخراب، الحب المتشظي، وذلك من خلال صورة المرأة الوحيدة، وإن كانت متزوجة، وحيدة في المطبخ والصالة والسرير...، المرأة المهملة في ركن قاتم لتتعفن روحها ويذبل جسدها، والرجل السكير دائم السباب والنقد الساخط على العالم وما في العالم، نموذجين يعكسان الفشل في الحب والحياة معا، زمن يلعب بالإنسان كما يلعب طفل بدمية. "الزمن قادر على أن يفعل فينا كل شيء" ص: 24 كما تسلط المجموعة الضوء على حياة المدينة الوحش، المدينة التي تأكل أولادها وتجعلهم أقرب إلى المومياءات المحنطة، المدينة بوصفها رمزا للاغتراب الروحي، هذا الخواء المخوف، وهذا الحزن الطافح الذي لا يعلم له سببا. "حزينا جدا. سرت في الشارع دون هدف. لم أدري لم أنا حزين !" ص 19. من بين المواضيع المعالجة أيضا في هذه المجموعة، موضوع البطالة التي تنخر المجتمع المغربي وتقتل الأمل في نفوس شبابه، البطالة التي تؤدي إلى ظاهرة "الحريك" مباشرة وخيبة أمل جيل بكامله، جيل لم يجد في وطنه كسرة حرية، كسرة خبز، فاختار معانقة البحر آملا في حياة أفضل. "عزيز وعائشة لاذا بهذه المدينة. _برشلونة_ هي تزوجت برجل في سن أبيها وهو يبحث عن امرأة في سن أمه يتزوجها..." ص: 35. كما عالجت المجموعة كذلك، الهجرة من البادية إلى المدينة، البادية بطبيعتها الخلابة وحقولها اللامتناهية والحنين الذي يملأ القلب والصور التي تطفح بها الذاكرة. هجرة إلى المدينة التي تسرق من الإنسان عفويته وبدواته وتُصيِّره إنسانا آليا يعيش حياة رتيبة كئيبة. " تعال وانظر كيف تدحرج الأيام ابن عمك ! سير، آجي، ليل نهار، صباح، عشية، أول الشهر آخر الشهر، تخلص خلص، الخدمة، الدار، الجريدة، النقابة، سير أجي، لا نافيط كول، اشرب، آر، اركب انزل انعس فيق، الكرة، اربح اخسر، ولا منتهى ..."44. التناص في المجموعة القصصية هيهات: لقد حاولنا أن نَطرق المجموعة القصصية، مركزين على التيمات/ الموضوعات، ووقفنا عند بعضها فقط، باعتبارها نماذج تمثيلية لما أماطت عنه اللثام هذه المجموعة. لكن لا يفوتنا أن نشير إلى البناء الفني لهذه المجموعة القصصية، بناء تميز بلغة مكثفة مشحونة الدلالة، وذات طابع شعري حيث لعبت الصور البلاغية (تشبيه، استعارة، مجاز) والصور البديعية.(تكرار جناس، سجع، طباق ومقابلة...) أدوارا غاية في الأهمية في حمل الدلالات والرسائل إلى المتلقي، بغية التأثير فيه. وتميزت أيضا بحضور التناص بشكل مكثف. وسنقف في هذا المبحث عند بعض تجلياته، والتناص يعد عنصرا موجودا في كل الأعمال الأدبية، وهذا طبيعي جدا، بل وضروري. حتى أن الناقد الأدبي رولان بارت يعتبر." التناصِّية قدر كل نص مهما كان جنسه". وسنمثل لهذه الظاهرة ببعض المقاطع السردية مثل ما جاء على لسان السارد في قصة ريح يوسف. " لا أنا رأيت أحد عشر كوكبا، والشمس والقمر لي ساجدين، ولا أنا الذي قالت لي امرأة العزيز، هيت لك. " ص 6. جليٌّ من خلال هذا المقطع السردي أن هناك تناصا مع القرءان وقصة النبي يوسف. أما المثال الثاني الذي سنورده في هذا الباب، فهو تناص مع الشعر، حيث نجد في موضع آخر من المجموعة القصصية. " وأخير كتبتها... هيفاء كالنغمات، وتهب الريح في عينيها موج من الضياع..... عجزاء تدبر، فتتبعها لأغاني..." بين هنا أن بين هذه الجمل السردية تناص مع قصيدة، كعب بن زهير "بانت سعاد". ويبقى أن نشير إلى أن التناص وسيلة مهمة في الكتابة الأدبية، وخاصة السردية، حيث يلعب دورا تواصليا، وحواريا بمفهوم _ميخائيل باختين- الذي يعتبر أن كل النصوص تدخل في علاقات تواصلية وتحاورية، ولا يمكن أن نجد نصا بكرا صافيا من أي آثار لنصوص سابقة. هذا العلاقة التَّحاورية هي التي تعكس تعدد الأصوات التي بدورها، تعكس تعدد الرؤى والمواقف والأيديولوجيات والعقائد... الرمز والأسطورة في المجموعة القصصية هيهات: أشرنا آنفا، إلى أن المجموعة القصصية طرقت تيمات مختلفة باختلاف قضايا المجتمع، وتوسلت بالتناص كي تعبر عن هذه التيمات بشكل مختلف ومتعدد، لكننا نشير في هذا الصدد، أن القارئ لهذه المجموعة، سيلاحظ حضورا بارزا للرمز والأسطورة. وسنمثل لبعض هذه الرموز، بيوسف في قصة "ريح يوسف" وسريرة اخوته المكائدية، الرمز الذي يحيل على درجة خبت الإنسان وطبيعته الشريرة من جهة (الاخوة). وعلى الصفاء والقدرة على العفو والانتصار للحب (يوسف). من جهة ثانية. كما أننا نجد رمز التفاحة، في قصة "شجرة التفاح" التي ترمز للخطيئة الأولى، تلك الخطيئة التي كانت سببا في نزول/سقوط البشرية من العالم العُلوي، إلى العالم السفلي، التفاحة التي تحيل على ضعف الإنسان أمام شهواته وغرائزه... إنها ترمز لقابلية الإنسان، سليقة وجبلة لاقتراف الخطايا وامتطاء الزلات... أما فيما يخص الأسطورة فإننا نمثل لها بأسطورة نرجس، التي نجد أن الكاتب عنون إحدى قصص المجموعة بها، وتحيل هذه الأسطورة إلى الجمال والغرور والأنانية، حيث إن اعتزاز نرجس وحبه لذاته، واعتقاده ألا أحد يكافئه أو يُضاهيه، جعله يقاتل نفسه المعكوسة في بركة ماء، إنها الأنانية القاتلة... إن توظيف الأسطورة والرمز، عنصرين مهمين في الأدب، حيث أنهما قادران على تمرير عديد الرسائل المُضمرة، والثَّاوية فيهما، كما أنهما يعكسان اطلاع الأديب وانفتاحه على الثقافات بمختلف تلاوينها... لقد حاولنا في هذه الدراسة الأولية أن ندرس المجموعة القصصية "هيهات" للكاتب المغربي محمد الشايب، واقفين على مضامينها المتعددة، وطرق تشكل بنائها الفني، كما حاولنا أن نرصد طريقة تشكل السرد فيها والعناصر التي اتكأ عليها الكاتب في بناء أحداثه، وانطاقِ شخوصه التي تعبر عن قضايا المجتمع المغربي على وجه التحديد، والعربي على وجه التعميم. ويمكننا في الأخير، بناء على ما تقدم، أن نشير إلى أن الكاتب استطاع أن يعالج الكثير من التيمات التي تؤرق المجتمع بطريقة أدبية تنم عن تمكنِ من الجنس الذي اختاره أن يكون نافذته على العالم والقراء.